زهرة العمر

عاصم بن محمد الغامدي
1438/01/27 - 2016/10/28 04:12AM
[align=justify]زهرة العمر.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحميد المنعم الشكور، العالم بمكنون الضمائر وما تخفي الصدور، الذي يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيمًا إنه عليم قدير، شملت قدرته كل مقدور، وجرت مشيئته في خلقه بتصاريف الأمور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن المثيل والنظير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وحجته على عباده، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على الخلق أجمعين، فهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وكثّر به بعد القلة، وأعز به بعد الذلة، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فإن أوثق العرى تقوى الله، وهي وصية الله للأولين والآخرين، وطريق النجاة يوم الدين، {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}.
أيها المسلمون:
يمر الإنسان منذ ولادته بعدد من المراحل العمرية، تبدأ من الطفولة، وتمر بالشباب، وتنتهي بالكهولة والشيخوخة، وكل مرحلة لها صفات وميزات، وله فيها اهتمامات وعادات.
والأولاد زينة الحياة الدنيا، أقسم الله بهم في كتابه: {ووالد وما ولد}، وهم في القرآن بشرى: {فبشرناه بغلام حليم}، ونعمة وهبة: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب}، وقرة عين لآبائهم وأمهاتهم: {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين}.
وأهم مراحل النمو النفسي والعقلي والجسدي، هي السنوات الست الأولى منذ الولادة، فالمعالم العامة لشخصية الإنسان تتشكل فيها، فلزمها اهتمام يوازي أهميتها، وحياة النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بمواقف الحرص على هذه المرحلة العمرية المهمة.
هذه عائشة رضي الله عنها، تخبرنا أن صويحباتها كن يجتمعن معها للعب بالعرائس، وهن جوارٍ صغيرات، فإذا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، خرجن من عندها مهابة له، فكان عليه الصلاة والسلام يسربهن إليها، ليلعبن؛ لأنه يعلم أن حب اللهو غريزة في نفس الطفل، لا ينبغي أن يحرَم منها.
وكان عليه الصلاة والسلام يتلطف في التعامل مع الأطفال، حتى قال له أحدهم لما رآه يقبل الحسن والحسين رضوان الله عليهما: إن لي عشرة من الولد، لم أقبل منهم أحدًا، فقال عليه الصلاة والسلام: "من لا يَرْحَم لا يُرْحَم"، ويخبرنا أنس رضي الله عنه، عن أخٍ له من أمه يكنى أبا عمير، وله طائر يلهو به يسمى النُّغَيْر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأله إذا لقيه: "يا أبا عمير! ما فعل النغير؟".
وروى البخاري في صحيحه قصة أم خالد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمن هي أم خالد؟
إنها فتاة صغيرة ولدت في الحبشة التي هاجر والداها من مكة إليها ثم قدموا إلى المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أحد الأيام وصلت للنبي صلى الله عليه وسلم بعض الثياب أجمل ما فيها خميصة، فيها أعلام ملونة، فقسم الثياب بين أصحابه، ولم يبق معه سوى الخميصة، فزادها مكانة في قلوب أصحابه رضوان الله عليهم لما سألهم: "من ترون أن نكسو هذه؟"، ثم أجاب بنفسه فقال: "ائتوني بأم خالد"، فجاء بها أبوها يحملها، حتى وضعها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليها، ونشر الخميصة، ثم ألبسها إياها بيديه الكريمتين، ثم شاركها فرحتها، وتفاعل مع بهجتها، فأشار بيده الشريفة إلى أعلام الثوب الملونة، ولثغ بلسانه كما تلثغ بلسانها، قائلاً لها: "هذا سنا يا أم خالد، هذا سنا يا أم خالد"، أي: هذا جميل وحسن، بلغة أهل الحبشة التي تعلمتها أم خالد حيث ولدت، ثم عقب بالدعاء لها: "أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي"، فصلى الله عليه وسلم، ما أوسع قلبه، وما أرحب صدره، حتى يجد الأطفال فيه هذه المساحة الشاسعة، مع مكانته، وكثرة أعبائه، وهو قائد المسلمين الأول، ومثلهم الأعلى.
بل روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مرة وهو يحمل أمامة بنت ابنته زينب، يحملها إذا قام ويضعها إذا ركع، وتأخر مرة في السجود وهو إمام، فسأله أصحابه بعد الصلاة، فقال: "إن ابني ارتحلني فكرهتُ أن أعجّله"، [أخرجه النسائي وصححه الألباني].
إن هذا الإقبال من الأطفال عليه أمام الناس فيه إشارة إلى ما يخفى من الأحوال عادة.
أيها المسلمون:
كان للنبي صلى الله عليه وسلم، نهجٌ عام مع جميع الأطفال، فإذا مرّ على الصبيان سلم عليهم، ومسح على رؤوسهم، وإذا جلسوا معه، أو لقيهم، علمهم ورباهم.
هذا عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه، يخبرنا عن موقف له مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فيقول: كنت غلامًا في حِجْر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك". [أخرجه البخاري ومسلم].
وأمر عليه الصلاة والسلام بتعويدهم على الخير، "مروهم بالصلاة لسبع"، وأوصى بالعطف عليهم، وخصوصًا البنات، فقال: "من ابتلي من هذه البنات بشيء فصبر عليهن، كنّ له سترًا من النار". [متفق عليه].
وكان إذا سمع بكاء طفل وهو يصلي تجوز فيها، أي: خففها، شفقة عليه. [متفق عليه].
بل كان عليه الصلاة والسلام يراعي نفسية الطفل، ولا عجب فقد قال الله تعالى عنه: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
جلس أحد أصحابه معه مرة، فجاء ابن الصحابي فقبّله، وأجلسه في حجره، ثم جاءت ابنته فأجلسها إلى جواره ولم يقبلها، فقال عليه الصلاة والسلام: "فهلا عدلت بينهما؟" وأراد أحد الصحابة أن يشهده على هبة وهبها لأحد أولاده، فقال له: "أكل ولدك وهبت؟" قال: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: "فإني لا أشهد على جور". [أخرجه البخاري ومسلم].
عباد الله:
إن تربية الأطفال أمانة عظيمة، نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته".
وكان من نهجه عليه الصلاة والسلام ربط قلوب الأطفال بربهم تبارك وتعالى، فعلَّم الحسن والحسين رضوان الله عليهما، أن الحافظ هو الله تبارك وتعالى، لما عوذهما قائلاً: "أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة"، وأعطى ابن عباس رضي الله عنهما قدْرًا، وجعل له مكانة، وغرس في نفسه الثقة، لما خاطبه قائلاً له: "يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف".
أين بعض الآباء من هذا النهج العظيم؟
أما زال لهم عذرٌ في التعلل بالأعمال والأشغال لإهمال أطفالهم؟
بم يجيبون الله تعالى يوم يسألهم عن رعيتهم؟
ألا يعجب المرء مما يسمع من قسوة البعض مع أطفاله فضلاً عن أطفال غيره؟
إن الموفق من يقتدي بخير الخلق صلى الله عليه وسلم، فيغرس في أطفاله الثقة بأنفسهم، ويعطف عليهم، ويتلطف معهم، ويتلمس حاجاتهم، ويحسن توجيههم، ويفتح لهم صدره وقلبه، ويكون لهم قدوة حية، تعلمهم أخلاقه قبل توجيهاته، وتربيهم سيرته قبل كلماته.
{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما في من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية.
الحمد لله على ما أولى، والشكر له على ما أسدى، حمدًا كثيرًا طيبًا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واهتدى، أما بعد:
فإنه ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، ثم يكون دور الوالدين في التربية والتعليم، فاقبل أيها الأب هبة الله قبولا حسنًا، فلقد متع عينك، وأبهج قلبك، وأسعد ناظرك، برؤية هذه الذرية التي ما خلقتها، وما شققت سمعها ولا بصرها، وما أوجدتها، فحافظ عليها واعتن به، ونشّئها على الدين، وقها عوامل الضلال.
إن هذه النعمة تحمّلك مسؤولية كبرى، وأعباء عظمى، والولد الصالح خير ما تخلفه بعدك، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له".
ولن يضيع الله جهدك وسعيك وهمك، فتقرب إليه بإحسان التربية، والإخلاص فيها، وأبشر وأمّل، واغتنم ما منحك الله إياه من دعوة مستجابة منك لأولادك، فالدعاء لهم نهج الأنبياء، يقول الخليل عليه السلام، كما أخبرنا الله تعالى: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام}، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا شك فيهن، دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده".
اللهم اجعلنا من يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وتجاوز عنا زللنا وتقصيرنا.
ثم اعلموا رحمكم الله، أن الله تعالى أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل:{إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن من خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا فيه من الصلاة والسلام عليه"، فاللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك.
اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين.
اللهم عليك بظلمة اليهود والنصارى والرافضة والشيوعيين، الذين يصدون عن دينك ويحاربون أولياءك، اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.[/align]
المشاهدات 953 | التعليقات 0