رمضان وغض البصر
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
3/9/1434
الحَمْدُ للهِ الخَلَّاقِ العَلِيمِ؛ [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] {غافر:19}، وَخَلَقَ الإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ؛ فَقَدْ بَلَّغَنَا هَذَا الشَّهْرَ الكَرِيمَ، وَأَمَدَّنَا فِيهِ بِأَنْوَاعِ النَّعِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ عَظِيمٌ شَأْنُهُ، وَاسِعٌ عِلْمُهُ، مَاضٍ حُكْمُهُ، عَدْلٌ قَضَاؤُهُ، لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، خَبِيرٌ بِخَلْقِهِ، لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُمْ، وَلاَ تُدْرِكُهُ أَبْصَارُهُمْ، وَلاَ تُحِيطُ بِهِ عُلُومُهُمْ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَشَّرَ أَصْحَابَهُ برَمَضَانَ، وَعَلَّمَ أُمَّتَهُ أَحْكَامَ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَعَظَّمَ فِي نُفُوسِهِمْ حُرْمَةَ الشَّهْرِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالأَجْرِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَجِدُّوا وَاجْتَهِدُوا فِي هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ؛ فَإِنَّ سِلْعَةَ اللهِ تَعَالَى غَالِيَةٌ، وَإِنَّهَا تُنَالُ بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، حَافِظُوا عَلَى الفَرَائِضِ، وَأَتْبِعُوهَا بِالنَّوَافِلِ، لاَزِمُوا المَسَاجِدَ، وَلاَ تُفَارِقُوا المَصَاحِفَ، أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَاسْقُوا العَطْشَانَ، وَابْذُلُوا الإِحْسَانَ، وَأَكْثِرُوا مِنَ البِرِّ، وَاحْتَسِبُوا الأَجْرَ؛ [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] {البقرة:110}.
أَيُّهَا النَّاسُ: شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الخَيْرَاتِ وَالبَرَكَاتِ، وَالكَفِّ عَنِ المُحَرَّمَاتِ، فَرَضَ اللهُ تَعَالَى صِيَامَهُ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَعَلَّلَ الصِّيَامَ بِالتَّقْوَى؛ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183}.
وَمِنَ التَّقْوَى حِفْظُ الأَبْصَارِ عَنِ رُؤْيَةِ الحَرَامِ، وَحِفْظُ الأَسْمَاعِ عَنْ سَمَاعِهِ، وَمَعْصِيَةُ النَّظَرِ إِلَى الحَرَامِ تَكَادُ تَكُونُ المَعْصِيَةَ الأَكْثَرَ وُقُوعًا فِي هَذَا الزَّمَنِ، بَلْ هِيَ الأَكْثَرُ، وَيَقْتَرِنُ بِهَا فِي الغَالِبِ مَعْصِيَةُ سَمَاعِ الحَرَامِ، وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ إِلَى الحَرَامِ أَكْثَرَ مِنْ سَمَاعِهِ.
إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ فَتَحَ لِلْبَشَرِيَّةِ وَسَائِلَ الاتِّصَالِ، وَهَيَّأَ لَهُمْ غَزْوَ الفَضَاءِ بِالأَقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ فَتْحًا عَظِيمًا فِي البَثِّ المُبَاشِرِ مِنْ أَيِّ مَكَانٍ فِي الأَرْضِ، فَهَبَطَتْ مِئَاتُ القَنَوَاتِ مِنَ الفَضَاءِ عَلَى بُيُوتِ النَّاسِ، وَصَارَ كُلُّ شَيْءٍ يُعْرَضُ فِيهَا، وَلاَ يُمْكِنُ الرَّقَابَةُ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ النِّظَامَ العَالَمِيَّ إِلْحَادِيُّ التَّأْصِيلِ، عَلْمَانِيُّ النَّشْأَةِ، شَهْوَانِيُّ الغَايَةِ؛ صَارَ مَا يُعْرَضُ فِي الفَضَاءِ، وَيَصِلُ إِلَى النَّاسِ فِي البُيُوتِ مُرْتَكِزًا عَلَى تَرْفِيهِ الإِنْسَانِ بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ، فَشَرُّهُ بَحْرٌ مُظْلِمٌ كَبِيرٌ، وَخَيْرُهُ قَطَرَاتٌ فِي ذَلِكَ البَحْرِ المُنْتِنِ، وَعَظُمَتْ بِهَذَا الفَتْحِ مَعْصِيَةُ النَّظَرِ إِلَى الحَرَامِ، وَاقْتَحَمَتْ عَلَى النَّاس غُرَفَهُمْ.
وَالعَاكِفُونَ عَلَى الشَّاشَاتِ لاَ تَكَادُ تَمُرُّ عَلَيْهِمْ لَحْظَةٌ لاَ يَقَعُونَ فِيهَا فِي مَعْصِيَةِ النَّظَرِ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ القَنَوَاتِ مَمْلُوءَةٌ بِذَلِكَ، فِي البَرَامِجِ الجَادَّةِ وَالهَازِلَةِ، وَالأَفْلاَمِ وَالمُسَلْسَلاَتِ وَالدِّعَايَاتِ الإِعْلانِيَّةِ، بَلْ حَتَّى أَخْبَارُ المَذَابِحِ وَالمَجَازِرِ تُلْقِيهَا عَلَى المُشَاهِدِينَ امْرَأةٌ جَمِيلَةٌ سَافِرَةٌ فِي أَبْهَى حُلَّتِهَا، وَمُنْتَهَى زِينَتِهَا، وَأَلِفَ النَّاسُ النَّظَرَ إِلَى الحَرَامِ، وَصَارَ جُزْءًا مِنْ عَيْشِهِمْ فَاقَ فِي كَثْرَتِهِ طَعَامَهُمْ وَشَرَابَهُمْ، وَنَافَسَ هَوَاءَهُمْ.
ثُمَّ جَاءَتِ الشَّبَكَةُ الْعَنْكَبُوتِيَّةُ فَعُرِضَتْ فِيهَا مَلَايِينُ الْمَقَاطِعِ وَالصُّوَرِ، وَأُتِيحَتْ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي جِهَازِهِ الْخَاصِّ، فَعَظُمَتْ مَعْصِيَةُ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ وَاتَّسَعَتْ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجِدُهُ الْمَرْءُ فِي الْفَضَائِيَّاتِ صَارَ يَجِدُهُ فِي جِهَازِهِ الْخَاصِّ، وَمَا يَسْتَحِي أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ أَمَامَ النَّاسِ يُبْصِرُهُ وَحْدَهُ.
ثُمَّ جَاءَتِ الْهَوَاتِفُ الذَّكِيَّةُ فَاتَّسَعَتْ مَعْصِيَةُ النَّظَرِ إِلَى الحَرَامِ اتِّسَاعًا عَظِيمًا حَتَّى دَخَلَتْ مَعَ النَّاسِ دُورَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَأَمَاكِنَ التَّبَتُّلِ وَالْعِبَادَةِ؛ لَأَنَّهُ يَحْمِلُ جِهَازَهُ فِي جَيْبِهِ، وَتَأْتِيهِ الْمَقَاطِعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ!
إِنَّ مَنْ يُحَاوِلُ أَنْ يُحْصِيَ كَمْ يَقَعُ الْوَاحِدُ مِنَ النَّاسِ فِي مَعْصِيَةِ النَّظَرِ الحَرَامِ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ لَيَغْبِطُ مَنِ ابْتُلُوا بِفَقْدِ أَبْصَارِهِمْ؛ إِذْ عُصِمُوا مِنَ هَذَا الْبَلَاءِ الَّذِي عَمَّ وَطَمَّ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا إِلَّا وَقَعَ فِيهِ. حَتىَّ قَارِئُ الْقُرْآنِ لَا يُجَاوِزُ آيَاتٍ مَعْدُودَةً إِلَّا وَيُخْرِجُ جِهَازَهُ مِنْ جَيْبِهِ بِسَبِبِ رِسَالَةٍ جَاءَتْهُ فَيَتْرُكُ المُصْحَفَ وَيُقْبِلُ عَلَى النَّظَرِ فِيهِ، وَقَدْ يَقَعُ فِي مَعْصِيَةِ النَّظَرِ وَمُصْحَفُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
إِنَّ اللهَ تَعَالَى حِينَ امْتَنَّ عَلَى العَبْدِ بِنِعْمَةِ الإِبْصَارِ، طَالَبَهُ بِالشُّكْرِ؛ [وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {النحل:78}، [وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ] {المؤمنون:78}.
إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَشْتَكُونَ قَسْوَةَ قُلُوبِهِمْ، وَشُرُودَهُمْ فِي صَلاَتِهِمْ، وَفَقْدَهُمْ حَلاَوَةَ قِرَاءَتِهِمْ، وَذَهَابَ لَذَّةِ الخُشُوعِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِنَّ لِمَعْصِيَةِ النَّظَرِ أَثَرًا كَبِيرًا عَلَى القَلْبِ، فَقَدْ خَرِبَتِ القُلُوبُ بِإِدْمَانِ النَّظَرِ إِلَى المُحَرَّمَاتِ، يُشَاهِدُ الوَاحِدُ صُورَةَ امْرَأَةٍ أَوْ مَقْطَعًا تَمْثِيلِيًّا أَوْ خَلاَعِيًّا، فَيَعْلَقُ بِذِهْنِهِ، وَيَنْزِلُ أَثَرُهُ عَلَى قَلْبِهِ، فَيَصْدَأُ القَلْبُ مِنْ كَثْرَةِ مَا يَهْبِطُ عَلَيْهِ مِنْ أَقْذَارِ البَصَرِ الَّتِي يُشَاهِدُهَا، فَمَا عَادَ لِلْقُرْآنِ لَذَّةٌ، وَلاَ لِلصَّلاَةِ خُشُوعٌ.
إِنَّنَا - يَا عِبَادَ اللهِ - فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّهْرِ الكَرِيمِ، وَمَعْصِيَةُ النَّظَرِ إِلَى المُحَرَّمَاتِ تُحِيطُ بِنَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَبُيُوتُنَا مَلِيئَةٌ بِهَا، وَهِيَ فِي غُرَفِنَا، وَفِي جُيُوبِنَا لاَ تُفَارِقُنَا أَبَدًا، فَهَلْ نُعْلِنُ انْتِصَارَنَا عَلَى النَّظَرِ إِلَى المُحَرَّمَاتِ، وَنُوجِدُ الوَسَائِلَ الحَافِظَةَ لِأَبْصَارِنَا؛ لِتَصِحَّ قُلُوبُنَا، وَتَسْتَقِيمَ أَحْوَالُنَا، وَنَجِدَ لَذَّةً فِي عِبَادَتِنَا، وَحَلاَوَةً فِي مُنَاجَاةِ رَبِّنَا؟!
إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِغَضِّ الأَبْصَارِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ؛ [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ] {النور:30}، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ] {النور:31}، وَإِنَّ الاسْتِهَانَةَ بِالنَّظَرِ إِلَى امْرَأَةٍ سَافِرَةٍ فِي نَشْرَةٍ إِخْبَارِيَّةٍ، أَوْ مَقْطَعٍ فُكَاهِيٍّ، فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ بِغَضِّ الأَبْصَارِ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ فِي أَغَانٍ مُصَوَّرَةٍ خَلِيعَةٍ، وَأَفْلاَمٍ وَمُسَلْسَلاَتٍ رَقِيعَةٍ؟! وَفِي رَمَضَانَ يَنْشَطُ أَهْلُ الشَّرِّ وَالحَرَامِ لِيُوقِعُوا النَّاسَ فِي مَعَاصِي النَّظَرِ، لِيَصِلَ أَثَرُهَا لِلْقُلُوبِ فَتَقْسُو، فَيَتَثَاقَلُ أَصْحَابُهَا عَنِ الطَّاعَاتِ.
يَقُولُ أَبُو الحُسَيْنِ الوَرَّاقُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مُحَرَّمٍ أَوْرَثَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حِكْمَةً عَلَى لِسَانِهِ يَهْدِي بِهَا سَامِعُوهُ وَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ شُبْهَةٍ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِنُورٍ يَهْتَدِي بِهِ إِلَى طَرِيقِ مَرْضَاتِهِ.
عَلَّقَ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فَقَالَ: وَهَذَا لِأَنَّ الجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، فَإِذَا كَانَ النَّظَرُ إِلَى مَحْبُوبٍ فَتَرَكَهُ للهِ عَوَّضَهُ اللهُ مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ بِنُورِ العَيْنِ مَكْرُوهًا أَوْ إِلَى مَكْرُوهٍ فَتَرَكَهُ للهِ أَعْطَاهُ اللهُ نُورًا فِي قَلْبِهِ وَبَصَرًا يُبْصِرُ بِهِ الحَقَّ.اهـ.
إِنَّ قُلُوبَنَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى إِصْلاَحِ خَلَلِهَا، وَتَلْيِينِ قَسْوَتِهَا، وَتَطْهِيرِهَا مِمَّا عَلِقَ بِهَا، وَأَنْسَبُ مِيعَادٍ لِذَلِكَ هَذِهِ الأَيَّامُ الفَاضِلَةُ؛ حَيْثُ الصِّيَامُ وَالقُرْآنُ وَالإِحْسَانُ وَالإِقْبَالُ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ فَلْنَعْمُرْ قُلُوبَنَا بِحُبِّ اللهِ تَعَالَى وَمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ، وَكَرَاهِيَةِ مَا يَبْغِضُهُ، يَقُولُ الحَسَنُ بْنُ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: غَضُّ البَصَرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ يُورِثُ حُبَّ اللهِ تَعَالَى.
وَالقَلْبُ إِنَّمَا يَصِحُّ وَيَصْلُحُ بِحُبِّ اللهِ تَعَالَى وَلَوْ خَالَفَ الإِنْسَانُ هَوَى قَلْبِهِ؛ وَإِنَّمَا تَفْسُدُ القُلُوبُ بِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهَا وَلَوْ خَالَفَتْ مَرْضَاةَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ خَالِدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:«لاَ تُتْبِعَنَّ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَرُبَّمَا نَظَرَ العَبْدُ نَظْرَةً نَغَلَ مِنْهَا قَلْبُهُ كَمَا يَنْغُلُ الأَدِيمُ فَلاَ يَنْتَفِعُ بِهِ»؛ أَيْ: يَفْسُدُ فَسَادًا لاَ صَلاَحَ بَعْدَهُ، وَقَالَ العَلاَءُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «لاَ تُتْبِعء بَصَرَكَ رِدَاءَ امْرَأَةْ فَإِنَّ النَّظْرَةَ تَجْعَلُ فِي القَلْبِ شَهْوَةً»، وَسُئِلَ الإِمْامُ أَحْمَدُ عَنِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى المَمْلُوكَةِ؟ قَالَ: «إِذَا خَافَ الفِتْنَةَ لَا يَنْظُرُ، كَمْ نَظْرَةً قَدْ أَلْقَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا البَلاَبِلَ».
كُلُّ هَذِه الآثَارُ عَنِ السَّلَفِ لَتَدُلُّ عَلَى خَطَرِ النَّظَرِ إِلَى المُحَرَّمَاتِ، وَمَا يُسَبِّبُهُ مِنْ فَسَادِ القَلْبِ، فَمَنْ أَرَادَ صَلاحَ قَلْبِهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الكَرِيمِ فَلْيَجْتَنِبِ المُحَرَّمَاتِ، وَلْيَغُضَّ بَصَرَهُ عَنْهَا، وَلْيَحْفَظْ سَمْعَهُ مِنْهَا، وَلَوْ مَكَثَ أَكْثَرَ وَقْتِهِ فِي المَسْجِدِ لِئَلاَّ يُشَاهِدَ المُحَرَّمَاتِ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وأَصْحَابُهُ إِذَا صَامُوا قَعَدُوا فِي المَسْجِدِ، وقَالَوا: نُطَهِّرُ صِيَامَنَا».
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَكْثِرُوا مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَنَافِسُوا عَلَى الدَّارِ البَاقِيَةِ، وَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الفَانِيَةُ[يَا أَيُّهَا النَّاس إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ] {فاطر:5}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الصَّائِمُ مِنَ الوُقُوعِ فِي الإِثْمِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَالنَّظَرُ حَالَ الصِّيَامِ إِلَى المُحَرَّمَاتِ فِيهِ رَفَثٌ، وَهُوَ جَهْلٌ بِقَدْرِ الصِّيَامِ، وَبِحُرْمَةِ رَمَضَانَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، لَكِنْ لِكَثْرَةِ الوَاقِعِينَ فِيهِ رَقَّ هَذَا الذَّنْبُ عِنْدَ النَّاسِ وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ.
وَلِأَنَّ الصَّوْمَ جُنَّةٌ عَنِ المُحَرَّمَاتِ أُمِرَ بِهِ الشَّابُّ الَّذِي لاَ يَجِدُ مَئُونَةَ النِّكَاحِ لِئَلَّا يُقَارِفَ الحَرَامَ، وَالأَبْصَارُ بَرِيدُ القُلُوبِ لِلْعِشْقِ وَالغَرَامِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالفَوَاحِشِ وَالآثَامِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّائِمِ:«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ فَلَيسَ لله حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ»، رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَكُلُّ مَجْلِسٍ يَحْتَوِي عَلَى مَنَاظِرَ مُحَرَّمَةٍ فَهُوَ مَجْلِسُ زُورٍ، وَالمُشَاهِدُ لِهَذِهِ المُحَرَّمَاتِ يَعْمَلُ بِالزُّورِ، وَيُشَاهِدُهُ وَيَسْمَعُهُ، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يَصُومُ العَبْدُ نَهَارَهُ، وَيَتَحَمَّلُ حَرَّ الهَاجِرَةِ، وَشِدَّةَ الظَّمَأِ، وَيَنْصَبُ فِي التَّرَاوِيحِ مُصَلِّيًا، ثُمَّ يُفَارِقُ ذَلِكَ إِلَى مَجَالِسِ الزُّورِ أَمَامَ الفَضَائِيَّاتِ، أَوْ يَقْطَعُ نَهَارَهُ بِهَا؟!
وَيُخْشَى عَلَى مَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ أَلاَّ يُقْبَلَ صِيَامُهُ وَقِيَامُهُ، فَالحَذَرَ الحَذَرَ عِبَادَ اللهِ وَلَوْ كَثُرَ الوَاقِعُونَ، فَلا تَغْتَرُّوا بِكَثْرَةِ الهَالِكِينَ، وَانْظُروا إِلَى عَمَلِ النَّاجِينَ.
وَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِ الزُّورِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: [وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ] {الحج:30}، وَكَثِيرٌ مِمَّا يُعْرَضُ فِي الفَضَائِيَّاتِ هُوَ مِنْ قَوْلِ الزُّورِ، وَمِنْ مُشَاهَدَةِ الزُّورِ، وَإِذَا كَانَ المُؤْمِنُ مَأْمُورًا بِاجْتِنَابِهِ فِي العَامِ كُلِّهِ، فَاجْتِنَابُهُ فِي رَمَضَانَ آكَدُ؛ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الصِّيَامِ، وَأَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِ الرَّحْمَنِ بِجُمْلَةِ صِفَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: [وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا] {الفرقان:72}.
فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَاجْتَنِبُوا مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ؛ لِيَكْمُلَ صَوْمُكُمْ، وَتَسْتَوْفُوا أَجْرَكُمْ؛ فَالْيَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلٌ؛ [وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ] {محمد:36}.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ.
المرفقات
رمضان وغض البصر.doc
رمضان وغض البصر.doc
رَمَضَانُ وَغَضُّ البَصَرِ.doc
رَمَضَانُ وَغَضُّ البَصَرِ.doc
المشاهدات 4618 | التعليقات 7
بارك الله فيك يا شيخنا الكريم
وليتك وجهت لنا هذا العبارة من شروح أهل العلم
( وَكُلُّ مَجْلِسٍ يَحْتَوِي عَلَى مَنَاظِرَ مُحَرَّمَةٍ فَهُوَ مَجْلِسُ زُورٍ )
وقد وجدت في فتح الباري شرح صحيح البخاري
وقال شيخنا في شرح الترمذي : لما أخرج الترمذي هذا الحديث ترجم ما جاء في التشديد في الغيبة للصائم ، وهو مشكل ؛ لأن الغيبة ليست قول الزور ، ولا العمل به ؛ لأنها أن يذكر غيره بما يكره ، وقول الزور هو الكذب ، وقد وافق الترمذي بقية أصحاب السنن فترجموا بالغيبة ، وذكروا هذا الحديث ، وكأنهم فهموا من ذكر قول الزور والعمل به الأمر بحفظ النطق ، ويمكن أن يكون فيه إشارة إلى الزيادة التي وردت في بعض طرقه وهي الجهل ، فإنه يصح إطلاقه على جميع المعاصي . وأما قوله : " والعمل به " فيعود على الزور ، ويحتمل أن يعود أيضا على الجهل أي : والعمل بكل منهما .
http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=3482&idto=3483&bk_no=52&ID=1204
جزاك الله خيرا وبارك الله في علمك
شبيب القحطاني
عضو نشط
جزاك الله كل خير
ومبارك عليكم الشهر جعلكم الله ممن صامه وقامه ايمانا واحتسابا
شكر الله تعالى إخواني الكرام مروركم وتعليقكم على الخطبة وأسأل الله تعالى أن ينفع بكم..
أما بالنسبة لطلبك أخي أبا عمر: فخذ شيئا من كلام شيخ الإسلام في الاقتضاء، وما نقله في تفسير الزور عن السلف يتناول الفضائيات ومجالسها من أوجه عدة، كالكذب وإخفاء الحقايق، وتزويق الباطل، واحتوائها على جملة من الشبهات والشهوات:
روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة، عن الضحاك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] قال: " عيد المشركين " وبإسناده عن أبي سنان عن الضحاك ": {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] كلام الشرك " .
[اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/ 480]
قال قوم: إن المراد: شهادة الزور التي هي الكذب، وهذا فيه نظر، فإنه تعالى قال: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] ولم يقل: لا يشهدون بالزور.
[اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/ 482]
ووجه تفسير التابعين المذكورين: أن الزور هو المحَسَّن المموه، حتى يظهر بخلاف ما هو عليه في الحقيقة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» لما كان يظهر مما يعظم به مما ليس عنده، فالشاهد بالزور يظهر كلاما يخالف الباطن، ولهذا فسره السلف تارة بما يظهر حسنه لشبهة، أو لشهوة، وهو قبيح في الباطن، فالشرك ونحوه: يظهر حسنه للشبهة، والغناء ونحوه: يظهر حسنه للشهوة.
[اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/ 482]
وأما أعياد المشركين: فجمعت الشبهة والشهوة، وهي باطل؛ إذ لا منفعة فيها في الدين، وما فيها من اللذة العاجلة: فعاقبتها إلى ألم، فصارت زورا، وحضورها: شهودها، وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها، الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع، فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك، من العمل الذي هو عمل الزور، لا مجرد شهوده؟
ثم مجرد هذه الآية، فيها الحمد لهؤلاء والثناء عليهم، وذلك وحده يفيد الترغيب في ترك شهود أعيادهم، وغيرها من الزور، ويقتضي الندب إلى ترك حضورها وقد يفيد كراهية حضورها لتسمية الله لها زورا.
فأما تحريم شهودها من هذه الآية ففيه نظر، ودلالتها على تحريم فعلها أوجه؛ لأن الله تعالى سماها زورا، وقد ذم من يقول الزور، وإن لم يضر غيره لقوله في المتظاهرين {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] وقال تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] ففاعل الزور كذلك.
وقد يقال: قول الزور أبلغ من فعله، ولأنهم إذا مدحهم على مجرد تركهم شهوده، دل على أن فعله مذموم عنده معيب؛ إذ لو كان فعله جائزا والأفضل تركه: لم يكن في مجرد شهوده أو ترك شهوده كبير مدح، إذ شهود المباحات التي لا منفعة فيها، وعدم شهودها، قليل التأثير.
[اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1/ 483]
ما أجمل ماخطته يمينك شيخا الكريم .. اسأل الله ان تكون خطبك صدقة جارية تفعك في آخرتك .. فأنا أستفدت منها منذ أكثر من 17 سنة وكنت أخطب بها ... رفع الله قدرك ونفع بك أمة محمد صلى الله عليه وسلم
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
حفظك ربي شيخنا وبارك فيك وفي علمك
حقيقة يا شيخنا لقد وضعت النقاط على الحروف والضماد على الجروح فإن أكبر مصيبة على العبد في شهر الصوم هي النظر سواء أكان النظر إلى المحرم أم طول النظر إلى المباح.
وأقول أنه كما أن هناك بما يسمى غسيل الأموال فإن هناك أيضا ما يسمى بغسيل الحسنات وما يثر العجب أن ترى العبد قد صامت جاورحه عن بعض مفطرات الصيام لكن جوارح أخرى لم تصم عما يجرح الصيام ويخل به ويشل نتائجه ويعصف بحسناته.
ومن أشد ذلك وأفتكه متابعة القنوات الفضائية فلكم والله قد أعد الإعلام عدته وجهز برامجه وكل قناة تتفنن في مخرجاتها وما تبثه من الحسن والقبيح من فقرات وبرامج وحلقات ومسلسلات وأفلام وفعاليات ومسابقات
فكم بقي من الوقت لذلك المتابع وماذا بقي من أجر الصيام لذلك المشاهد وحينها لا شك أن رصيد صومه سسيكون سلبي والله المستعان.
تعديل التعليق