سؤال العافية في الدنيا والآخرة
ضيدان بن عبد الرحمن اليامي
يالها من نعمةٍ عظيمةٍ لا تُقَدَّرُ بثمن ، فقبل أنْ تولدَ وتخرجَ إلى الدنيا اختاركَ اللهُ - عز وجل - لتكونَ من مخلوقاتِهِ ، وأكرمك أكثرَ من ذلك فجعلَكَ واحدًا من بني آدم ، واختارك لهذا الزمان ابنًا لأبوين مسلمين ناطقين بالعربية .
أحلَّ رُوَحَكَ في شِكْلٍ مناسب ، وعافاك من كثيرٍ من الأمراضِ الخِلقيةِ قبل أن تبدأ رحلتَك على الأرض ، واستمر فضلُه عليك حتى يومك هذا ، استمر فضلُهُ عليك في نعمةِ العافيةِ ، فقد حفظك طِيلةَ سنواتِ عُمُرِكَ الماضيةِ من الإصابةِ بأمراضِ كثيرة ، وإذا ما أردت أن تعرف حجم هذا الحفظ ، فتأملْ كلَّ صاحبِ مرضٍ قد عافاك اللهُ منه ، أو صاحبَ بليةٍ قد عافاك الله منها ، كلُ ذلك يُذكرك بمدى فضلِ اللهِ عليك .
مئاتٌ بل آلافُ الأمراضِ التي تصيبُ أجهزةَ الجسمِ وأعضاءَهُ المختلفة قد عافاك الله منها .
لو علمت عَدَدَ الفيروساتِ والكائناتِ الدقيقةِ ومُسَبَّباتِ الأمراض التي تحيط بك ، وتسببُ أمراضًا خطيرة ، والتي لا يمنعُها من مهاجمتِك إلا اللهُ - عز وجل - ، لَهَرَعْتَ إلى السجودِ الطويلِ شاكرًا لله - عز وجل - على حفظِهِ وعافيتِهِ لك منها طِيلةَ هذه السنين ، ولَسَألْتَهُ دوامَ وتمامَ العافيةِ أبدًا ولم تسألْ غيرَها .
لذا قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) [الأحزاب 9] ، (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [النحل18] .
سيروا في الأرضِ ، عبادَ الله ، رحلاتِ اعتبارٍ بالذهابِ إلى الأماكنِ التي يَتواجدُ فيها أهلُ البلاءِ كالمستشفياتِ والملاجئِ ، ودورِ الأيتامِ وأصحابِ الاحتياجاتِ الخاصة وغيرها – نسأل الله أن يرفع عن إخواننا المسلمين لك بلاء وفتنة - ، لتدركوا حجمَ النِّعمِ العظيمةِ التي أمدنا اللهُ بها وأغدق بها علينا . وحبذا لو اصطحبنَا الأهلَ والأولادَ ليدركوا معنا عظيمَ فضلِ الله علينا .
زوروا السجون يومًا لتعرفوا قيمةَ نعمةِ الحرية .
زوروا أقسامَ الحروقِ والكسورِ وأصحابِ الحالاتِ الحرجةِ لتدركوا قيمةَ نعمةِ العافية . كم من الناس من لا يستطيع النظر ، وأنت تبصر ، كم من الناس من لا يستطيع الكلام وأنت تتكلم ، كم من الناس من لا يستطيع الحركة وأنت تتحرك في كل مكان كيفما تشاء ودون حاجة لأحد ، كم من الناس من لا يستطيع النوم من الآلام ، وأنت تنامُ قرير العين هانئا ، كم من الناس من لا يستطيع الأكل ولا الشرب ، وأنت تأكل وتشرب هنيئا مريئا ، كم وكم .
تخيل نفسك ، وأنت تشاهدُ الأخبار، مكانَ أصحابِ المجاعاتِ والزلازلِ والحروبِ والنكباتِ ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) ، يا رب ، لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وجهكِ وعظيمِ سلطانك .
عباد الله ، الدُّعَاءُ بِالعَافِيَةِ لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَدْعِيَةِ ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ شَيْءٌ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُدْعَى بِهِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ , كم من الناسِ من يدعو لأجل الدنيا ، وينسى الدعاءَ بالعافية ، وما تنفعُ الدنيا بدون عافية ، فالعَافِيَةُ دِفَاعُ اللَّهِ عَنْ العَبْدِ , فَالدَّاعِي بِهَا قَدْ سَأَلَ رَبَّهُ دِفَاعَهُ عَنْ كُلِّ مَا يؤذي العبد , الدُّعَاءُ بِالعَافِيَةِ تَحْرِيكٌ لِهِمَمِ الرَّاغِبِينَ عَلَى مُلَازَمَتِهِ وَأَنْ يَجْعَلُوهُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ إِلَى رَبِّهِمْ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَيُسْتَدْفَعُونَ بِهِ فِي كُلِّ مَا يُهِمُّهُمْ .
لقد أرشدنا نبينُا – صلى الله عليه وسلم - إلى سؤالِ اللهَ تعالى العفوَ والعافيةَ والمعافاة ، فعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ : لم يكن رَسُولُ الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعْوَات حِين يُمْسِي وَحين يصبح : (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك العَافِيَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك العَفو والعافية فِي ديني ودنياي ، وَأَهلي وَمَالِي ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عورتي ، وَقَالَ عُثْمَان وَهُوَ ابْن أبي شيبَة : عوراتي ، وآمن روعاتي ، اللَّهُمَّ احفظني من بَين يَدي ، وَمن خَلْفي ، وَعَن يَمِيني ، وَعَن شمَالي ، وَمن فَوقِي ، وَأَعُوذ بعظمتِك أَن أُغتالَ من تحتي)) قَالَ وَكِيع وَهُوَ ابْن الْجراح : يَعْنِي الْخَسْف . صحيح ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظ لَهُ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه .
وقد بَدَأَ - صلى الله عليه وسلم – صباحَهُ ومساءَهُ ، بهذا الدعاءِ العظيمِ بسُؤالِ اللهِ العافية في الدنيا والآخرة . وسؤالُ العافيةِ في الدِّين فهو طلبُ الوقاية من كلِّ أمرٍ يَشِينُ الدِّينَ أو يُخِلُّ به ، وأمَّا في الدنيا فهو طَلَب الوقاية من كلِّ أمرٍ يَضُرُّ العبدَ في دنياه مِن مُصيبة أو بَلاء أو ضَرَّاء أو نحو ذلك ، وأمَّا في الآخرة فهو طَلَبُ الوقايةِ من أَهوالِ الآخرةِ وشدائدِها وما فيها من أنواع العقوبات ، وأمَّا في الأهل فبِوِقَايَتِهم مِن الفتَن وحِمايَتِهم من البَلاَيَا والمحن ، وأمَّا في المال فبِحفظِه مِمَّا يُتْلِفُه مِن غَرَقٍ أو حَرْقٍ أو سَرِقَةٍ أو نحو ذلك ، فجَمَع في ذلك سؤالَ الله الحفظَ من جَميع العَوارِض المُؤْذِيَة والأخطار المُضِرَّة.
في سننِ الترمذي ، وابنِ ماجةَ عن أنس - رضي الله عنه - ، أن رجلاً جاء إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله أيُّ الدعاءِ أفضل ؟ قال : (( سَلْ رَبَّكَ العافِيَةَ وَالمُعافاةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ )) ، ثم أتاه في اليوم الثاني ، فقال : يا رسولَ الله ، أيُّ الدعاء أفضل ؟ فقال له مِثْلُ ذلكَ ، ثم أتاه في اليوم الثالث ، فقال له مِثْلُ ذلكَ ، قال - صلى الله عليه وسلم – : (( فإذَا أُعْطِيتَ العافِيَةَ في الدُّنْيا وأُعْطِيتَها في الآخرة فَقَدْ أفْلَحْت )) . قال الترمذي : حديث حسن .
في سننِ الترمذي ، عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه – قال : قلت: يا رسول الله ، علمني شيئًا أسألُهُ اللهَ تعالى ، قال : (( سَلُوا اللهَ العافِيَةَ )) فمكثت أياماً ثم جئت ، فقلتُ : يا رسولَ الله علمني شيئًا أسألُهُ اللهَ تعالى ، فقال : (( يا عَبَّاسُ يا عَمَّ رَسُول اللَّهِ ، سَلُوا اللَّهَ العافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرَة )) قال الترمذي : هذا حديث صحيح .
وعن أنس - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : (( لا يُرَدُّ الدُّعاءُ بَينَ الأذَانِ والإِقامَةِ )) رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" ، قال الترمذي : حديث حسنٌ صحيح ، وزاد الترمذي في روايته في كتاب الدعوات من "جامعه" : قالوا : فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: ((سَلُوا اللهَ العافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ )) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما - ، أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ قَالَ : اللهُمَّ إِنَّكَ خَلَقْتَ نَفْسِي ، وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا ، لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا ، إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا ، وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا ، اللهُمَّ أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ ، فَقَالَ رَجُلٌ : سَمِعْتَ هَذَا مِنْ عُمَرَ ؟ فَقَالَ : " مِنْ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ ، مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " . رواه مسلم .
سؤالُ اللهَ العافيةَ المطلقةَ من الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ والغفلةِ والأمراضِ والأسقامِ والفتنِ ، وفعلِ ما لا يحبُّه وتركِ ما يُحبه ، هذه حقيقةُ العافية ، ولهذا ما سُئل الرَّبُّ شيئاً أحبَّ إليه من العافية ، لأنَّها كلمةٌ جامعةٌ للتخلُّصِ من الشَّرِّ كلِّه وأسبابِهِ ، ومِمَّا يدلُ على هذا ، ما رواه البخاري في الأدبِ المفرد وغيرُه ، عن شَكَلِ بنِ حُميد - رضي الله عنه – قال : قلت يا رسول الله ! علِّمني دعاءً أنتفعُ به ، قال : (( قل اللَّهمَّ عافنِي من شَرِّ سَمعي وبصري ولساني وقلبِي وشَرِّ مَنِيِّي )) .
فهي دعوةٌ جامعةٌ وشاملةٌ للوقاية من الشرور كلِّها في الدنيا والآخرة .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال : سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا اليَوْمِ مِنْ عَامِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ اسْتَعْبَرَ أَبُو بَكْرٍ وَبَكَى ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ : (( لَمْ تُؤْتَوْا شَيْئًا بَعْدَ كَلِمَةِ الْإِخْلاصِ مِثْلَ الْعَافِيَةِ، فَاسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ )) صحيح لغيره ، رواه أحمد ، أبو يعلى ، والنسائي في عمل اليوم والليلة ، وغيرهم .
قال مطرِّف بن الشِّخِّير : لأن أُعافى فأشكر ، أحبُّ إليَّ من أن أبتلى فأصبر ، وقال رحمه الله : ونظرت في النعمةِ التي لا يشوبها كدرٌ فإذا هي العافية .
رأيتُ البلاءَ كَقَطْرِ السَّماء ... وما تنبتُ الأرضُ من ناميه
فلا تسألنّ : إذا ما سألت ... إلهَكَ شيئاً سوى العافية
بارك الله ........
الخطبة الثانية :
جاء عند الترمذي أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: ((من رأى مبتلى فقال : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً لم يصبه ذلك البلاء)) ، فمن المشروع إذًا أن تسأل الله تعالى العافية – أخي المسلم - صباح مساء ، وأن تحمد الله تعالى على العافية ، إذا رأيت مبتلى في الدين ، أو في بدنه ، أو في ماله ، وكم يمر الناس على أهل البدع والكفر والمعاصي والذنوب ولا يحمدون الله على العافية ، فهذا الذي يتعامل بالربا ، أو يأخذ الرشوة ، أو يبيع المحرمات أو يتعامل بها ، فهؤلاء وغيرُهم مبتلون ، نحمد الله تعالى أن عافانا مما ابتلاهم به ، ونسأله تعالى العافية .
فاتقوا الله عباد الله، وسلوا الله تعالى العافية ، عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها - ، قَالَتْ : " لَوْ عَلِمْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا إِلَّا الْعَافِيَةَ حَتَّى أُصْبِحَ " ، فاحفظوا نعم الله عليكم بالعمل الصالح ، فالبِرُّ لا يَبْلَى ، والإثْمُ لا يُنْسَى ، والديان لا ينام ، وكما تدين تدان .
قال أبو سليمان الداراني – رحمه الله - : " من صَفَّى ، صُفِّيَ له ، ومن كدر ، كدر عليه ، ومن أحسن في ليله ، كوفئ في نهاره ، ومن أحسن في نهاره ، كوفئ في ليله ".
ومن سره أن تدوم له العافية ، فليتق الله -عز وجل .
المشاهدات 8907 | التعليقات 5
جزاكم الله خيرا يا شيخ راشد وبارك فيكم .
اللهم إنا نسألك العفو والعافية .جزبت خيرا
اللهم إنَّا نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة
خطبة عظيمة ومفيدة
تشكر عليها.
تنبيه: فيها حديثان ضعيفان، ضعفهما الألباني وغيره.
- زيادة الترمذي: فإذَا أُعْطِيتَ العافِيَةَ في الدُّنْيا وأُعْطِيتَها في الآخرة فَقَدْ أفْلَحْت
- وزاد الترمذي في روايته في كتاب الدعوات من "جامعه" : قالوا : فماذا نقول يا رسول الله؟ قال: ((سَلُوا اللهَ العافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ ))
جزاكم الله خيرا يا شيخ ناصر ، أردت أن أنبه على ذلك منذ اسبوع لكن سبقتنا بالأجر ، وفقك الله ورعاك .
راشد الناصر
كلام يخط بماء الذهب
اسأل الله ان يبارك في القول والعمل وان ينفع بهذه الخطبه قائلها وناقلها وقارئها
وجزاكم الله خيرا
تعديل التعليق