زكاة الفطر وإنقاذ الفرد والمجتمع من الهلاك .. أ. شريف عبدالعزيز - عضو الفريق

الفريق العلمي
1441/09/27 - 2020/05/20 16:32PM

من أكثر الأمور التي ورد ذكرها في القرآن الكريم؛ مصارع الأمم وعاقبة السابقين وهلاك الغابرين؛ فهذه المسألة تكاد تحتل قرابة ثلث القرآن؛ كما ذكر ذلك أهل العل والمفسرون؛ فالقرآن ثلاثة أقسام:

قسم يتحدث عن التوحيد والعقائد، وقسم يتحدث عن الأحكام والآداب، وقسم يتحدث عن الأنبياء والمرسلين ورحلتهم الدعوية مع أقوامهم.

 

وعلى نفس المنوال كانت سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فباب كبير من السنة النبوية خصصه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتحذير أمته من عوامل الهلاك وأسباب السقوط ومستجلبات سخط الرحمن، وهذا من كمال رحمته -صلى الله عليه وسلم- بأمته، وتمام نصحه لها، وقيامه -صلى الله عليه وسلم- الأمثل بواجب دعوته.

 

وهذا النصح النبوي كان عاماً وخاصاً؛ فالرسول الشفيق النصوح كان يُعمّم ويُخصص؛ فيحذر الأعيان وينذر الجماعات وينبه المجتمعات، في سياق نبوي بديع ووحي سماوي محكم للتحذير من الأمراض المجتمعية الفاتكة التي أضرت الأمم والأفراد عبر التاريخ وجعلتهم عبرة ومثلاً للآخرين !!

 

ومن أكثر الأمراض المجتمعية التي تعصف بالأفراد والجماعات وتتسبب في تعرض الأمم لسخط الرحمان، وتُدخل هذا المجتمع في دائرة الخطر واستحقاق الهلاك؛ مرض الشح.

 

والشح من أسوأ الأمراض المجتمعية التي تضرب الأفراد والجماعات وكانت سبباً مباشراً لهلاك الأمم السابقة، وهو أشد من البخل، بل إن البخل ثمرة لشح النفس؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إيَّاكم والظلم، فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتَّقوا الشحَّ؛ فإنَّ الشحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم".

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويُلقَى الشحُّ، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج"؛ فالشُّح يُهلك صاحبه، وإذا شاع في المجتمعات مزقها وأهلكها، قال -صلى الله عليه وسلم- في حديث اختصام الملأ الأعلى الشهير: "وأما المهلكات: فشحٌ مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه"، وهذا تصوير نبوي بليغ لداء الشح الذي إذا تغلغل في النفس واستولى على القلب صار بمثابة السيد المطاع الذي لا تُعصى أوامره مهما كانت بشعة ومجافية للشرع.

 

وخطورة الشح أنه مركوز في الفطرة البشرية، قال -تعالى-: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ)[النساء: 128]، ومن ينجو من هذا الخلق الذميم ويجاهد نفسه لاقتلاعه من قلبه فقد نجا وأنجى، قال -تعالى- في أكثر من (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9]؛ قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "ووقاية شح النفس، يشمل وقايتها الشح، في جميع ما أمر به؛ فإنه إذا وقي العبد شح نفسه، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله؛ ففعلها طائعًا منقادًا، منشرحًا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه، وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته".

 

لذلك كانت من الحكم الراقية والعالية والغالية للتشريعات والأحكام في الإسلام أنها تستل هذه الأدواء المهلكة من النفس البشرية، وتعالجها بحكمة ولطف بالتدريب والتعويد الذي يخرج الإنسان من أسر نفسه وسلطان هواه وعرين شهواته ليصبح عبداً مطيعاً لربه متبعاً لأوامره ونواهيه بكل سلاسة ويسر.

 

ومن أكثر التشريعات التي تساهم في تطهير المجتمعات والأفراد من داء الشح؛ زكاة المال عامة وزكاة الفطر خاصة؛ ونظراً لأننا على مشارف انتهاء شهر رمضان المبارك، ودخول زكاة الفطر موعد الاستحقاق، ستعرض سريعاً لحكمة زكاة الفطر وبعض الأحكام المتعلقة بها.

 

تعريف زكاة الفطر

هي الزكاة التي سببها الفطر من رمضان. وتسمى -أيضاً- صدقة الفطر، وبكلا الاسمين وردت النصوص؛ وسميت صدقة الفطر بذلك؛ لأنها عطية عند الفطر يراد بها المثوبة من الله؛ فإعطاؤها لمستحقها في وقتها عن طيب نفس، يظهر صدق الرغبة في تلك المثوبة، وسميت زكاة لما في بذلها من تزكية النفس، وتطهيرها من أدرانها وتنميتها للعمل وجبرها لنقصه؛ وإضافتها إلى الفطر من إضافة الشيء إلى سببه؛ فإن سبب وجوبها الفطر من رمضان؛ فأضيفت له لوجوبها به.

 

وكانت فرضيتها في السنة الثانية من الهجرة -أي مع رمضان- وقد دلّ على مشروعيتها وفرضيتها عموم القرآن والآيات الداعية لركن الزكاة  وصريح السنة الصحيحة، وإجماع المسلمين، قال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى)[الأعلى:14]، أي؛ فاز كل الفوز، وظفر كل الظفر من زكى نفسه بالصدقة، فنماها وطهرها.

روى الجماعة عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله فرض زكاة الفطر في الفطر من رمضان صاعًا من تمر أو شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين"، ومعنى فرض أوجب وألزم وقد استقر الأمر بين المسلمين كافة على وجوب زكاة الفطر.

 

وهي قاصرة على الفقراء والمساكين؛ فمصرفها مصرف خاص وليس مثل زكاة المال التي لها ثمانية مصارف معروفة ذكرتها الآية، وعلى ذلك لا تُعطى زكاة الفطر مثلاً للعاملين عليها أو للغارمين أو في الرقاب، إنما هي فقط للفقراء والمساكين.

 

حكمتها وفضلها

زكاة الفطر لها فضل عظيم يصل الى أفراد المجتمع كافة، ولها عدة حكم بالغة بيّنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه وسنته؛ فقد شرعت زكاة الفطر تطهيراً للنفس من أدرانها، من الشح وغيره من الأخلاق الرديئة، وتطهيراً للصيام ما قد يؤثر فيه وينقص ثوابه من اللغو والرفث ونحوهما، وتكميلاً للأجر وتنمية للعمل الصالح، ومواساة للفقراء والمساكين، وإغناء لهم من ذل الحاجة والسؤال يوم العيد؛ فعن ابن عباس مرفوعاً: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو واللعب، وطُعمة للمساكين".

 

تحقق زكاة الفطر مقصدين يعود أحدهما على المزكي والآخر على من مستحق الزكاة، أما الأول:

فهو تطهير الصائم مما عساه يكون قد وقع فيه مما يتنافى مع حكمة الصوم وأدبه، كالشتم والنظر المحرم والغيبة ونحو ذلك، مما يقع فيه كثير من الناس أثناء معاناة حياتهم اليومية؛ فتكون زكاة الفطر بمنزلة جبر لهذا النقص، أو تكفير له إلى جانب المكفرات الأخرى من الاستغفار والذكر والصلاة وغيرها. وهي بهذا المعنى تشبه عملية الترميم للصيام من اللغو والرفث ومما لا ينسجم مع طبيعة الصيام. ومما يعود كذلك على المزكي أيضاً أن هذه الصدقة تسهم في تطهير نفسه من داعية الشح، وتعوده البذل والعطاء قال -تعالى-: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)[التوبة103].

 

وأما المقصد الثاني: فهو أنها إعانة للمعوزين من الناس، خاصة في يوم العيد؛ فيوم العيد يوم فرح، ولذلك كان من الأوقات المُتخيرة لإخراج زكاة الفطر صبيحة يوم العيد وقبل الاجتماع للصلاة، حتى لا يحتاج الفقراء إلى التطواف على أبواب الأغنياء ليعطوهم، وحتى لا يكون بين المسلمين من هو منغص في هذا اليوم البهيج، وجاء في الحديث: "أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم".

 

فهي تسهم في تطهير النفس والمال، ورفع الدرجات، وحصول البركة، وزيادة الأجر والمثوبة، ونفي الفقر، ومواساة المحتاجين، وترابط المجتمع المسلم؛ فيوم العيد يوم فرح للمسلمين، ولا يريد الشرع أن يوجد في المسلمين في يوم فرحهم من يمد يده، ولا يريد الشرع أن يوجد في يوم فرح المسلمين من هو جائع، لذلك كان الأمر بزكاة الفطر ليغتني الفقير يوم الفرح، حتى يعيش المسلمون كلهم في فرحة واحدة متكاملة، وأن تعم هذه الفرحة بلا منغصات، كمنغص الجوع، ومنغص هم صاحب العيال بعياله، من أين يطعمهم، فليفرح العيال، ورب العيال جعل إغناء المساكين بالطعام في ذلك اليوم ليشاركوا بقية المسلمين الفطر فرحة حتى لا يكون هناك في مجتمع المسلمين من هو منغص في يوم العيد.

 

-أيضا- زكاة الفطر فيها تعويد النفس على المشاركة المجتمعية وبذل الخير ولو بأقل القليل؛ فمقدار زكاة الفطر يعتبر بالحسابات المادية ضئيلاً -صاعاً من طعام البلد وقوتها- ولكنه يحقق في النفس فكرة التعود على البذل والانفاق، التعود على الانصياع لأوامر الله، التعود على الشعور بحاجات الفقراء والمساكين.

 

لذلك أوجب الله زكاة الفطر على كل من ملك قوت يومه، كبير صغير، ذكر وأنثى، حر وعبد، بل إن غير المكلفين  كالأيتام، والمجانين، ونحوهم، يخرجها راعيهم من مالهم من له عليه ولاية شرعية؛ فإن لم يكن لهم مال فإنه يخرجها عنهم من ماله من تجب عليه نفقتهم، لعموم ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أدوا الفطر عمن تمونون".

 

وقت إخراج الزكاة

لإخراج زكاة الفطر وقتان:

الأول: وقت فضيلة ويبدأ من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد وأفضله ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد، لما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر". وفيه قال: "وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة"، وتقدم تفسير بعض السلف لقوله -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّ)[الأعلى:14] أنّه الرجل يقدم زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته.

 

الثاني: وقت أجزاء: وهو قبل يوم العيد بيوم أو يومين لما في صحيح البخاري -رحمه الله- قال: "وكانوا - يعني الصحابة - يعطون - أي المساكين - قبل الفطر بيوم أو يومين". فكان إجماعاً منهم. وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"، مقتضاه أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد. ولكنها لا تسقط بالتأخير سواءً بعذر أو بغير عذر، ويلزم أداؤها حتى لو خرج وقتها.

 

هل يجوز إخراج القيمة بدلاً عن الطعام

ذهب جمهور العلماء من السلف والخلف على أن زكاة الفطر تخرج من قوت البلد، ولا يجزئ إخراجها نقداً لأنها زكاة مخصوصة بقدر وهدف معين، ثبتت كيفيتها ومصارفها بنص ووحي معصوم لا يجوز المحيد عنه للقيمة من نقد أو خلافه؛ ففي الصحيح عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كنا نعطيها -يعني صدقة الفطر- في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من الزبيب".

 

قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "لا يُعطي القيمة"؛ فقيل له: قوم يقولون: "عمر بن عبدالعزيز كان يأخذ القيمة؟! قال: يدعون قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقولون: قال فلان".

وقد قال ابن عمر  -رضي الله عنهما-: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعاً من طعام".

 

في حين ذهب الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لجواز إخراج القيمة، وقد روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري -رحمهم الله-، ودليلهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أغنوهم في هذا اليوم"؛ فالإغناء يتحقق بالقيمة كما يتحقق بالطعام وربما كانت القيمة أفضل إذ كثرة الطعام عند الفقير تحوجه إلى بيعها والقيمة تمكنه من شراء ما يلزمه من طعام وملابس وسائر الحاجات.

المشاهدات 448 | التعليقات 0