رمضان وسمو المعاني! ..أ. أحمد بن عبد المحسن العساف
الفريق العلمي
ترتبط الأمكنة والأزمنة بمعان لا تنفكّ عنها ولو جهد في ذلك من اجتهد؛ فالقدس أولى القبلتين، وثالث المساجد بعد الحرمين، ومنتهى المسرى، ومبتدأ المعراج، وأرض البركات، والفتوحات، والأنبياء، والمحشر في آخر الزّمان؛ فكلّ مكر لانتزاع هذه المعاني، أو تبديلها؛ فمآله الفشل ولو بعد حين.
ولرمضان معاني سامية ارتبطت معه منذ امتنّ الله به على الأمّة المحمّديّة، فصامت نهاره، وأحيت ليله، إيمانًا واحتسابًا، وتعرّضت فيه لنفحات الرّب الكريم الجواد، وتسامت عن كثير من نوازعها البشريّة، ودافعت شهوات وأهواءً لم تكن تصبر عن فراقها فيما مضى.
فمن معاني رمضان الكبرى، الوضوح وإمضاء الأمور على طبيعتها، وأخذ الدِّين برفق لا عنف فيه ولا ليونة، وهذا المعنى واضح في سهولة ابتداء الصّيام، ويسر انتهائه، فما هو إلّا هلال دقيق في السّماء يراه العدول فنصوم ونفطر، وإلّا أجرينا الأيّام على طبيعتها بكلّ هدوء، وأكملنا العدّة.
ويحسن بنا التّفطّن؛ كي لا نصنع من مسألة الرّؤية والحساب سبب بلبلة، أو سبيلًا لإثارة مسائل مشكلة مشغلة، فالنّص الشّرعي وتطبيقاته واضحة منذ القدم، والانصراف لعمل عميق متين أولى من تضييع العمر في وحل المماحكة، ولجج الجدال في شأن فرعي غيره منه أولى، وقد يحسم بكلمة أو قلم.
ومن أجلى المعاني الرّمضانية أخذ الأمور على ظواهرها، وإيكال البواطن إلى العالم بالسّر وأخفى، فالأصل في المسلم أنّه صائم أو من أهل الأعذار، ولا يصار إلى خلافه إلا بثبوت المخالفة عن عمد وبلا عذر. وبمراجعة أحكام رمضان نلمح فيها التّيسير، ورفع الحرج، ودفع المشقّة، والرّخص، مع ما فيها من عزيمة تؤول إلى التّقوى والصّدق، فما أكمل دين الله، وما أعظم جناية أهل التّحريف بإفراط أو تفريط أو تأويل.
ومن معاني رمضان الأساسيّة أنّ المسلم يصومه، ويحتاط ممّا يشوبه، ويجتهد في الاستزادة من فضائله، ويتحرّى أوقاته بالثّانية، ويفعل ذلك كلّه بدافع تعبدي محض، فما أجمل الحياة وهي تسير في دقائقها وعظائمها وفق مرضاة الله، فلم لا نقبس من رمضان أسمى مراتب الحياة؛ حين نكون عبيدًا لله، فتصبح صلاتنا، ونسكنا، ومحيانا، ومماتنا لله ربِّ العالمين؟!
وللمجتمع مكانة بارزة في شهر رمضان؛ فالنّص الشّرعي يأمرنا بالصّيام مع النّاس، والفطر معهم، على اعتبار أنّ المجتمع سيصوم ويفطر بطريقة صائبة، وفي ذلك حفاظ على جماعة المسلمين، وصيانة لوحدتهم، وتعزيز للنّظام، وإبعاد للفوضى، فشهر رمضان اجتماعي في دخوله، وفي بركاته، وفي خروجه.
وتختلف أعراف الأمّة الإسلاميّة في رمضان، سواء في طريقة استقباله، أو نظام غذائه، أو برامجه الاجتماعيّة، وهذا الاختلاف جميعه من التّنوع المقبول، والثّراء المحمود لحضارة المسلمين، فأمّة محمد -صلّى الله عليه وسلّم- قد سارت مسير الشّمس، فضمّت شعوبًا وقبائل ودولًا ولغات وعادات، ومن البديع الّلافت أنّ أعرافهم تذوب أمام حكم الله وشرعه، وسنّة نبيه وهديه، فيكاد صومهم أن يتماثل على اختلاف الدّار، والّلسان، والعوائد، والزّمان، وهذا منهاج نفاخر به ونستمسك.
وحين تجتمع كلمة الأمّة في رمضان، يظهر مَنْ يرى نفسه مباينًا للأمة، غريبًا عن نسيجها، فيتعمّد مخالفة المسلمين في بداية الشّهر ونهايته، أو في وقت الفطر وأحكام الصّوم الأخرى، وفي آداب الموسم وسمته، فحين ينشغل العبّاد بالقرآن والمساجد، يهرع هؤلاء إلى الشّبه، والشّهوات، واختطاف روحانيّة الوقت.
وفي رمضان لا يضنّ العبوس ببسمة، ولا يبخل الغافل بسلام، ولا يشّح الجموع بمال، ولا يتأخّر الكسول عن طاعة، وما هذا التّسامي على الطّبائع، وتجاوز الجبلّة، إلّا فيض من أنوار رمضان، وبركاته، وفيه حجّة على النّفس الّلوامة؛ حتى نغلبها فتغدو مطمئنّة سائرة إلى مولاها، ساعية فيما يرضي الإله، ويقرّب منه –سبحانه-.
والملاحظ أنّ المعاني المرتبطة برمضان تقع في أقسام، فبعضها قديم مستمر، وبعضها قديم زاد أو نقص، ومنها ما اندثر أو كاد، وفيها ما استجد، والمهم في هذا كلّه أن يبقى لرمضان جماله وبهاؤه، وأن يكون قدره عظيمًا في نفوس المسلمين، فرمضان، والحجّ، ومكة، والمدينة، والقدس، تمتلك قوّة في ذاتها، ولديها القدرة على إحياء الشّعور الإسلامي، وبعث جذوة التّدين، والوحدة، والإصلاح، من جديد.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
@ahmalassaf
الأربعاء 30 من شهرِ شعبان عام 1439
16 من شهر مايو عام 2018م
المصدر/ صيد الفوائد