زكاة الفطر .. والحث على الاجتهاد في آخر رمضان
عبدالله اليابس
1436/09/22 - 2015/07/09 11:28AM
الجمعة 23/9/1436هـ
الحمدُ للهِ الذي خصَّ بالفضلِ والتَّشرِيفِ شهرَ رمضانَ، وأَنزلَ فيه القرآنَ هُدى للناسِ وبيِّناتٍ من الهدى والفُرقانِ، خَصَّهُ بالعفو والغفرانِ، واخْتَصَّ منِ اصطَفاهُ بفضلٍ منه وامتنانٍ، وأيقَظَ بالوعظِ من وفَّقهُ في هذا الموسم العظيمِ الشانِ.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ذُو الفضلِ والإحسانِ. وأشهدُ أن محمَّدًا عبدهُ ورسُولهُ سيدُ ولدِ عَدنانِ، صلّى اللهُ عليه وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ وسلّم تسليمًا كَثيرًا ما تعاقب النيران, وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم القيام إلى الديَّان.
أَمَّا بَعْدُ: فإن زكاة الفطر واجبة على الكبيرِ والصغيرِ, والذكرِ والأُنثى, والحر والعبد من المسلمين، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الحديث المتفق عليه: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعاً من شعيرٍ على العبدِ والحرِّ والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين» .
ولا تجبُ عن الحمل الذي في البطن إلاَّ أنْ يتطوعَ بها فلا بأسَ، فقدْ كانَ أميرُ المؤمنينَ عثمانُ رضي الله عنه يخرجُها عن الحمل.
ويجبُ إخراجُها عن نفسِه وكذلك عمن تَلْزَمُه مَؤُونَتُه من زوجةٍ أو قريبٍ إذا لم يستطيعوا إخراجَها عن أنفسِهم، فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجُوهَا عن أنفسِهم؛ لأنَّهُم المخاطَبُون بها أصْلاً.
ولا تَجِبُ إلاَّ على مَنْ وَجَدَها فاضلةً زائدةً عما يحتاجُه من نفقةِ يومِ العيدِ وليلتِه.
في زكاة الفطر إحسانٌ إلى الفقراءِ, وكفٌّ لهم عن السؤالِ في أيام العيدِ؛ ليُشَاركوا الأغنياءَ في فرحِهم وسرورِهم بِه, ويكونَ عيداً للجميع، وفيها الاتصافُ بخلق الكرمِ وحبِّ المواساة، وفيها تطهيرُ الصائمِ مما يحصلُ في صيامِه من نقصٍ ولَغْوٍ وإثْمٍ، وفيها إظهارُ شكرِ نعمةِ الله بإتْمامِ صيامِ شهرِ رمضانَ وقيامِه وفعلِ ما تَيَسَّر من الأعمالِ الصالحةِ فيه.
وأمَّا جنسُ الواجبِ في الفطرةِ فهو طعامُ الآدميين من تمرٍ أوْ بُرٍّ أوْ رزٍّ أو غيرها من طعام بني آدم، فعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: «فرضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعيرٍ» وكانَ الشَّعيرُ يومَذَاك مِنْ طعامِهم كما قال أبو سعيدٍ الخدريُّ رضي الله عنه: «كنا نُخْرِج يومَ الفطرِ في عهدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاعاً من طعامٍ وكان طعامُنَا الشعيرَ والزبيبَ والأقِطَ والتمر» رواه البخاري .
فلا يجزئُ إخراجُها من الثياب والفُرُش والأواني والأمتعةِ وغيرِهَا مما سوى طعام الآدميين؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرضَها من الطعام فلا تتعدى ما عيَّنه الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا يجزئ إخراجُ قيمةِ الطعامِ فلا تُخرَج نقدًا؛ لأنَّ ذلك خلافُ ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وقد ثبتَ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: «مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»، ولأنَّ إخراجَ القيمةِ مخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم، حيث كانوا يخرجونَها صاعاً من طعامٍ، وقد قال النَبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بسُنَّتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ من بعْدِي»
ولأنَّ إخراج القيمةِ نقدًا يُخْرِج الفطرةَ عن كَوْنِها شعيرةً ظاهرةً إلى كونها صدقةً خفيةً، فإن إخراجَها صاعاً من طعامٍ يجعلُها ظاهرَةً بين المسلمينَ معلومةً للصغير والكبير يشاهدون كَيْلها وتوزِيعَها ويتعارفونها بينهم بخلاف ما لو كانت دراهم يُخْرِجها الإِنسانُ خفية بينه وبين الآخذ.
وأما مقدارُ الفطرةِ فهو صاعٌ بصاعِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يبلغُ وَزْنُه بالغرامات كِيْلوَين اثنين وأربعين غرامًا من البرِّ الجيِّد، فإذا أراد الواحد منَّا أن يعرفَ الصاع النبويَّ فلْيزن كيلوينِ وأربعين غِراماً من البر ويضعها في إناءٍ بقدرِها بحيثُ تَملَّؤُه .. ثم يَكيلُ به.
وأما وقتُ وجوبِ الفطرةِ فهو غروبُ الشمسِ ليلةَ العيدِ، فمن كان مِنْ أهلِ الوجوبِ حينذَاك وجبتْ عليه وإلاَّ فلا.
وأمَّا زمنُ دفعِها فله وقتانِ: وقتُ فضيلةٍ ووقتُ جوازٍ.
فأمَّا وقتُ الفضيلةِ: فهو صباحُ العيد قبل الصلاة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَرَ بزكاةِ الفطر أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاةِ».
وأمَّا وقتُ الجوازِ فهو قبْل العيدِ بيوم أو يومين، فعن نافع قال: كانَ ابنُ عمرَ يعْطِي عن الصغير والكبير حتى إن كانَ يعطِي عن بَنِيَّ، وكان يُعْطِيها الَّذِين يَقْبلونَها، وكانُوا يُعْطَوْن قبْلَ الفطرِ بيومٍ أو يومين.
ولا يجوزُ تأخيرُها عن صلاةِ العيدِ، فإنْ أخَّرها عن صلاةِ العيدِ بلا عُذرٍ لم تُقْبَل منه, لحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما «أنَّ مَنْ أدَّاها قبْلَ الصلاةِ فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقةٌ مِنَ الصدقاتِ».
أمَّا إن أخَّرها لعذرٍ فلا بأسَ، مثلُ أن يصادفَه العيدُ في البَر ليس عنده ما يدفعُ منه أو ليسَ عنده مَنْ يدفُع إليه، أو يأتَي خبرُ ثبوتِ العيدِ مفاجِئاً بحيثُ لا يَتَمَكَّنُ مِن إخراجها قبْلَ الصلاةِ، أو يكون معتمداً على شخصٍ في إخراجها فينسى أنْ يُخْرِجها فلا بأسَ أن يخرجها ولو بعدَ العيد لأنه معذور في ذلك.
والواجبُ أنْ تصلَ إلى مستحقِّها أو وكيْلِهِ في وقتِها قبلَ الصلاةِ، فلو نَوَاها لشخصٍ ولم يصادفْه ولا وكِيْلَه وقتَ الإِخراجِ فإنه يدفعها إلى مستحق آخرَ ولا يؤخِّرُها عن وقتِهَا.
وأما مكانُ دفِعها فتدفعُ إلى فقراءِ المكانِ الَّذِي هو فيه وقت الإِخراج سواءٌ كانَ محل إقامتِهِ أو غَيرَه من بلادِ المسلمينَ .
والمستحِقُون لزكاةِ الفطرِ هُمْ الفقراءُ، ومَنْ عليهم ديونٌ لا يستطيعونَ وفاءَها فيُعْطَوْن منها بقدر حاجتِهم كما ذكر ذلك ابن عثيمين رحمه الله.
ويجوزُ توزيعُ الفطرةِ على أكثرَ من فقير، ويجوز دفع مجموعة زكوات إلى مسكينٍ واحدٍ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّر الواجبَ ولم يقدِّر مَنْ يُدْفَع إليهِ.
ويجوز للفقير إذا أخَذَ الفطرةَ من شخصٍ أن يدفَعَهَا عن نفسِه أو أحدٍ من عائلتِهِ .
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
اليوم هو الثالث والعشرون من عمر شهر رمضان .. نعم الثالث والعشرون .. ثلاثة وعشرون ليلةً مرت ..
هل تذكرون بالأمس .. بالأمس القريب جداً.. لما كنا نتتبع وسائل التواصل الاجتماعي ومحطات الأخبار علَّنا نحظى بخبر دخول الشهر.. إنها كالأمس.. لقد مرت على تلك اللحظات ثلاثة وعشرون ليلة!
ثلاثة وعشرون ليلة .. في كل ليلة أعتق الله أقوامًا من النار كما ورد ذلك في حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي وابن ماجه.. أُعتقوا من النار.. فلن يدخلوها أبدًا.. مع أن هذه الفضل لم يكن من نصيبهم قبل هذه الليالي.
يا ترى! ما الذي فعله أولئك حتى نالوا هذا الفضل العظيم؟ عتق وبراءة من النار!
قد يكون ممن بيننا الآن في هذا الجامع من أعتقه الله من النار.. وقد يكون من بيننا الآن من سيعتق في الليالي القادمة بإذن الله.. جعلنا الله تعالى من عتقائه من النار.
رمضان .. ثلاثون ليلة أو أقل .. (أيامًا معدودات) كما أخبر ربنا تبارك وتعالى.. معدودات.. بقي منها أقل من سبع ليالٍ..
قد تكون ليلة القدر من بين هذه الليالي.. أتعرف ما ليلة القدر؟
يكفيك في تصور فضل هذه الليلة أن تسمع كلام الله وهو يصفها: {ليلة القدر خير من ألف شهر} .. يا الله.. خير من ألف شهر!
العمل الصالح في هذه الليلة كالعمل في أكثر من ألف شهر.. الله أكبر.. خير من ألف شهر..
ومن فضل هذه الليلة ما أخبر عنه الله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} .. قال ابن رجب رحمه الله: (في ليلة القدر تنتشر الملائكة في الأرض فيبطل سلطان الشياطين).
تَنَزَّل فيها الملائكة وينزل فيها جبريل عليه السلام .. جاء في المسند بسند لا بأس به من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى).
وروى ابن حبان في صحيحه بسند صحيح عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: ( لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها).
تلك الليلة العظيمة ليلة سلام {سلام هي حتى مطلع الفجر}..
قال مجاهد رحمه الله: (أي لا يحدث فيها داء ولا يستطيع شيطان العمل فيها).
وقال رحمه الله: (هي سالمة, لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا ولا يحدث فيها أذىً).
روى الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شهر رمضان: (فيه ليلة خير من ألف شهر, من حرم خيرها فقد حُرم).
ليلة عظيمة .. يعظم فيها الأجر ويتضاعف.. وتنزل فيها الملائكة عليهم السلام.. وتتغير فيها السماوات والأرض .. فلم يبق إلا أن تتغير أنت!
نعم تتغير .. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير من برنامج حياته كاملاً إذا دخلت العشر الأواخر.. رجاء أن يصيب ليلة القدر.
جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل, وأيقظ أهله, وجدَّ وشد المئزر).
هل تأملت قول عائشة رضي الله عنها (جدَّ) .. تقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يجتهد في عبادته طوال العام اجتهادًا شديدًا, وكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه, ويقوم بالبقرة وآل عمران والنساء في ركعة.. تقول عنه رضي الله عنها: (جدَّ)..
أي جِدٍّ فوق ذلك؟!
بل إنها روت رضي الله عنها كما عند مسلم في صحيحه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره).. الله أكبر ..
وإن من أهم مظاهر هذا الاجتهاد أنه صلى الله عليه وسلم كان قبيل دخول العشر يخرج من بيته ويسكن في المسجد طوال عشر ليالٍ, وكان صلى الله عليه وسلم ينقطع عن مخالطة الناس تفرغًا للعبادة, فتوضع له في المسجد قبةٌ على بابها حصير لئلا يرى الناسَ فينشغل بهم..
هي عشر ليالٍ .. قطعًا أن من بينها ليلة القدر التي علمتم فضلَها.. ألا تستحق منَّا أن ننقطع عن الدنيا لطلبها؟
أيها الإخوة.. ونحن نسير في لُجَّة الحياة وصخبها, أذهاننا مشوشة, وقلوبنا مشغولة, وفكرنا مثقل..
لقد قصرنا كثيرًا في حق الله تعالى طوال العام, وران على قلوبنا ما كنا نكسب من ذنوب, فأصبحنا نسمع المواعظ ولا نتأثر, ونقرأ كلام الله ولا نخشع, ونصلي ولا ندري ماذا قرأنا في صلاتنا, انهماك في الدنيا, وغفلة عن الآخرة, نعطي الآخرة فضلة وقتنا, وننقر صلاتنا نقرًا, ونَهُذُّ أذكارنا هذًّا, ولا نجد لتلك العبادات أثرًا على قلوبنا, لأننا أديناها جسدًا بلا روح, مبنىً دون معنى.
هلمَّ إلى ساحات النقاء, هلمَّ إلى ميدان الصفاء, تعالوا نخلو بربنا طوال اليوم, تعالوا ننقطع عن الخلق, ونتفرغ لعبادة الخالق.
تعالوا إلى دورة مجانية مكثفة, لاسترخاء الروح, وصفاء النفس, وراحة البال.
تعالوا إلى دورة عبادية مكثفة, نتعلم فيها قيام الليل, وتلاوةَ كتاب الله, ودعاءَ الله وذكرَه.
كان بعضهم لا يزال منفردًا في بيته خاليًا بربه, فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف استوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين .
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك يا ربنا سميع كريم مجيب.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
الحمدُ للهِ الذي خصَّ بالفضلِ والتَّشرِيفِ شهرَ رمضانَ، وأَنزلَ فيه القرآنَ هُدى للناسِ وبيِّناتٍ من الهدى والفُرقانِ، خَصَّهُ بالعفو والغفرانِ، واخْتَصَّ منِ اصطَفاهُ بفضلٍ منه وامتنانٍ، وأيقَظَ بالوعظِ من وفَّقهُ في هذا الموسم العظيمِ الشانِ.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ذُو الفضلِ والإحسانِ. وأشهدُ أن محمَّدًا عبدهُ ورسُولهُ سيدُ ولدِ عَدنانِ، صلّى اللهُ عليه وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ وسلّم تسليمًا كَثيرًا ما تعاقب النيران, وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم القيام إلى الديَّان.
أَمَّا بَعْدُ: فإن زكاة الفطر واجبة على الكبيرِ والصغيرِ, والذكرِ والأُنثى, والحر والعبد من المسلمين، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الحديث المتفق عليه: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعاً من شعيرٍ على العبدِ والحرِّ والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين» .
ولا تجبُ عن الحمل الذي في البطن إلاَّ أنْ يتطوعَ بها فلا بأسَ، فقدْ كانَ أميرُ المؤمنينَ عثمانُ رضي الله عنه يخرجُها عن الحمل.
ويجبُ إخراجُها عن نفسِه وكذلك عمن تَلْزَمُه مَؤُونَتُه من زوجةٍ أو قريبٍ إذا لم يستطيعوا إخراجَها عن أنفسِهم، فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجُوهَا عن أنفسِهم؛ لأنَّهُم المخاطَبُون بها أصْلاً.
ولا تَجِبُ إلاَّ على مَنْ وَجَدَها فاضلةً زائدةً عما يحتاجُه من نفقةِ يومِ العيدِ وليلتِه.
في زكاة الفطر إحسانٌ إلى الفقراءِ, وكفٌّ لهم عن السؤالِ في أيام العيدِ؛ ليُشَاركوا الأغنياءَ في فرحِهم وسرورِهم بِه, ويكونَ عيداً للجميع، وفيها الاتصافُ بخلق الكرمِ وحبِّ المواساة، وفيها تطهيرُ الصائمِ مما يحصلُ في صيامِه من نقصٍ ولَغْوٍ وإثْمٍ، وفيها إظهارُ شكرِ نعمةِ الله بإتْمامِ صيامِ شهرِ رمضانَ وقيامِه وفعلِ ما تَيَسَّر من الأعمالِ الصالحةِ فيه.
وأمَّا جنسُ الواجبِ في الفطرةِ فهو طعامُ الآدميين من تمرٍ أوْ بُرٍّ أوْ رزٍّ أو غيرها من طعام بني آدم، فعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: «فرضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعيرٍ» وكانَ الشَّعيرُ يومَذَاك مِنْ طعامِهم كما قال أبو سعيدٍ الخدريُّ رضي الله عنه: «كنا نُخْرِج يومَ الفطرِ في عهدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاعاً من طعامٍ وكان طعامُنَا الشعيرَ والزبيبَ والأقِطَ والتمر» رواه البخاري .
فلا يجزئُ إخراجُها من الثياب والفُرُش والأواني والأمتعةِ وغيرِهَا مما سوى طعام الآدميين؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرضَها من الطعام فلا تتعدى ما عيَّنه الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا يجزئ إخراجُ قيمةِ الطعامِ فلا تُخرَج نقدًا؛ لأنَّ ذلك خلافُ ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وقد ثبتَ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: «مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»، ولأنَّ إخراجَ القيمةِ مخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم، حيث كانوا يخرجونَها صاعاً من طعامٍ، وقد قال النَبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بسُنَّتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ من بعْدِي»
ولأنَّ إخراج القيمةِ نقدًا يُخْرِج الفطرةَ عن كَوْنِها شعيرةً ظاهرةً إلى كونها صدقةً خفيةً، فإن إخراجَها صاعاً من طعامٍ يجعلُها ظاهرَةً بين المسلمينَ معلومةً للصغير والكبير يشاهدون كَيْلها وتوزِيعَها ويتعارفونها بينهم بخلاف ما لو كانت دراهم يُخْرِجها الإِنسانُ خفية بينه وبين الآخذ.
وأما مقدارُ الفطرةِ فهو صاعٌ بصاعِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يبلغُ وَزْنُه بالغرامات كِيْلوَين اثنين وأربعين غرامًا من البرِّ الجيِّد، فإذا أراد الواحد منَّا أن يعرفَ الصاع النبويَّ فلْيزن كيلوينِ وأربعين غِراماً من البر ويضعها في إناءٍ بقدرِها بحيثُ تَملَّؤُه .. ثم يَكيلُ به.
وأما وقتُ وجوبِ الفطرةِ فهو غروبُ الشمسِ ليلةَ العيدِ، فمن كان مِنْ أهلِ الوجوبِ حينذَاك وجبتْ عليه وإلاَّ فلا.
وأمَّا زمنُ دفعِها فله وقتانِ: وقتُ فضيلةٍ ووقتُ جوازٍ.
فأمَّا وقتُ الفضيلةِ: فهو صباحُ العيد قبل الصلاة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَرَ بزكاةِ الفطر أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاةِ».
وأمَّا وقتُ الجوازِ فهو قبْل العيدِ بيوم أو يومين، فعن نافع قال: كانَ ابنُ عمرَ يعْطِي عن الصغير والكبير حتى إن كانَ يعطِي عن بَنِيَّ، وكان يُعْطِيها الَّذِين يَقْبلونَها، وكانُوا يُعْطَوْن قبْلَ الفطرِ بيومٍ أو يومين.
ولا يجوزُ تأخيرُها عن صلاةِ العيدِ، فإنْ أخَّرها عن صلاةِ العيدِ بلا عُذرٍ لم تُقْبَل منه, لحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما «أنَّ مَنْ أدَّاها قبْلَ الصلاةِ فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقةٌ مِنَ الصدقاتِ».
أمَّا إن أخَّرها لعذرٍ فلا بأسَ، مثلُ أن يصادفَه العيدُ في البَر ليس عنده ما يدفعُ منه أو ليسَ عنده مَنْ يدفُع إليه، أو يأتَي خبرُ ثبوتِ العيدِ مفاجِئاً بحيثُ لا يَتَمَكَّنُ مِن إخراجها قبْلَ الصلاةِ، أو يكون معتمداً على شخصٍ في إخراجها فينسى أنْ يُخْرِجها فلا بأسَ أن يخرجها ولو بعدَ العيد لأنه معذور في ذلك.
والواجبُ أنْ تصلَ إلى مستحقِّها أو وكيْلِهِ في وقتِها قبلَ الصلاةِ، فلو نَوَاها لشخصٍ ولم يصادفْه ولا وكِيْلَه وقتَ الإِخراجِ فإنه يدفعها إلى مستحق آخرَ ولا يؤخِّرُها عن وقتِهَا.
وأما مكانُ دفِعها فتدفعُ إلى فقراءِ المكانِ الَّذِي هو فيه وقت الإِخراج سواءٌ كانَ محل إقامتِهِ أو غَيرَه من بلادِ المسلمينَ .
والمستحِقُون لزكاةِ الفطرِ هُمْ الفقراءُ، ومَنْ عليهم ديونٌ لا يستطيعونَ وفاءَها فيُعْطَوْن منها بقدر حاجتِهم كما ذكر ذلك ابن عثيمين رحمه الله.
ويجوزُ توزيعُ الفطرةِ على أكثرَ من فقير، ويجوز دفع مجموعة زكوات إلى مسكينٍ واحدٍ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّر الواجبَ ولم يقدِّر مَنْ يُدْفَع إليهِ.
ويجوز للفقير إذا أخَذَ الفطرةَ من شخصٍ أن يدفَعَهَا عن نفسِه أو أحدٍ من عائلتِهِ .
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
اليوم هو الثالث والعشرون من عمر شهر رمضان .. نعم الثالث والعشرون .. ثلاثة وعشرون ليلةً مرت ..
هل تذكرون بالأمس .. بالأمس القريب جداً.. لما كنا نتتبع وسائل التواصل الاجتماعي ومحطات الأخبار علَّنا نحظى بخبر دخول الشهر.. إنها كالأمس.. لقد مرت على تلك اللحظات ثلاثة وعشرون ليلة!
ثلاثة وعشرون ليلة .. في كل ليلة أعتق الله أقوامًا من النار كما ورد ذلك في حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي وابن ماجه.. أُعتقوا من النار.. فلن يدخلوها أبدًا.. مع أن هذه الفضل لم يكن من نصيبهم قبل هذه الليالي.
يا ترى! ما الذي فعله أولئك حتى نالوا هذا الفضل العظيم؟ عتق وبراءة من النار!
قد يكون ممن بيننا الآن في هذا الجامع من أعتقه الله من النار.. وقد يكون من بيننا الآن من سيعتق في الليالي القادمة بإذن الله.. جعلنا الله تعالى من عتقائه من النار.
رمضان .. ثلاثون ليلة أو أقل .. (أيامًا معدودات) كما أخبر ربنا تبارك وتعالى.. معدودات.. بقي منها أقل من سبع ليالٍ..
قد تكون ليلة القدر من بين هذه الليالي.. أتعرف ما ليلة القدر؟
يكفيك في تصور فضل هذه الليلة أن تسمع كلام الله وهو يصفها: {ليلة القدر خير من ألف شهر} .. يا الله.. خير من ألف شهر!
العمل الصالح في هذه الليلة كالعمل في أكثر من ألف شهر.. الله أكبر.. خير من ألف شهر..
ومن فضل هذه الليلة ما أخبر عنه الله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} .. قال ابن رجب رحمه الله: (في ليلة القدر تنتشر الملائكة في الأرض فيبطل سلطان الشياطين).
تَنَزَّل فيها الملائكة وينزل فيها جبريل عليه السلام .. جاء في المسند بسند لا بأس به من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى).
وروى ابن حبان في صحيحه بسند صحيح عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: ( لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها).
تلك الليلة العظيمة ليلة سلام {سلام هي حتى مطلع الفجر}..
قال مجاهد رحمه الله: (أي لا يحدث فيها داء ولا يستطيع شيطان العمل فيها).
وقال رحمه الله: (هي سالمة, لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا ولا يحدث فيها أذىً).
روى الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شهر رمضان: (فيه ليلة خير من ألف شهر, من حرم خيرها فقد حُرم).
ليلة عظيمة .. يعظم فيها الأجر ويتضاعف.. وتنزل فيها الملائكة عليهم السلام.. وتتغير فيها السماوات والأرض .. فلم يبق إلا أن تتغير أنت!
نعم تتغير .. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير من برنامج حياته كاملاً إذا دخلت العشر الأواخر.. رجاء أن يصيب ليلة القدر.
جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل, وأيقظ أهله, وجدَّ وشد المئزر).
هل تأملت قول عائشة رضي الله عنها (جدَّ) .. تقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يجتهد في عبادته طوال العام اجتهادًا شديدًا, وكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه, ويقوم بالبقرة وآل عمران والنساء في ركعة.. تقول عنه رضي الله عنها: (جدَّ)..
أي جِدٍّ فوق ذلك؟!
بل إنها روت رضي الله عنها كما عند مسلم في صحيحه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره).. الله أكبر ..
وإن من أهم مظاهر هذا الاجتهاد أنه صلى الله عليه وسلم كان قبيل دخول العشر يخرج من بيته ويسكن في المسجد طوال عشر ليالٍ, وكان صلى الله عليه وسلم ينقطع عن مخالطة الناس تفرغًا للعبادة, فتوضع له في المسجد قبةٌ على بابها حصير لئلا يرى الناسَ فينشغل بهم..
هي عشر ليالٍ .. قطعًا أن من بينها ليلة القدر التي علمتم فضلَها.. ألا تستحق منَّا أن ننقطع عن الدنيا لطلبها؟
أيها الإخوة.. ونحن نسير في لُجَّة الحياة وصخبها, أذهاننا مشوشة, وقلوبنا مشغولة, وفكرنا مثقل..
لقد قصرنا كثيرًا في حق الله تعالى طوال العام, وران على قلوبنا ما كنا نكسب من ذنوب, فأصبحنا نسمع المواعظ ولا نتأثر, ونقرأ كلام الله ولا نخشع, ونصلي ولا ندري ماذا قرأنا في صلاتنا, انهماك في الدنيا, وغفلة عن الآخرة, نعطي الآخرة فضلة وقتنا, وننقر صلاتنا نقرًا, ونَهُذُّ أذكارنا هذًّا, ولا نجد لتلك العبادات أثرًا على قلوبنا, لأننا أديناها جسدًا بلا روح, مبنىً دون معنى.
هلمَّ إلى ساحات النقاء, هلمَّ إلى ميدان الصفاء, تعالوا نخلو بربنا طوال اليوم, تعالوا ننقطع عن الخلق, ونتفرغ لعبادة الخالق.
تعالوا إلى دورة مجانية مكثفة, لاسترخاء الروح, وصفاء النفس, وراحة البال.
تعالوا إلى دورة عبادية مكثفة, نتعلم فيها قيام الليل, وتلاوةَ كتاب الله, ودعاءَ الله وذكرَه.
كان بعضهم لا يزال منفردًا في بيته خاليًا بربه, فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف استوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين .
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك يا ربنا سميع كريم مجيب.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
آخر جمعة من رمضان وزكاة الفطر 23-9-1436.doc
آخر جمعة من رمضان وزكاة الفطر 23-9-1436.doc