رمضان فرص لا تعوض:

عبد الله بن علي الطريف
1436/08/25 - 2015/06/12 07:23AM
رمضان فرص لا تعوض: 25 / 8 / 1436 هـ
أيها الإخوة: بعد أيام قلية إن شاء الله سنستقبل شهراً عظيماً، وضيفاً كريماً.. ضيفٌ تزدان به الدنيا وتشرق أنوارها... وتهب رياح الإيمان وتنساب بين أرجائها... شهر كان يبشر بمقدمه رسول الله  ويقول: قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ. رواه أحمد والنسائي بسند صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
مرحبًا بك يا رمضان، حبيبًا جئت على ولَهٍ منا وطولِ انتظار، جئت بعد غياب عامٍ مات فيه أقوامٌ ووُلِدَ آخرون، واغتنى قومٌ وافتقر آخرون، وسَعِدَ قومٌ وشقي آخرون، واهتدى قوم وضلَّ آخرون.
أحبتي: بادروا لفعل الخير قبل فَوَات الفُرَص وذهابِ الأعمار. يقول صلى الله عليه وسلم : افعلوا الخيرَ دهرَكم، وتعرضوا لنفحاتِ رحمةِ الله، فإن لله نفحاتٌ من رحمته يصيبُ بها مَنْ يشاءُ مِنْ عباده. رواه الطبراني في الكبير وحسنه الألباني. عن أنس بن مالك  وها هي رياح الإيمان قد هبَّت، ومواسم الخير قد أقبلت فالسعيد من اغتنمها.
أيها الإخوة: رمضان فرصٌ وحظوات... صيامٌ وصلوات... جهادٌ ودعوات... ذكرٌ وصدقات... رمضان فُرصٌ لا تعوض وأوقاتٌ لا تُهْدر، فهل نتذكر.؟!
رمضان فرصةٌ للتوبة، وقد فتح اللهُ أبوابَها في كل يوم من أيام الدنيا: النَّبِيِّ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى  . لكنها في رمضان لها مزيد مزية لفضل الأعمال الصالحة فيه، ولسهولتها على المسلم.
أحبتي: مَنْ لم يتبْ ويرقَّ قلبُه في رمضان فمتى يتوب..؟! مَرَدَةُ الشياطين قد صُفِّدت، والشرُ قد اجتمع على نفسه فهو لا يطيق انتشارًا، وسحائب الإيمان أطلت وأظلت، وبيوتُ المسلمين قد لهجت بالدعاءِ وصلَّت.
رمضان أيها الإخوة: فرصٌ سانحةٌ للدعاء فهو شهر الدعاء فقد ذكر الله في معرض ذكره للصيام هذه الآيةَ العظيمة: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [القرة:186] قال الشيخ السعدي رحمه الله في قوله: (إني قريب) القرب نوعان قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق...
فأي إيناس أيها الأحبة: للصائمين في مشقة صومهم في ظل هذا الود والقرب والاستجابة أعظمُ من هذا الأنس..؟! وقد جعل رسول الله  الدعاء أكرم شيء على الله فقال: لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّعَاءِ. رواه الترمذي وحسنه الألباني. بل جعل ترك الدعاء سبباً لغضبه سبحانه فقال  : مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ.رواه أحمد والترمذي.وحسنه الألباني. قال الطيبي معنى الحديث أن من لم يسأل الله يبغضه والمبغوض مغضوب عليه واللهُ يحبُ أن يسألَ..
أيها الأحبة: ما أحسن حال من التجأَ إلى رب الأرباب، وما أطيب مآل من كان صالحاً أواب، ما ألذَّ حديث التائبين، وما أنفعَ بكاءَ المحزونين، وما أعذبَ مناجاة القائمين، وما أمرَّ عيش المحجوبين، وأعظم حسرةَ الغافلين، وما أشنعَ عيشَ المطرودين.
رمضانُ أيها الإخوة: فرصةٌ لتربية صفة الرحمة في النفوس، حتى تعيشَ مبدأ الجسد الواحد الذي يُؤلمُ بعضَه ألمُ بعض، فمن سُنن الحياة أن الرحمةَ تظهر عند الإحساس بالألم.. وأن الطغيان ينشأ عند الغفلة مع الأمن والغنى.. قال الله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّءاهُ ٱسْتَغْنَىٰ) [العلق:6، 7]
وهذا بعضُ السرِ الاجتماعي في الصوم إذ يحرصُ المسلمُ أشدَ الحرص، ويُدققُ كلَ التدقيق في الامتناع عن الغذاء، وشبه الغذاء مدةً آخرُها آخرُ الطاقة، وهي طريقةٌ عملية لتربيةِ الرحمةِ في النفوسِ، ولا طريق غيرها إلا النكباتُ والكوارثُ التي تحلُ بالناسِ أعاذنا الله منها.
والصوم بفضل الله حرمانٌ مشروع... وتأديبٌ بالجوع... وخشوعٌ لله وخضوع.. فلكلِ فريضةٍ حكمة، وبعضُ هذه الحكمُ ظاهرها العذاب وباطنها الرحمة، لأنها تستثيرُ الشفقة، وتحضُ على الصدقة.. حتى إذا جاعَ من أَلفَ الشبع، وعرفَ المترفُ أسبابَ المُتعِ، وعَلِمَ الحرمانَ كيف يقع، وألمَ الجوعِ إذا لذع..! تصدق وبذل وأعطى بلا تردد وكلل..
اسأل نفسك: كيف سيكون صيامُ المشردين..؟! في فلسطين والشام والعراق واليمن وبورما، ومن ابتلوا مع التشريد بالجفاف والقحط في صحارى وقفار أفريقيا وغيرها وهل سيصومون أم سيفطرون..؟! وعلى أي شيء سيفطرون؟! صور من الفاقة والفقر، وهياكل عظمية تسير وتتعثر وكأنها طيف إنسان في السراب البعيد، حتى أن بعض الأمهات طرحن أولادهن على قارعة الطريق من الفاقة.. صور يرها العالم أجمع يرق لها حتى الكفار ولذلك تنادت الهيئات الدولية لسد جوعتهم، وفي الحديث عن النبي  : لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ . رواه أبو داود وصححه الألباني.
رمضانُ أيها الإخوة: فرصةٌ لتربيةِ النفوسِ، وتقويةِ الإرادةِ فيها، والارتفاعِ بها إلى سماءِ المجد ودرجات العز، إن رؤيةَ هلالِ الصيام في السماء هو إشارةٌ بالغةٌ لبدءِ معركةِ الإرادة وقوةِ العزيمة.. فالصوم يدربُ المسلمَ على أن يمتنعَ باختياره عن شهواته وملذاته، في إرادة قوية ثابتة، لا يَضِيرُها كيدُ الشيطان، ولا تَعْدُو عليها عوادي الشهوة..
فأيُ قانونٍ من قوانين البشر يحقق ذلك؟! وأيُ أمةٍ من الأمم تجدُ فرصةً تستطيع من خلالها فرض نمطٍ من أنماطِ تربيةِ شعبِها بمزاولةِ فكرة نفسيةٍ واحدة كلَ سنة وخلال ثلاثين يوما..؟! ألا ما أعظم الإسلام، وما أروع الصيام...
فلو قيل لبعض الناس: دعوا عنكم شرب الدخان لاسْتَصْعَبُوه وأحسوا العنت بفقده، فما بالهم في أيام رمضان ودون أي نداء وإلحاح قد تركوه خلال فترة الإمساك.
إن هذه الإرادة وهذه التربية الرمضانية يجب أن لا تذهب أدراج الرياح، بل الواجب أن تُرسَخَ في النفوس، وأن تكون جزءًا لا يتجزأ من كيانها، حتى إذا انتهى الشهر ووُدَّع بقيت آثار هذه الإرادة وهذه التربية في النفوس، فلا يكون ذهاب التربية إلا حين تروح الروح، قال ربنا جل في علاه: وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ. الحجر:99. بارك الله لي ولكم ....
الثانية:
أما بعد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أجل لعلكم تتقون، فالغاية الكبيرة من الصوم التقوى..
التقوى التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة طاعةً لله.. وإيثاراً لرضاه.. التقوى التي تحرسُ هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو كانت هاجساً في البال..
التقوى التي يعلم المسلمون وزنها عند الله، فهي غاية ما تتطلع إليها نفوسهم.. والصوم أداةٌ من أدواتها، وطريقٌ موصلٌ إليها لذلك كله جعلها الباري هدفاً ساطعاً يتجهون إليه عن طريق الصيام.. لعلكم تتقون.
أيها الأحبة: ومما يجب التفطن له الحذر من حبائل التسويف، وبئس مطية الرجل سوف... وهكذا تتصرمُ الليالي والأيامُ العظيمةُ ونحن بين السينِ وسوف.. ولم ندرك من هذا الموسم العظيم إلا أجر النية، والتحسر على فوات الأوقات.
أيها الإخوة: هاهي أيام الخير قد أقبلت، ومواسم البذل قد أطلت، فهل من مشمر إلى الجنة..؟ لنقل جميعا نحن المشمرون إن شاء الله... وبداية التشمير تبدأ بالعزم الأكيد على استثمار أوقات هذا الشهر الجليل... أولاً بتركِ ما نهى الله عنه ومجاهدةَ النفسِ على ذلك، ثم بالتزودِ مما شرع من العبادات.
من ذلك معاهدة النفسِ على أداءِ الصلاة المفروضة في وقتها وعدمِ ترك الجماعة. ثم الحرص على صلاة التراويح كاملة مع الوتر مع الإمام، قال رَسُولَ اللَّهِ  : مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. رواه البخاري؛ ولما قال الصحابة  للنبي  يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ فَقَالَ: إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ. رواه أهل السنن بسند صحيح وصححه الألباني.
ومما ينبغي أن يكون من أولويتنا تفطيرُ الصائمين وفيه أجرٌ عظيم، ولا تصرف فيه الزكاة؛ وإنما هو من الصدقات، وإطعام الطعام. وقد حث عليه رسول الله  ، فعن عن زيد بن خالد الجهني  عن النبي  قال: مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا. رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة، وعند النسائي في الكبرى وابن خزيمة وصححه الألباني: من جَهَّزَ غَازِياً، أَوْ جَهَّزَ حَاجَاً، أَوْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ، أو فَطَّرَ صَائِماً، كَانَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهم مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهم شيء.
رمضان أيها الأحبة: شهر القرآن ولذلك كانت القراءة فيه لها مزية على غيره؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن مع جبريل كل ليلة في رمضان؛ وفي السنة التي قبض فيها مر عليه مرتين. ومما ورد في فضل قراءة القرآن ما رواه عن عبد الله بن مسعود  قال: قال رسول الله  : مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ. رواه الترمذي وهو صحيح.
أيها الإخوة: وحارس هذه العزيمة الحرص، وقضاء النوافل التي تفوتنا فقد كان النبي  يقضي ما يفوته منها، فإن فاتنا القيام مع الإمام مثلاً قضيناه كما هو من الليل، أو شفعا من الغد في الضحى، وإن فاتنا وردنا من القراءة قضيناه في وقت يليه.. هذه عزائم الجادين، وهذا ديدن الحريصين فإذا حرص المسلم على القضاء، بادر بالأداء؛ لثقل القضاء، أما إن تهاونا في القضاء فسنجد نفسا وقد فاتنا خير كثير يصعب علينا تداركه، أسأل الله لنا جميعا التوفيق والإعانة.
المشاهدات 2535 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا