سؤال العافية في الدنيا والآخرة

عباد الله ، العافيةُ من أعظمِ نعمِ اللهِ على عبادِهِ بعد نعمةِ الإيمانِ والإسلامِ ، والعافيةُ أن يعافيَك اللهُ ، أيها العبدُ لله ، من سُقْمٍ أو بلية ، وهي الصحةُ ضدَّ المرضِ في الدنيا ، ويدخلُ في معناها عفوُ اللهِ تعالى عن الذنوب ، وأمَّا المعافاةُ فهي أن تستغنيَ عن الناسِ ويَستغني الناسُ عنك ، وأن تعفوَ عنهم ويعفون عنك .
يالها من نعمةٍ عظيمةٍ لا تُقَدَّرُ بثمن ، فقبل أنْ تولدَ وتخرجَ إلى الدنيا اختاركَ اللهُ - عز وجل - لتكونَ من مخلوقاتِهِ ، وأكرمك أكثرَ من ذلك فجعلَكَ واحدًا من بني آدم ، واختارك لهذا الزمان ابنًا لأبوين مسلمين ناطقين بالعربية .
أحلَّ رُوَحَكَ في شِكْلٍ مناسب ، وعافاك من كثيرٍ من الأمراضِ الخِلقيةِ قبل أن تبدأ رحلتَك على الأرض ، واستمر فضلُه عليك حتى يومك هذا ، استمر فضلُهُ عليك في نعمةِ العافيةِ ، فقد حفظك طِيلةَ سنواتِ عُمُرِكَ الماضيةِ من الإصابةِ بأمراضِ كثيرة ، وإذا ما أردت أن تعرف حجم هذا الحفظ ، فتأملْ كلَّ صاحبِ مرضٍ قد عافاك اللهُ منه ، أو صاحبَ بليةٍ قد عافاك الله منها ، كلُ ذلك يُذكرك بمدى فضلِ اللهِ عليك .
مئاتٌ بل آلافُ الأمراضِ التي تصيبُ أجهزةَ الجسمِ وأعضاءَهُ المختلفة قد عافاك الله منها .
لو علمت عَدَدَ الفيروساتِ والكائناتِ الدقيقةِ ومُسَبَّباتِ الأمراض التي تحيط بك ، وتسببُ أمراضًا خطيرة ، والتي لا يمنعُها من مهاجمتِك إلا اللهُ - عز وجل - ، لَهَرَعْتَ إلى السجودِ الطويلِ شاكرًا لله - عز وجل - على حفظِهِ وعافيتِهِ لك منها طِيلةَ هذه السنين ، ولَسَألْتَهُ دوامَ وتمامَ العافيةِ أبدًا ولم تسألْ غيرَها .
لذا قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) [الأحزاب 9] ، (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [النحل18] .
سيروا في الأرضِ ، عبادَ الله ، رحلاتِ اعتبارٍ بالذهابِ إلى الأماكنِ التي يَتواجدُ فيها أهلُ البلاءِ كالمستشفياتِ والملاجئِ ، ودورِ الأيتامِ وأصحابِ الاحتياجاتِ الخاصة وغيرها – نسأل الله أن يرفع عن إخواننا المسلمين لك بلاء وفتنة - ، لتدركوا حجمَ النِّعمِ العظيمةِ التي أمدنا اللهُ بها وأغدق بها علينا . وحبذا لو اصطحبنَا الأهلَ والأولادَ ليدركوا معنا عظيمَ فضلِ الله علينا .
زوروا السجون يومًا لتعرفوا قيمةَ نعمةِ الحرية .
زوروا أقسامَ الحروقِ والكسورِ وأصحابِ الحالاتِ الحرجةِ لتدركوا قيمةَ نعمةِ العافية . كم من الناس من لا يستطيع النظر ، وأنت تبصر ، كم من الناس من لا يستطيع الكلام وأنت تتكلم ، كم من الناس من لا يستطيع الحركة وأنت تتحرك في كل مكان كيفما تشاء ودون حاجة لأحد ، كم من الناس من لا يستطيع النوم من الآلام ، وأنت تنامُ قرير العين هانئا ، كم من الناس من لا يستطيع الأكل ولا الشرب ، وأنت تأكل وتشرب هنيئا مريئا ، كم وكم .
تخيل نفسك ، وأنت تشاهدُ الأخبار، مكانَ أصحابِ المجاعاتِ والزلازلِ والحروبِ والنكباتِ ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) ، يا رب ، لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وجهكِ وعظيمِ سلطانك .
عباد الله ، الدُّعَاءُ بِالعَافِيَةِ لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَدْعِيَةِ ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ شَيْءٌ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُدْعَى بِهِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ , كم من الناسِ من يدعو لأجل الدنيا ، وينسى الدعاءَ بالعافية ، وما تنفعُ الدنيا بدون عافية ، فالعَافِيَةُ دِفَاعُ اللَّهِ عَنْ العَبْدِ , فَالدَّاعِي بِهَا قَدْ سَأَلَ رَبَّهُ دِفَاعَهُ عَنْ كُلِّ مَا يؤذي العبد , الدُّعَاءُ بِالعَافِيَةِ تَحْرِيكٌ لِهِمَمِ الرَّاغِبِينَ عَلَى مُلَازَمَتِهِ وَأَنْ يَجْعَلُوهُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ إِلَى رَبِّهِمْ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَيُسْتَدْفَعُونَ بِهِ فِي كُلِّ مَا يُهِمُّهُمْ .
لقد أرشدنا نبينُا – صلى الله عليه وسلم - إلى سؤالِ اللهَ تعالى العفوَ والعافيةَ والمعافاة ، فعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ : لم يكن رَسُولُ الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعْوَات حِين يُمْسِي وَحين يصبح : (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك العَافِيَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك العَفو والعافية فِي ديني ودنياي ، وَأَهلي وَمَالِي ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عورتي ، وَقَالَ عُثْمَان وَهُوَ ابْن أبي شيبَة : عوراتي ، وآمن روعاتي ، اللَّهُمَّ احفظني من بَين يَدي ، وَمن خَلْفي ، وَعَن يَمِيني ، وَعَن شمَالي ، وَمن فَوقِي ، وَأَعُوذ بعظمتِك أَن أُغتالَ من تحتي)) قَالَ وَكِيع وَهُوَ ابْن الْجراح : يَعْنِي الْخَسْف . صحيح ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظ لَهُ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه .
وقد بَدَأَ - صلى الله عليه وسلم – صباحَهُ ومساءَهُ ، بهذا الدعاءِ العظيمِ بسُؤالِ اللهِ العافية في الدنيا والآخرة . وسؤالُ العافيةِ في الدِّين فهو طلبُ الوقاية من كلِّ أمرٍ يَشِينُ الدِّينَ أو يُخِلُّ به ، وأمَّا في الدنيا فهو طَلَب الوقاية من كلِّ أمرٍ يَضُرُّ العبدَ في دنياه مِن مُصيبة أو بَلاء أو ضَرَّاء أو نحو ذلك ، وأمَّا في الآخرة فهو طَلَبُ الوقايةِ من أَهوالِ الآخرةِ وشدائدِها وما فيها من أنواع العقوبات ، وأمَّا في الأهل فبِوِقَايَتِهم مِن الفتَن وحِمايَتِهم من البَلاَيَا والمحن ، وأمَّا في المال فبِحفظِه مِمَّا يُتْلِفُه مِن غَرَقٍ أو حَرْقٍ أو سَرِقَةٍ أو نحو ذلك ، فجَمَع في ذلك سؤالَ الله الحفظَ من جَميع العَوارِض المُؤْذِيَة والأخطار المُضِرَّة.
في سننِ الترمذي ، وابنِ ماجةَ عن أنس - رضي الله عنه - ، أن رجلاً جاء إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله أيُّ الدعاءِ أفضل ؟ قال : (( سَلْ رَبَّكَ العافِيَةَ وَالمُعافاةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ )) ، ثم أتاه في اليوم الثاني ، فقال : يا رسولَ الله ، أيُّ الدعاء أفضل ؟ فقال له مِثْلُ ذلكَ ، ثم أتاه في اليوم الثالث ، فقال له مِثْلُ ذلكَ ، قال - صلى الله عليه وسلم – : (( فإذَا أُعْطِيتَ العافِيَةَ في الدُّنْيا وأُعْطِيتَها في الآخرة فَقَدْ أفْلَحْت )) . قال الترمذي : حديث حسن .
في سننِ الترمذي ، عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه – قال : قلت: يا رسول الله ، علمني شيئًا أسألُهُ اللهَ تعالى ، قال : (( سَلُوا اللهَ العافِيَةَ )) فمكثت أياماً ثم جئت ، فقلتُ : يا رسولَ الله علمني شيئًا أسألُهُ اللهَ تعالى ، فقال : (( يا عَبَّاسُ يا عَمَّ رَسُول اللَّهِ ، سَلُوا اللَّهَ العافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرَة )) قال الترمذي : هذا حديث صحيح .
وعن أنس - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : (( لا يُرَدُّ الدُّعاءُ بَينَ الأذَانِ والإِقامَةِ )) رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" ، قال الترمذي : حديث حسنٌ صحيح ، وزاد الترمذي في روايته في كتاب الدعوات من "جامعه" : قالوا : فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: ((سَلُوا اللهَ العافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ )) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما - ، أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ قَالَ : اللهُمَّ إِنَّكَ خَلَقْتَ نَفْسِي ، وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا ، لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا ، إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا ، وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا ، اللهُمَّ أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ ، فَقَالَ رَجُلٌ : سَمِعْتَ هَذَا مِنْ عُمَرَ ؟ فَقَالَ : " مِنْ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ ، مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " . رواه مسلم .
سؤالُ اللهَ العافيةَ المطلقةَ من الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ والغفلةِ والأمراضِ والأسقامِ والفتنِ ، وفعلِ ما لا يحبُّه وتركِ ما يُحبه ، هذه حقيقةُ العافية ، ولهذا ما سُئل الرَّبُّ شيئاً أحبَّ إليه من العافية ، لأنَّها كلمةٌ جامعةٌ للتخلُّصِ من الشَّرِّ كلِّه وأسبابِهِ ، ومِمَّا يدلُ على هذا ، ما رواه البخاري في الأدبِ المفرد وغيرُه ، عن شَكَلِ بنِ حُميد - رضي الله عنه – قال : قلت يا رسول الله ! علِّمني دعاءً أنتفعُ به ، قال : (( قل اللَّهمَّ عافنِي من شَرِّ سَمعي وبصري ولساني وقلبِي وشَرِّ مَنِيِّي )) .
فهي دعوةٌ جامعةٌ وشاملةٌ للوقاية من الشرور كلِّها في الدنيا والآخرة .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال : سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا اليَوْمِ مِنْ عَامِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ اسْتَعْبَرَ أَبُو بَكْرٍ وَبَكَى ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ : (( لَمْ تُؤْتَوْا شَيْئًا بَعْدَ كَلِمَةِ الْإِخْلاصِ مِثْلَ الْعَافِيَةِ، فَاسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ )) صحيح لغيره ، رواه أحمد ، أبو يعلى ، والنسائي في عمل اليوم والليلة ، وغيرهم .
قال مطرِّف بن الشِّخِّير : لأن أُعافى فأشكر ، أحبُّ إليَّ من أن أبتلى فأصبر ، وقال رحمه الله : ونظرت في النعمةِ التي لا يشوبها كدرٌ فإذا هي العافية .
رأيتُ البلاءَ كَقَطْرِ السَّماء ... وما تنبتُ الأرضُ من ناميه
فلا تسألنّ : إذا ما سألت ... إلهَكَ شيئاً سوى العافية
بارك الله ........

الخطبة الثانية :
جاء عند الترمذي أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: ((من رأى مبتلى فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً لم يصبه ذلك البلاء)) ، فمن المشروع إذًا أن تسأل الله تعالى العافية – أخي المسلم - صباح مساء ، وأن تحمد الله تعالى على العافية ، إذا رأيت مبتلى في الدين ، أو في بدنه ، أو في ماله ، وكم يمر الناس على أهل البدع والكفر والمعاصي والذنوب ولا يحمدون الله على العافية ، فهذا الذي يتعامل بالربا ، أو يأخذ الرشوة ، أو يبيع المحرمات أو يتعامل بها ، فهؤلاء وغيرُهم مبتلون ، نحمد الله تعالى أن عافانا مما ابتلاهم به ، ونسأله تعالى العافية .
فاتقوا الله عباد الله، وسلوا الله تعالى العافية ، عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها - ، قَالَتْ : " لَوْ عَلِمْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا إِلَّا الْعَافِيَةَ حَتَّى أُصْبِحَ " ، فاحفظوا نعم الله عليكم بالعمل الصالح ، فالبِرُّ لا يَبْلَى ، والإثْمُ لا يُنْسَى ، والديان لا ينام ، وكما تدين تدان .
قال أبو سليمان الداراني – رحمه الله - : " من صَفَّى ، صُفِّيَ له ، ومن كدر ، كدر عليه ، ومن أحسن في ليله ، كوفئ في نهاره ، ومن أحسن في نهاره ، كوفئ في ليله ".
ومن سره أن تدوم له العافية ، فليتق الله -عز وجل .
المشاهدات 8907 | التعليقات 5

لافض فوك ولاعدمك محبوك ياشيخ
كلام يخط بماء الذهب
اسأل الله ان يبارك في القول والعمل وان ينفع بهذه الخطبه قائلها وناقلها وقارئها
وجزاكم الله خيرا


جزاكم الله خيرا يا شيخ راشد وبارك فيكم .


اللهم إنا نسألك العفو والعافية .جزبت خيرا


اللهم إنَّا نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة
خطبة عظيمة ومفيدة
تشكر عليها.
تنبيه: فيها حديثان ضعيفان، ضعفهما الألباني وغيره.

- زيادة الترمذي: فإذَا أُعْطِيتَ العافِيَةَ في الدُّنْيا وأُعْطِيتَها في الآخرة فَقَدْ أفْلَحْت

- وزاد الترمذي في روايته في كتاب الدعوات من "جامعه" : قالوا : فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: ((سَلُوا اللهَ العافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ ))


جزاكم الله خيرا يا شيخ ناصر ، أردت أن أنبه على ذلك منذ اسبوع لكن سبقتنا بالأجر ، وفقك الله ورعاك .