ريح الجنة

رِيحُ الجَنَّةِ
8/2/1434

الحَمْدُ للهِ الغَنِيِّ الحَمِيدِ؛ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ عَمَلٍ وَشَقَاءٍ، وَجَعَلَ الآخِرَةَ دَارَ القَرَارِ، وَلِلدُّنْيَا عُمَّالُهَا، وَلِلْآخِرَةِ عُمَّارُهَا، [وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا] {الإسراء:19}، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ وَنَتُوبُ وَنَسْتَغْفِرُهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ هَادِي القُلُوبِ، وَمُغْدِقُ النِّعَمِ، وَدَافِعُ النِّقَمِ، وَغَافِرُ الذَّنْبِ، وَقَابِلُ التَّوْبِ، شَدِيدُ العِقَابِ، ذُو الطَّوْلِ؛ [لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ] {غافر:3}، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أُرِي الجَنَّةَ وَالنَّارَ؛ فَرَأَى المُنَعَّمِينَ وَرَأَى المُعَذَّبِينَ، وَقَالَ مُحَذِّرًا أُمَّتَهُ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ»، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَاعْمَلُوا صَالِحًا؛ فَإِنَّ أَمَامَكُمْ بَعْثًا وَنُشُورًا، وَحِسَابًا وَجَزَاءً، وَنَعِيمًا أَوْ عَذَابًا؛ فَطُوبَى لِلْمُنَعَّمِينَ، وَيَا حَسْرَةً لِلْمُعَذَّبِينَ؛ [وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ] {الزُّخرف:77-78}.
أَيُّهَا النَّاسُ: جَعَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا أَمْثِلَةً لِلْآخِرَةِ تُقَرِّبُ صُورَتَهَا؛ لِيَعْتَبِرَ العِبَادُ بِهَا، وَيَقِيسُوا عَلَيْهَا، فَيَنْقَادُوا لِلْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَيَخَافُوا الكُفْرَ وَالعِصْيَانَ.
فَعَذَابُ الآخِرَةِ بِالنَّارِ، وَفِي الدُّنْيَا نَارٌ تُذَكِّرُ بِهَا، وَلَكِنْ شَتَّانَ بَيْنَهُمَا، وَفِي النَّارِ سَلاَسِلُ وَأَغْلاَلُ وَأَقْذَارٌ وَعَقَارِبُ وَحَيَّاتٌ وَمَخْلُوقَاتٌ مُخِيفَةٌ مُؤْذِيَةٌ لِتَعْذِيبِ أَهْلِ النَّارِ بِهَا، وَفِي الدُّنْيَا مَا يُذَكِّرُ بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهَا.
وَفِي الآخِرَةِ جَنَّاتٌ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ مَا يَجِلُّ عَنِ الوَصْفِ، وَيَعِزُّ عَلَى الحَصْرِ، وَمَا هُوَ فَوْقَ سَمْعِ الآذَانِ، وَرُؤْيَةِ الأَعْيُنِ، وَخَوَاطِرِ القُلُوبِ، وَفِي الدُّنْيَا نَعِيمٌ زَائِلٌ قَلِيلٌ يُذَكِّرُ بِنَعِيمِ الآخِرَةِ الكَثِيرِ الدَّائِمِ.
فَكُلُّ نَعِيمٍ فِي الدُّنْيَا يَجِبُ أَنْ يُذَكِّرَ المُؤْمِنَ بِنَعِيمِ الآخِرَةِ، وَكُلُّ عَذَابٍ فِي الدُّنْيَا يَجِبُ أَنْ يُذَكِّرَهُ بِعَذَابِ الآخِرَةِ؛ فَإِنَّ فِي التَّذْكِرَةِ حَيَاةَ القَلْبِ، وَالجِدَّ فِي العَمَلِ، وَالسَّعْيَ لِلْكَسْبِ، وَفِي الغَفْلَةِ مَوْتُ القَلْبِ، وَفُتُورُ النَّفْسِ، وَتَفْرِيطٌ فِي العَمَلِ الصَّالِحِ.
وَإِذَا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى البَشَرِ فِي الدُّنْيَا بِالْغَيْثِ المُبَارَكِ؛ فَغَسَلَ سَمَاءَهُمْ، وَطَهَّرَ أَجْوَاءَهُمْ، وَأَنْبَتَ أَرْضَهُمْ؛ انْتَعَشَتْ بِالْغَيْثِ نُفُوسُهُمْ، وَتَوَالَتْ أَرْزَاقُهُمْ، وَتَتَابَعَتْ نِعَمُهُمْ، وَاكْتَمَلَتْ لَذَّاتُهُمْ، فَوَجَدُوا لِذَلِكَ سُرُورًا وَحُبُورًا.
وَلِلْغَيْثِ رِيحٌ يَمْلَأُ الخَيَاشِيمَ، فَيَنْزِلُ عَلَى الصُّدُورِ وَالقُلُوبِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِيهَا، وَهِيَ أَعْظَمُ لَذَّةً مَادِّيَّةً يَعِيشُونَهَا فِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ، ثُمَّ إِذَا أَنْبَتَتِ الأَرْضُ زَكَتْ بِالنَّبَاتِ، فَانْبَعَثَتْ مِنْهَا رَوَائِحُ طَيِّبَةٌ تَزِيدُ فِي سُرُورِ النَّاسِ، وَيَجِدُونَ طَعْمَهَا وَلَذَّتَهَا فِي أَلْبَانِ نِعَمِهِمْ وَلُحُومِهَا، وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يُذَكِّرَ العِبَادَ بِرِيحِ الجَنَّةِ؛ فَإِنَّ رِيحَ النَّدَى، وَرِيحَ أَثَرِ الغَيْثِ فِي الأَرْضِ وَفِي النَّبَاتِ، وَأَثَرَهُ فِي الأَلْبَانِ وَاللُّحُومِ مُذَكِّرٌ بِرِيحِ الجَنَّةِ، وَرِيحِ نَبَاتِهَا، وَرِيحِ أَشْجَارِهَا، وَرِيحِ طَعَامِهَا، وَرِيحِ شَرَابِهَا، وَرِيحِ لِبَاسِهَا، وَرِيحِ قُصُورِهَا، وَرِيحِ نِسَائِهَا.
إِنَّ فِي الجَنَّةِ رَوَائِحُ مُتَنَوِّعَةٌ طَيِّبَةٌ، لاَ يُدَانِي اليَسِيرَ مِنْهَا رَوَائِحُ الدُّنْيَا كُلَّهَا، وَلَوْ جُمِعَتْ أَزْهَارُ الدُّنْيَا وَنَبَاتُهَا الطَّيِّبُ، وَاسْتُخْرِجَ مِنْ أَطْيَبِهَا أَطْيَبُ رِيحٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، لَمَا بَلَغَ عُشْرَ مِعْشَارِ أَقْلِّ رِيحٍ فِي الجَنَّةِ، وَلَيْسَ فِي الجَنَّة قَلِيلٌ، بَلْ نَعِيمٌ كَثِيرٌ؛ [وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا] {الإنسان:20}.
إِنَّ رَوَائِحَ الدُّنْيَا الطَّيِّبَةِ تُقَدَّرُ أَثْمَانُهَا بِحَسَبِ نَفَاذِ رَائِحَتِهَا، وَزَكَائِهَا وَطِيبِهَا، وَطُولِ بَقَائِهَا، وَمَا فِي الجَنَّة إِلاَّ رَوَائِحُ طَيِّبَةٌ، وَيَشُمُّهَا مَنْ قَرُبَ وَمَنْ بَعُدَ مَهْمَا كَانَ بُعْدُهُ عَنْهَا، وَهِيَ رَوَائِحُ طَيِّبَةٌ تَدُومُ فَلاَ تَنْقَطِعُ، وَلاَ تَقِلُّ، وَلاَ يَضْعُفُ أَثَرُهَا.
وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَخْبَرَ عَنْ رِيحِ الجَنَّةِ ذَكَرَ أَنَّهُ يُوجَدُ مِنْ مَسَافَاتٍ بَعِيدَةٍ، وَمِمَّا وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَمِنْ مَسِيرَةِ مِئَةِ سَنَةٍ، وَمِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِئَةِ سَنَةٍ، كُلُّ ذَلِكَ جَاءَتْ بِهِ الأَحَادِيثُ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: [يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ] {المطَّففين:25-26}، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:« شَرَابٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الفِضَّةِ، يَخْتِمُونَ بِهِ شَرَابَهُمْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا أَدْخَلَ إِصْبَعَهُ فِيهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا لَمْ يَبْقَ ذُو رُوحٍ إِلاَّ وَجَدَ طِيبَهَا».
وَرِيحُ الجَنَّةِ هُوَ أَوَّلُ مَا يُسْتَقْبَلُ بِهِ أَهْلُهَا؛ لِأَنَّ الرَوَائِحَ الطَّيِّبَةَ تَدُلُّ عَلَى طِيبِ المَكَانِ، وَالإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ إِذَا اسْتَأْجَرَ نُزُلًا أَوْ قَصَدَ مُنْتَزَهًا، فَأَوَّلُ مَا يُرَغِّبُهُ فِيهِ أَوْ يُنَفِّرُهُ مِنْهُ رِيحُهُ.
وَإِذَا زَارَ قَرِيبًا أَوْ صَدِيقًا فَيُعْجِبُهُ أَنْ يَجِدَ فِي مَجْلِسِهِ رَوَائِحَ طَيِّبَةً، وَيَنْفِرُ مِنَ الرَوَائِحِ الخَبِيثَةِ، وَلَيْسَ مَنِ اسْتُقْبِلَ بِرِيحِ بُخُورٍ أَوْ طِيبٍ كَمَنِ اسْتُقْبِلَ بَرِيحِ خَمْرٍ وَدُخَانٍ، وَقَدْ يُرِيدُ الزَّائِرُ التَّخْفِيفَ فِي زِيَارَتِهِ فَيُطِيلُهَا مِمَّا يَجِدُ مِنْ رِيحٍ طَيِّبَةٍ، وَقَدْ يُرِيدُ المُكْثَ طَوِيلاً فَتَطْرُدُهُ رِيحٌ خَبِيثَةٌ.
وَتَبْدَأُ قِيَامَةُ الإِنْسَانِ بِمَوْتِهِ، فَالمُؤْمِنُ المُقَرَّبُ تَسْتَقْبِلُهُ المَلائِكَةُ بِالرَّيْحَانِ، وَهُوَ نَبْتٌ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، وَالاسْتِقْبَالُ بِطِيبِ الرَّيْحَانِ عَلاَمَةٌ عَلَى مَا بَعْدَهُ مِنَ النَّعِيمِ وَطِيبِ المَنْزِلِ وَالمُقَامِ؛ [فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ] {الواقعة:88-89}، وَتُخَاطَبُ رُوحُ المَيِّتِ المُؤْمِنِ -كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- فَيُقَالُ لَهَا: «اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ، فَبُشِّرَتْ بِالرَّيْحَانِ.
وَحِينَمَا يُوضَعُ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ، وَتُعَادُ رُوحُهُ إِلَى جَسَدِهِ، وَيُسْأَلُ عَنْ رَبِّهِ وَنَبِيِّهِ وَدِينِهِ فَيُجِيبُ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَجِدُ مِنَ النَّعِيمِ إِذَا فُتِحَ لَهُ بَابٌ فِي قَبْرِهِ إِلَى الجَنَّةِ أَنَّهُ يَجِدُ رِيحَهَا، كَمَا فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الجَنَّة، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا، وَطِيبِهَا»؛ أَيْ: مِنْ نَعِيمِهَا وَرَوَائِحِهَا.
وَاسْتِقْبَالُ المُؤْمِنِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَفِي قَبْرِهِ بِالرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ يَشِي بِأَدَبٍ نَتَعَلَّمُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ اسْتِقْبَالُ الضُّيُوفِ بِالطِّيبِ، وَتَطْيِيبِ المَجَالِسِ لَهُمْ، لاَ كَمَا اعْتَادَهُ النَّاسُ الْيَوْمَ مِنْ تَوْدِيعِهِمْ بِالطِّيبِ، وَعَدَمِ اسْتِقْبَالِهِمْ بِهِ.
وَثَمَّةَ ذُنُوبٌ تَمْنَعُ أَصْحَابَهَا مِنْ رَائِحَةِ الجَنَّةِ إِمَّا عَلَى الدَّوَامِ، أَوْ ابْتِدَاءً فَيَسْبِقُهُمُ النَّاسُ إِلَى رِيحِ الجَنَّةِ، وَهُمْ يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ رِيحَ الجَنَّةِ أَبَدًا هُمُ الكُفَّارُ وَالمُنَافِقُونَ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«فِي أُمَّتِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا لَا يَدْخُلُونَ الجَنَّة، وَلَا يَجِدُونَ رِيحَهَا، حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهَؤُلاَء ِكَانُوا فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى، وَإِلاَّ فَكُلُّ كَافِرٍ وَكُلُّ مُنَافِقٍ نِفَاقًا اعْتِقَادِيًّا، فَإِنَّهُ لاَ يَجِدُ رِيحَ الجَنَّةِ.
وَأَمَّا مَنْ تَحْجِزُهُمْ ذُنُوبُهُمْ عَنْ رِيحِ الجَنَّةِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُمْ أَوْ يُطَهَّرُوا مِنْهَا، فَجُمْلَةٌ مِنْ عُصَاةِ المُسْلِمِينَ، مِنْهُمْ: «نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ، مَائِلَاتٌ رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الجَنَّة وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ تَعَلَّمَ العِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، وَمَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ نَسَبِهِ، وَمَنْ غَشَّ رَعِيَّتَهُ وَلَمْ يَنْصَحْ لَهَا، وَمْن خَضَّبَ شَعَرَهُ بِالسَّوَادِ، وَمِنْهُمُ امْرَأَةٌ طَلَبَتِ الطَّلاَقَ بِلاَ سَبَبٍ وَجِيهٍ؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الله عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّة يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يَعْنِي: رِيحَهَا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّة»رواه البخاري.
وقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ لَمْ يَرَحْ رِيحَ الجَنَّة»؛ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّة»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخْضِبُونَ بِهَذَا السَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ لَا يَجِدُونَ رَائِحَةَ الجَنَّة»؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ، فَحَرَامٌ عَلَيْهِا رَائِحَةُ الجَنَّة»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى الجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّ أَهْلَ التَّقْوَى هُمْ أَهْلُ الجَنَّةِ، وَالتَّقْوَى هِيَ فِعْلُ الأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي: [إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ] {القمر:54-55}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: رِيحُ الجَنَّةِ وَمَا رِيحُ الجَنَّة! كَمِ اشْتَاقَ إِلَى رِيحِهَا العُبَّادُ الصَّالِحُونَ فَتَجَافَوْا عَنِ المَضَاجِعِ رُكَّعًا سُجَّدًا يَدْعُونَ رَبَّهُمْ طَمَعًا فِي رِيحِهَا، وَخَوْفًا مِنْ حِرْمَانِهَا، وَوَجَدَ رِيحَهَا بَعْضُ المُجَاهِدِينَ فَسَابَقُوا إِلَى رِمَاحِ العَدُوِّ وَسُيُوفِهِ يَتَلَقَّوْنَ مِنْهَا المنُونَ لِيَبْلُغُوا مُنَاهُمْ، فَيَنْعَمُوا بِرَوحِ الجَنَّةِ وَرِيحِهَا؛ مِنْهُمْ: أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لَمَّا هُزِمَ النَّاسُ فِي أُحُدٍ، تَقَدَّمَ إِلَى المُشْرِكِينَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ، -يَعْنِي المُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ:«يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةُ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
يَا لِلَّهِ العَظِيمِ! مَا أَطْيَبَ رِيحَ الجَنَّةِ، بِضْعٌ وَثَمَانُونَ جِرَاحَةً بِسَيْفٍ وَرُمْحٍ وَسَهْمٍ مَا رَدَّتْ أَنَسًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ التَّقَدُّمِ إِلَى المُشْرِكِينَ حَتَّى لَقِيَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ رِيحَ الجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ فَنَسِيَ مَا هُوَ فِيهِ، وَلَوْلاَ أَنَّ لِلْجِنَّةِ رِيحًا يُنْسِي الدُّنْيَا كُلَّهَا، وَمَلَذَّاتِهَا كُلَّهَا، لَمَا قَالَ أَنَسٌ مَا قَالَ، وَلَمَا تَقَدَّمَ وَأَلْقَى بِنَفْسِهِ عَلَى الأَعْدَاءِ وَحْدَهُ!
إِنَّهُ رِيحُ الجَنَّةِ وَلَيْسَ رِيحَ شَيْءٍ آخَرَ، وَمَا يُلاَمُ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي فِعْلِهِ هَذَا، وَقَدْ وُصِفَتْ لَنَا الجَنَّةُ وَرِيحُهَا، وَلَنْ نَبْلُغَ حَقِيقَتَهَا مَهْمَا وُصِفَتْ لَنَا إِلاَّ أَنْ نَدْخُلَهَا فَنَمْلَأَ أُنُوفَنَا وَصُدُورَنَا مِنْ رِيحِهَا، جَعَلَنَا اللهُ تَعَالَى وَوَالِدِينَا وَأَهْلِينَا وَآلَنَا مِنْ أَهْلِهَا، آمِينَ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رِيحِ الجَنَّةِ إِلاَّ رِيحُ نِسَائِهَا لَكَفَى العِبَادَ عَمَلاً لَهَا، وَجِدًّا فِي تَحْصِيلِهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّة اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَزَّارِ: «لَمَلَأَتِ الْأَرْضَ رِيحَ مِسْكٍ».
اللهُ أَكْبَرُ، امْرأَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ لَوْ أَطَلَّتْ عَلَى الأَرْضِ لَتَلاَشَتْ رَوَائِحُ الأَرْضِ كُلُّهَا، وَلَعَمَّ رِيحُ طِيبِهَا جَمِيعَ الأَرْضِ بِإِطْلاَلَةٍ وَاحِدَةٍ! فَمَا قِيمَةُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ مَلَذَّاتٍ وَشَهَوَاتٍ أَمَامَ الجَنَّةِ؟!
فَالعَمَلَ العَمَلَ لِلْجَنَّةِ وَرِيحِهَا، فَوَ اللهِ لَنْ يَشْقَى عَبْدٌ وَجَدَ رِيحَ الجَنَّةِ، وَلَنْ يَسْعَدَ مَنْ حُرِمَ رِيحَهَا؛ [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّة فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ] {آل عمران:185}.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

ريح الجنة.doc

ريح الجنة.doc

رِيحُ الجَنَّةِ.doc

رِيحُ الجَنَّةِ.doc

المشاهدات 5317 | التعليقات 9

بارك الله فيك الشيخ إبراهيم ونفع بك
أسأل الله بمنه وكرمه أن يدخلنا جنات النعيم إخواناً على سرر متقابلين
اللهم آمين.. اللهم آمين .. اللهم آمين


بيض الله وجهك يا شيخ ابراهيم وأسأل الله أن يجمعنا بكم في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء


جزاك الله خيرا ونفع بعلمك


جزاك الله خير ياشيخنا ونفع الله بعلمك الاسلام والمسلمين


الأخوة الأكارم علي السالم وأبو مزون وشبيب القحطاني وعبدالعزيز الدلبحي أشكر لكم مروركم وتعليقكم على الخطبة وأسأل الله تعالى أن يجزيكم عني خيرا وأن ينفع بكم.. آمين


سلمت أناملك وربي إني تأثرت من دررك ياشيخي الفاضل

جزاك ربي الفردوس الأعلى

وجعل ما تقووول في موازين حسنااانك يااارب العالمين

كم أحبك في الله

حفظك الباري


موضوع رائع وطرح مميز كتب الله أجرك ونفع بعلمك وجعلنا جميعا ممن يشم رائحة الجنة ويدخلها


للهم بارك في شيخنا وتقبل منا ومنه
الشيخ لا يكتب في موضوع الا ويأتي بالفرائد والفوائد، يحسن في اختيار الموضوع وجمع مادته فجزاه الله عنا خير الجزاء


الإخوة الأكارم قلبي دليلي ومنديل الفقيه وأبا عمر الطائفي شكر الله تعالى لكم مروركم وتعليقكم على الخطبة، وأسأل الله تعالى أن يجزيكم خيرا وأن ينفع بكم.. اللهم آمين.