زمان العجائب !! 1442/12/20هـ
يوسف العوض
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُه ونستعينُه ، ونستغفرُه ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ، ومن سيئاتِ أعمالِنا ، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) ، ( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) وبعد،،
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : فَقَد روى التِرمِذيُّ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ ، قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَـضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ ، قَالَ: أَمَا واللهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرَاً، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: « بَل ائْتَمِرُوا بِالْـمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنْ الْـمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحَّاً مُطَاعَاً وَهَوَىً مُتَّبَعَاً، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَاً الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلَاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» حَدِيثٌ حَسَنٌ ، يقولُ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الرحمٰن بْنُ نَاصِرٍ السعدي رحمه الله شَارحَاً لحَديثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الذِي يَرويِه التِّرْمِذِيُّ وهو حديثٌ حسنٌ والذي قَالَ فيه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الْقَابِضُ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ » وَهَذَا الْحَدِيثُ أيضًا يَقْتَضِي خبرًا وإرشادًا ، أَمَّا الْخَبَرُ : فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرَ أَنَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَقٍل ُالْخَيْرُ وَأَسْبَابُه ، وَيَكْثُرُ الشَّرُّ وَأَسْبَابُه ، وَأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْمُتَمَسِّكُ بِالدَّيْنِ مِنْ النَّاسِ أَقَلَّ الْقَلِيلِ ، وَهَذَا الْقَلِيلُ فِي حَالَة ِشِدَّةٍ وَمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ ، كَحَالَةِ الْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ ، مِنْ قُوَّةِ الْمُعَارِضِين ، وَكَثْرَةِ الْفِتَنِ الْمُضِلِّةِ – فِتَنِ الشُّبُهَاتِ والشُّكوكِ وَالْإِلْحَادِ ، وَفِتَنِ الشَّهَوَاتِ – وَانْصِرَافِ الْخَلْقِ إلَى الدُّنْيَا وانهماكِهِم فِيهَا ، ظاهرًا وباطنًا ، وَضَعفِ الْإِيمَانِ ، وَشِدَّةِ التَّفَرُّدِ ؛ لِقِلَّةِ الْمُعَينِ والمُسَاعدِ ، وَلَكِنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِدَيْنِه ، الْقَائِمَ بِدَفْعِ هَذِهِ الْمُعَارَضَاتِ وَالْعَوَائِقِ الَّتِي لَا يَصْمُدُ لَهَا إلَّا أَهْلُ الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ ، وَأَهْلُ الْإِيمَانِ الْمَتِينِ ، مِنْ أَفْضَلِ الْخَلْقِ ، وأرفعِهم عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَةً ، وَأَعْظَمِهِم عِنْدَه قَدْرًا ، وَأَمَّا الْإِرْشَادُ : فَإِنَّه إرْشَادٌ لِأَمَتِه ، أَنْ يُوطِنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَأَنْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا ، وَأَنَّ مَنْ اِقْتَحَمَ هَذِه العَقَبَاتِ ، وَصَبَرَ عَلَى دِينِهِ وَإِيمَانِه – مَعَ هَذِهِ الْمُعَارَضَات – فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ ، وسيعينُه مَوْلَاهُ عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ؛ فَإِن الْمَعُونَةَ عَلَى قَدْرِ الْمَئُونَةِ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَمَا أَشْبَهَ زَمَانَنَا هَذَا بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا اسْمُهُ ، وَلَا مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا رَسْمُهُ ! إيمَانٌ ضَعِيفٌ ، وَقُلُوبٌ مُتَفَرِّقَةٌ ، وحكوماتٌ متشتَّتةٌ ، وعداواتٌ وبغضاءٌ بَاعَدْت بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَعْدَاءٌ ظَاهِرُون وبَاطِنون يَعْمَلُون سِرًّا وعلنًا لِلْقَضَاءِ عَلَى الدِّينِ ، وَإلْحَادٌ ومادياتٌ ، جَرَفَت بخبيثِ تيارِها ، وأمواجِها المتلاطمةِ الشيوخَ وَالشُّبَّانَ ، ودعاياتٌ إلَى فَسَادِ الْأَخْلَاقِ ، وَالْقَضَاءِ عَلَى بَقِيَّةِ الرَّمَق ! ! ثُمَّ إقْبَالُ النَّاسِ عَلَى زَخَارِفِ الدُّنْيَا ، وَبِحَيْث أَصْبَحْت هِي مَبْلَغُ عِلْمِهِم ، وَأَكْبَرُ هَمِّهِم ، وَلَهَا يَرْضَوْن وَيَغْضَبُون ، وَدِعَايةٌ خَبِيثَةٌ للتزهيدِ فِي الْآخِرَةِ ، وَالْإِقْبَالِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى تَعْمِيرِ الدُّنْيَا وتَدميرِ الدِّينِ ، وَاحْتِقَارٌ وَاسْتِهْزَاءٌ بِالدَّيْنِ وَمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ ، وَفَخْرٌ وفَخفخةٌ واستكبارٌ بالمدنياتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْإِلْحَادِ الَّتِي آثَارِهَا وَشَرَرِهَا وشرورِها قَد شَاهَدَه الْعِبَادُ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : فَمَع هَذِهِ الشُّرُورِ المُتراكمةِ ، والأمواجِ المتلاطمةِ ، والمُزعجاتِ الْمُلِمَّةِ ، وَالْفِتَنِ الْحَاضِرَةِ وَالْمُسْتَقْبِلَةِ الْمُدْلَهِمَّةِ – مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهَا – تَجِدُ مِصْدَاَقَ هَذَا الْحَدِيثِ ! ! وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ فَإِنْ الْمُؤْمِنَ لَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَلَا يَيْأَسَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ، وَلَا يَكُونُ نَظَرُهُ مَقصورًا عَلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ ، بَلْ يَكُونُ مُلتفتًا فِي قَلْبِهِ كُلِّ وَقْتٍ إلَى مُسَبَّبِ الْأَسْبَابِ ، الْكَرِيمِ الْوَهَّابِ ، وَيَكُونُ الْفَرَجُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَوَعَدُه الَّذِي لَا يُخْلِفُهُ ، بِأَنَّه سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عَسُرٍ يُسرًا ، وَأنَّ الْفَرْجَ مَعَ الْكَرْبِ ، وَأنَّ تَفْرِيجَ الكُرُباتِ مَعَ شِدَّةِ الكُرُباتِ وَحُلُولَ المُفْظِعاتِ ، فَالْمُؤْمِنُ مَنْ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ ، وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى وَأَنْت الْمُسْتَعَانُ ، وَبِك المُستغاثُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ . أ.هـ
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ الَّذِي هدى بِرَحْمَتِه الْمُهْتَدِين ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وأنَّ محمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَمَّا بعد ،،
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : المؤمنُ يَقُومُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالنُّصْحِ وَالدَّعْوَةِ ، ويقنعُ بِالْيَسِير إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْكَثِيرُ ، وَبِزَوَالِ بَعْضِ الشَّرِّ وَتَخْفِيفِه ، إذَا تَعَذَّرَ غَيْرُ ذَلِكَ : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا } { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يسراً } ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لا يَمُرُّ زَمَانٌ على النَّاسِ إلا والذي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ ، فَقَد كَثُرَتِ الفِتَنُ في زَمَانِنَا، وَكَثُرَتِ المُغْرِيَاتُ والانْحِرَافَاتُ لَكِنَّهَا بِحَمْدِ اللهِ تعالى لَمْ تَصِلْ إلى الذُّرْوَةِ، والحَمْدُ للهِ مَا زِلْنَا نَجِدُ في هَذِا الزَّمَنِ على الخَيْرِ أَعْوَانَاً، ولا نَدْرِي مَا يُخَبِّئُهُ القَدَرُ لَنَا وَلِذُرِّيَّاتِنَا، وَنَرْجُوا اللهَ تعالى أَنْ يَقِيَنَا شَرَّ جَمِيعِ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق