زَكاَءُ العُقُول

                                                         زَكاَءُ العُقُول
                                                       1440/7/1هـ
                                                        الخطبة الأولى
   الْحَمدُ للهِ الَّذِي أحلَّنَا محلَّةَ الْفَهم، وحلانَا حليةَ الْعلم، وملَّكنَا عقالَ الْعقل، وزيننَا بزينةِ الْمنطق، وَصلى اللهُ على الْمَبْعُوثِ بجوامعِ الْكَلم، إِلَى أَعقلِ الْأُمَم، وعَلى جَمِيعِ أَتْبَاعِه والسائرينَ فِي منهاجِ أَتْبَاعِه وَسلمَ تَسْلِيمًا كثيرًا، أما بعد:
   (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)..
أيٌّهَا الإِخْوَةُ في الله:
    يُحكَى أن ابنَ الراوندي المشهورَ بحدةِ الذكاء، جاعَ يومًا، واشتدَ جوعُه، فجلسَ على جسرٍ وقدْ آلمَه الجوع، فمرتْ خيلٌ مزينةٌ بالحريرِ والديباج، فقال: لمنْ هذه؟ فقالُوا: لغلامِ الخليفة. ثمَّ مرتْ جوارِ مستحسنات، فقال: لمنْ هذه؟ فقالوا: لغلامِ الخليفة، وبعدَ بُرهةٍ منَ الزمنِ وابنُ الراوندي جالسٌ في مكانِه إذْ مرَ به رجلٌ فرآه وعليه أثرُ الضُّر، فرمى إليه رغيفين، فأخذهما ابنُ الراوندي ورمى بهما، وقال معترضًا على فقرِه وحالِه: هذا الحريرُ والديباجُ لغلامِ الخليفة، وهذانِ لي ؟!
    قال ابنُ الجوزي معلقًا على هذا الموقف: (نسي الجاهلُ الأحمقُ أنَّه بما يقولُ ويعترضُ ويفعلُ= أهلٌ لهذِه المجاعة)!
   إنه نموذجٌ أيُّها الإخوةُ الكرامُ لموقفٍ من مواقفِ العقولِ حينَ تضل، وحين ترتكسُ في الضلالةِ والشقاءِ، فهذا الذكاءُ المشؤومُ جعلَ هذا الرجل لا يستقرُ على مذهبٍ ولا نحلة، فتارةً يتهود، وتارةً يتزندق، وتارةً يتشيع، رغمَ أنه لمْ يكنْ في نظرائِه مثلُه في المعقولِ كمَا قالُوا، ولقدْ صدقَ الإمامُ الذهبيُ حينَ قالَ معلقًا على منْ هذَا حالُه: (لَعَنَ اللهُ الذَّكَاءَ بِلاَ إِيْمَانٍ، وَرَضِيَ اللهُ عَنِ البَلاَدَةِ مَعَ التَّقْوَى).
عِبَادَ الله:
    إنَّ هذا الرجلَ بهذا التصرفِ مع ذكاءِه الحاد، لهو قافلةٌ ممتدةٌ من قوافلِ الافتتانِ بالعقلِ إلى زمنِنا هذا واللهُ المستعان؛ حيث يصيرُ العقل إلهًا من دون الله، فيُزيِّنُ المعاصي باسمِ العقلانية، ويروِّج الإلحاد، على أنه حريةُ الفكر، ويَعبَث بالمسلَّماتِ والمحكماتِ باسمِ القراءةِ الحرةِ للنصوص، وفي مثلِ أصحابِ هذا العقل يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَٰذَا  أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ).
     إنَّ الفيصلَ بينَ الذكاءِ والدهاء؛ هوَ في زكاءِ النفس، وللهِ درُّ الإمام ابن تيميةَ رحمَه اللهُ تعالى حينَ قالَ عنْ أهلِ الكلام: (أُوتُوا ذَكَاء، وَمَا أُوتُوا زكَاءً، وَأُعْطُوا فُهُومًا وَمَا أُعْطُوا عُلُومًا، وَأُعْطُوا سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً  {فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}).
أيُّها العُقَلاء:
    الإسلامُ ليس حربًا على العقل، ولا عدوًا للتفكير، بلْ ليسَ كتابٌ أكثرُ منَ القرآنِ في الحفاوةِ بالعقل، اقرؤُوا إنْ شئتُم: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) قالَ القرطبيُ رحمَه الله: (وَالصَّحِيحُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْه، أَنَّ التَّفْضِيلَ إِنَّمَا كَانَ بِالْعَقْل، الَّذِي هُوَ عُمْدَةُ التَّكْلِيفِ، وَبِهِ يُعْرَفُ اللَّهُ وَيُفْهَمُ كَلَامُهُ...) ومِنْ أجلِ إرساءِ التصورِ الإسلاميِّ للعقل، فقدْ جرى ذكرُه في سبعين موردًا في كتابِ ربِّنا، ناهيكم عن مرادفاتِه كالتفكرِ والتأمل، والتي يشقُ حصرُ مواردِها؛ لكثرةِ ذكرِها في كتاب الله تعالى.
    ومن ذكاءِ العربيةِ: تسميةُ العقلِ عقلًا؛ لأنه يَعقلُ صاحبَه عنِ التهافت؛ ولهذا استقى الأعلامُ منها تعريفَ العقلِ بمفهومِه الصحيح،كقولِ وكيع بن الجراح: (الْعَاقِلُ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمْرَهُ، وَلَيْسَ مَنْ عَقَلَ تَدْبِيرَ دُنْيَاهُ).
    وقالَ لقمانُ الحكيم: (إنما العاقلُ مَنْ يخافُ اللهَ عزَّ وجل).
   ويقول ابنُ حزم رحمَه الله: (وَقد نَصَّ اللهُ تَعَالَى فِي غير مَوضِعٍ من كِتَابِه على أَن من عَصَاهُ لَا يعقل).
               وَكَيْفَ يُرْجَى أَنْ تَتُوبَ وَإِنَّمَا
                                                يُرْجَى مِنَ الْفَتَيَانِ مَنْ كَانَ ذَا عَقلِ!
 مَعَاشِرَ المُؤْمِنِين:
    وتعريفُ العقلِ بأنه الفهمُ عن اللهِ قبسٌ من نورِ القرآن: (لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا) قالَ الضَّحَّاك: (من كان عاقلًا)، وقال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ)، وإذا كانَ أجودُ تفاسيرِ القرآنِ هوَ القرآنُ نفسُه، فإنَّه بيَّنَ أنَّ أهلَ العقولِ همْ: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
      وإن من مزايا هذا المفهوم للعقل: هوَ التلازمُ الوثيقُ بينَ الإيمانِ والعقل، فالعقلُ ملازمٌ للإيمان، والإيمانُ ملازمٌ للعقل، وليسَ هذا المفهومُ فيه أدنى دعوةٍ إلى تعطيلِه، فقيمةُ العقلِ إنمَا هوَ في صرفِه إلى الخير، وأمَا الدهاءُ والمكرُ فمذموم؛ لأن فيه صرفًا لنعمةِ العقلِ إلى الشر، كسائرِ حواسِ الإنسان، إنمَا يعظمُ نفعُها بصرفِها إلى الخير، وأمَا حينَ تُصْرَفُ في الشر، فكأنَّها ما كانت: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
أيُّهَا الأَحِبَّة:
    إنَّ العقلَ وفقَ المفهومِ الصحيحِ تصفيةٌ له من الشر، وقطعٌ للوشائجِ بينَه وبينَ المكرِ والخديعة، قَالَ حَفْصُ بْنُ حُمَيْدٍ: (مِنْ وَرَعِ الرَّجُلِ: ألَّا يَخْدَعَ، وَمِنْ عَقْلِهِ: ألَّا يُخْدَعَ). قالَ أبُو حاتم في روضتِه: (هذه كلمةٌ جامعة).
    ومن مزايا هذا المفهوم للعقل: أنه يصيرُ هاديًا إلى عملِ الخير، يقولُ سفيانُ بن عيينة رحمَه الله تعالى: (ليسَ العاقلُ الذي يعرفُ الخيرَ والشر، ولكنَّ العاقلَ الذي يعرفُ الخيرَ فيتبعُه، ويعرفُ الشر فيتجنبُه)، وبه يوفقُ المؤمنُ لمعرفةِ الحق، يقولُ الشافعيُ لأصحابِه: (كلُ مَا قلتُ لكم، فلمْ تشهدْ عليه عقولُكم وتقبلْه، وتره حقًا فلا تقبلُوه، فإنَّ العقلَّ مضطرٌ إلى قبولِ الحق).
    أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا  فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). 
الخطبة الثانية
أمَّا بعد،
    قالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي إِسْمَاعِيلَ: (كُنَّا نُجَالِسُ مَنْصُورَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْمَعْ عَلَى الْهُدَى أَمْرَنَا، وَاجْعَلِ التَّقْوَى زَادَنَا، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ مَآبَنَا، وَارْزُقْنَا شُكْرًا يُرْضِيكَ عَنَّا، وَوَرَعًا يَحْجُزُنَا عَنْ مَعَاصِيكَ، وَخُلُقًا نَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ، وَعَقْلًا تَنْفَعُنَا بِهِ.
    قال محمد: فَكَانَ إِذَا ذَكَرَ الْعَقْلَ يَأْخُذُنِي مِنْهُ الضَّحِكُ، فَقَالَ لِي ذَاتَ يَوْمٍ: لِأَيٍّ شَيْءٍ تَضْحَكُ؟ إِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ عِنْدَهُ كَذَا، وَيَكُونُ عِنْدَهُ كَذَا، فَلَا يَكُونُ لَهُ عَقْلٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ).
    وصَدَق! فإن أفضلَ مواهبِ الله، وأعظمَ مننِه بعدَ الإسلام، هوَ العقل، ولقدْ أحسنَ  الشاعرُ حينَ قال:
      وَأَفضَلُ قَسَمِ اللَّهِ لِلمَرْءِ عَقْلُه
                                  فَلَيْسَ مِنَ الخَيْرَاتِ شَيءٌ يُقَارِبُه
       إِذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلمَرءِ عَقْلُه
                                     فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلَاقُهُ وَمَآرِبُه
      وحسبُ العقلِ شرفًا مَا قَاله الإمامُ الحسنُ البصريُ في قولِه تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}قال: (إِنَّمَا عَاتَبَهُمْ لِأَنَّهُ يُحِبُّهُمْ).
   وسُئِل عطاءُ بنْ أَبِي رباح: يَا أبَا مُحَمَّد مَا أفضلُ مَا أُعطِي العبد؟ قَال: العقلُ عَنِ الله.
أيها المؤمنون:
     وإنه لا يتمُ للمرءِ صلاحٌ دونَ وفورِ عقلِه فمقياسُ الصلاحِ ليسَ في الشكلِ والمظهرِ فحسب، ومَا أعظمَ فقهَ أصحابِ الشَّافِعِيِّ حين قالوا فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَعْقَلِ النَّاسِ أَنَّهُ يَكُونُ مَصْرُوفًا فِي العُبَّاد الزُّهَّاد؛ لِأَنَّهُمْ انْقَادُوا لِلْعَقْل، وَلَمْ يَغْتَرُّوا بِالْأَمَلِ.
    والعقلُ حيثُ مَا وُجِد، يكونُ معززًا مكرمًا ويسودُ غيرَه، حتى إنَّ الحيوانَ إذَا رأَى إنسانًا احتشمَه بعضَ الاحتشام، وانزجرَ بهِ بعضَ الانزجار، ولذلكَ تنقادُ البهائمُ للراعي والراكب، وهي أقوى منه وأشد (لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ).
 وَبَعدُ عِبَادَ الله:
     فإنَّ هذا غيضٌ من فيضِ فضائلِ العقل، وقطرةٌ من بحرِ محاسنِه؛ ليكونَ باعثًا لنا على نشدانِ زيادتِه، وأعظمُ طريقٍ إلى ذلك هيَ التجارِب؛ ولهذا كانتِ العـــــــربُ تقول: (العقلُ: التجارِب).
     أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعَقْلَ زَيْنٌ لِأَهْلِهِ
                               وَلَكِنْ تَمَامُ الْعَقْلِ طُولُ التَّجَارِبِ
      وفي سبيلِ زيادةِ العقل: يُحذَرُ ممَّا ينقصُه ويهمُه كالغمِ والحزنِ، فكثرةُ الغمِ تزري به، ودوامُ الحزنِ ينقصُه، ويا للأسى على أقوامٍ أُتُوا ذكاءً ولمْ يؤتوا زكاءً،  وصدقَ اللهُ وكذبَ المبطلون: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ  وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).
   اللَّهُمَّ اجْمَعْ عَلَى الْهُدَى أَمْرَنَا، وَاجْعَلِ التَّقْوَى زَادَنَا، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ مَآبَنَا، وَارْزُقْنَا شُكْرًا يُرْضِيكَ عَنَّا، وَوَرَعًا يَحْجُزُنَا عَنْ مَعَاصِيكَ، وَخُلُقًا نَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ، وَعَقْلًا تَنْفَعُنَا بِهِ يَا ذَا الْجَلَالِ والإِكْرَام.
     اللهم إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ، وَالحُزْن، وَالْعَجْز، وَالْكَسْل، وَالجُبْن، وَالْبُخْل، وَغَلَبَةِ الدِّين، وَقَهْرِ الْرِّجَال.
المرفقات

العقول

العقول

المشاهدات 1238 | التعليقات 0