رمضان طريق الاستعفاف

رمضان طريق الاستعفاف
5/9/1437
الْحَمْدُ لِلهِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، الْكَرِيمِ المَنَّانِ، {عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 2 - 4] نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا؛ هَدَانَا لِلْإِيمَانِ، وَأَعْطَانَا الْقُرْآنَ، وَبَلَّغَنَا رَمَضَانَ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ؛ فَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ مَاتُوا فَلَمْ يُدْرِكُوهُ! وَكَمْ مِنْ أَحْيَاءٍ أَدْرَكُوهُ فَلَمْ يَصُومُوهُ وَلَمْ يُعَظِّمُوهُ! وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ عَظِيمٌ بِذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَأَوْصَافِهِ، حَكِيمٌ فِي شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ، لَطِيفٌ فِي أَقْدَارِهِ وَأَفْعَالِهِ، يَغْفِرُ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ، وَيَجْزِي الْكَثِيرَ عَلَى الْقَلِيلِ، وَهُوَ الْغَفُورُ الشَّكُورُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ خَيْرُ مَنْ دَانَ بِالْإِسْلَامِ، وَأَفْضَلُ مَنْ صَامَ وَقَامَ، وَهُوَ قُدْوَتُنَا فِي تَعْظِيمِ رَمَضَانَ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَنْزِلُوا الشَّهْرَ الْكَرِيمَ مَنْزِلَتَهُ، وَارْعَوْا لَهُ حُرْمَتَهُ، وَنَوِّعُوا فِيهِ الطَّاعَاتِ، وَنَافِسُوا فِي الْخَيْرَاتِ، وَتَسَابَقُوا إِلَى الصُّفُوفِ الْأُوَلِ مِنَ المَسَاجِدِ، وَلَا تُفَارِقْ أَيْدِيَكُمُ المَصَاحِفُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَيَّامٌ مَعْدُودَةٌ كَمَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى، ثُمَّ يَنْقَضِي كَمَا انْقَضَى غَيْرُهُ مِنَ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَلَا يَدْرِي مُؤْمِنٌ أَيُدْرِكُ رَمَضَانَ الْقَابِلَ أَمْ لَا، فَاجْعَلُوا رَمَضَانَكُمْ هَذَا كَأَنَّهُ آخِرُ رَمَضَانٍ لَكُمْ، وَأَرُوا اللهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا تَجِدُوا خَيْرًا {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94].
أَيُّهَا النَّاسُ: رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ تَشْمَلُ بَرَكَتُهُ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ، فِي أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ المُنَوَّعَةِ، وَأُجُورِهَا الْكَثِيرَةِ المُضَاعَفَةِ. وَتَأْتِي بَرَكَتُهُ عَلَى الْقُلُوبِ بِإِصْلَاحِهَا، وَعَلَى الْأَخْلَاقِ بِتَهْذِيبِهَا وَتَزْكِيَتِهَا، وَبَيْنَ رَمَضَانَ وَبَيْنَ الْأَخْلَاقِ رِبَاطٌ وَثِيقٌ، وَحَبْلٌ مَتِينٌ.
وَالْعِفَّةُ مِنْ أَجَلِّ الْأَخْلَاقِ وَأَعْظَمِهَا؛ لِأَنَّ الْعِزَّةَ مُرْتَهَنَةٌ بِالْعِفَّةِ، فَالْعَفِيفُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَزِيزًا، وَهِيَ تُكْسِبُ صَاحِبَهَا أَخْلَاقًا حَسَنَةً كَثِيرَةً.
وَمَجَالَاتُ الْعِفَّةِ ثَلَاثَةٌ: عِفَّةُ الْيَدِ، وَعِفَّةُ اللِّسَانِ، وَعِفَّةُ الْفَرْجِ. فَإِذَا حَقَّقَهَا المَرْءُ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ، وَكَانَ شَرِيفًا عَزِيزًا فِي قَوْمِهِ:
فَعِفَّةُ الْيَدِ سَبَبٌ لِعِفَّةِ الْبَطْنِ، وَقِلَّةِ الْأَكْلِ، وَالتَّحَرُّرِ مِنَ الشَّهْوَةِ الْبَهِيمِيَّةِ. وَالصِّيَامُ الْحَقُّ يُرَوِّضُ الصَّائِمَ عَلَى عِفَّةِ الْيَدِ وَالْبَطْنِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الصَّائِمَ يَرَى الطَّعَامَ الشَّهِيَّ فَيَحْبِسُ نَفْسَهُ عَنْهُ بِإِرَادَتِهِ، مَعَ أَنَّ الْجُوعَ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، فَتَأْلَفُ نَفْسُهُ الْعِفَّةَ عَمَّا هُوَ أَضْعَفُ دَاعِيًا مِنَ الطَّعَامِ كَالمَرَاكِبِ وَالمَلَابِسِ وَالمَنَازِلِ وَالْأَثَاثِ وَغَيْرِهَا، فَلَا تَشْتَهِي نَفْسُهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَطَلَّعُ إِلَى مَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا تَمْتَدُّ يَدُهُ إِلَى الْحَرَامِ، وَلَا يُرِيقُ مَاءَ وَجْهِهِ بِالسُّؤَالِ، فَيُحَقِّقُ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] وَإِذَا عَفَّتْ يَدُهُ عَنِ السُّؤَالِ، وَعَفَّ قَلْبُهُ عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى مَا عِنْدَ الْآخَرِينَ؛ عَاشَ عَزِيزًا بَيْنَهُمْ وَلَوْ كَانَ أَفْقَرَهُمْ، وَكَانَ مَحْبُوبًا فِي أَوْسَاطِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطْمَعُ فِي دُنْيَاهُمْ. وَجَاءَ وَصْفُهُمْ فِي الْقُرْآنِ: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يَبُلُّ الْخُبْزَ الْيَابِسَ بِالْمَاءِ وَيَأْكُلُهُ وَيَقُولُ: «مَنْ قَنِعَ بِهَذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَحَدٍ». وَكَانَ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- إِذَا قِيلَ لَهُ: أُعْطِيَ فُلَانٌ وَوُلِّيَ فُلَانٌ، قَالَ: «حَسْبِي كِسْرَتِي وَمِلْحِي».
وَقَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «لَا تَزَالُ كَرِيمًا عَلَى النَّاسِ، وَلَا يَزَالُ النَّاسُ يُكْرِمُونَكَ مَا لَمْ تَعَاطَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ اسْتَخَفُّوا بِكَ، وَكَرِهُوا حَدِيثَكَ وَأَبْغَضُوكَ».
وَمَا أَحْوَجَ النَّاسَ إِلَى عِفَّةِ الْيَدِ وَالْبَطْنِ فِي زَمَنٍ كَثُرَ فِيهِ التَّكَالُبُ عَلَى الدُّنْيَا، وَازْدَادَتْ مُتَطَلَبَّاتُ التَّرَفِ وَالسَّرَفِ، وَصَارَ النَّاسُ يُنَافِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي حَفَلَاتِهِمْ وَأَعْرَاسِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ! مَعَ تَضَعْضُعِ الْوَضْعِ الِاقْتِصَادِيِّ، فَلَا يُسْعِفُهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ نَقْصٍ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَرْزَاقِ إِلَّا تَغْيِيرُ أَنْمَاطِ حَيَاتِهِمْ، وَطَرَائِقِ تَفْكِيرِهِمْ، بِاسْتِعْفَافِهِمْ عَمَّا لَا يَسْتَطِيعُونَ، وَقَنَاعَتِهِمْ بِمَا يَجِدُونَ، وَرَمَضَانُ فُرْصَةٌ لِهَذَا التَّغْيِيرِ.
وَأَمَّا عِفَّةُ اللِّسَانِ فَشَهْوَةُ بَنِي آدَمَ تَدْعُوهُ لِلْكَلَامِ؛ وَلِذَا كَثُرَ التَّحْذِيرُ مِنْ زَلَّاتِ اللِّسَانِ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ»، وَفِي ثَالِثٍ: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟»، وَجَاءَ الْأَمْرُ بِطِيبِ الْكَلَامِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [الحج: 24] كَمَا جَاءَ النَّهْيُ عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ. كُلُّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَلْسُنَ حَصَائِدُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَإِذَا أَلِفَتِ الْأَلْسُنُ الذِّكْرَ وَالْقُرْآنَ وَالْعِفَّةَ سَلِمَ أَصْحَابُهَا، وَإِنْ وَلَغَتْ فِي الشَّتْمِ وَالسِّبَابِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ أَهْلَكَتْ أَصْحَابَهَا، وَأَوْرَدَتْهُمُ النَّارَ.
وَرُبَّمَا وَقَعَ فَاقِدُ الْعِفَّةِ فِي التَّزَلُّفِ وَالنِّفَاقِ، وَاغْتَالَ عِفَّةَ اللِّسَانِ، وَأَرَاقَ مَاءَ الْحَيَاءِ بِتَزَلُّفِهِ وَتَقَرُّبِهِ مِمَّنْ يُرِيدُ نَفْعَهُ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ عَفِيفَةً، وَلَوْ بَدَا لِلنَّاسِ مِنْ رُؤُوسِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَحْتَقِرُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ.
وَالمُؤْمِنُ المُسْتَفِيدُ مِنْ رَمَضَانَ يَقْضِي أَغْلَبَ سَاعَاتِهِ فِي الذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ فَلَا يَبْقَى مِنْ وَقْتِهِ شَيْءٌ لِلْقِيلِ وَالْقَالِ، فَرَمَضَانُ يُرَوِّضُهُ عَلَى تَشْغِيلِ آلَةِ اللِّسَانِ فِيمَا يَنْفَعُ، وَحَجْزِهَا عَمَّا يَضُرُّ. كَمَا أَنَّ سَبَبَ التَّسَابِّ وَالتَّشَاتُمِ الْغَضَبُ وَالْخُصُومَةُ، وَالمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ وَهُوَ صَائِمٌ بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَى جَهْلِ الْجَاهِلِينَ، وَلَا يَرُدُّ شَتَائِمَهُمْ بِمِثْلِهَا، بَلْ يُقَابِلُهَا بِالْحِلْمِ وَالِاعْتِذَارِ بِالصَّوْمِ؛ وَلِذَا كَانَ الصِّيَامُ وِقَايَةً عَنْ جَهْلِ الْقَوْلِ وَجَهْلِ الْفِعْلِ، كَمَا قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَأَمَّا عِفَّةُ الْفَرْجِ فَتَتْبَعُهَا -وَلَا بُدَّ- عِفَّةُ الْعَيْنِ وَعِفَّةُ الْأُذُنِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ رَسُولَا الْفَرْجِ، وَمُحَرِّكَاهُ لِلشَّهْوَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
فَإِذَا أَعَفَّ المُؤْمِنُ فَرْجَهُ بِقَنَاعَتِهِ بِزَوْجِهِ، أَوْ بِصِيَامِهِ وَصَبْرِهِ إِنْ كَانَ أَعْزَبًا؛ كَانَ -وَلَا بُدَّ- أَنْ تَعِفَّ عَيْنُهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ، وَأَنْ يَعِفَّ سَمْعُهُ عَنْ سَمَاعِهِنَّ، وَمَا يُهَيِّجُ عَلَيْهِنَّ مِنَ المَعَازِفِ وَالْغِنَاءِ، وَإِلَّا لَكَانَ يُعَذِّبُ نَفْسَهُ فِي نَظَرِهِ وَسَمْعِهِ، مَعَ عَزْمِهِ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُطْلِقُونَ أَسْمَاعَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، لَا يَسْتَفِيدُونَ إِلَّا تَعْذِيبَ قُلُوبِهِمْ بِمَا لَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ إِنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ كَبِيرَةِ الزِّنَا عَجْزُهُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَنْ يَهْوَاهَا، وَلَيْسَ عِفَّتُهُ عَنْهَا، فَيَعِيشُ مُعَذَّبًا بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَسَمَاعِهَا.
وَلَوْ أَعَفَّ بَصَرَهُ وَسَمْعَهُ لَارْتَاحَ مِنْ عَذَابِهِ، وَهَنِئَ بِعَيْشِهِ، وَوَجَدَ لَذَّةً فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْإِقْبَالَ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ يُضْعِفُ لَذَّةَ الْعِبَادَاتِ فَيَسْتَثْقِلُهَا أَصْحَابُهَا. وَعَفِيفُ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ عَفِيفُ الْفَرْجِ -وَلَا بُدَّ- عَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ. وَلِذَا جَاءَ التَّوْجِيهُ الرَّبَّانِيُّ وَالنَّبَوِيُّ لِلْمُتَزَوِّجِينَ بِالِاكْتِفَاءِ بِزَوْجَاتِهِمْ عَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، وَتَوْجِيهِ الْعُزَّابِ إِلَى الِاسْتِعْفَافِ وَالصِّيَامِ؛ لِإِضْعَافِ الشَّهْوَةِ {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33].
فَكَانَ صِيَامُ رَمَضَانَ طَرِيقًا إِلَى الْعِفَّةِ، وَيُرَبِّي الصَّائِمَ عَلَيْهَا، وَمَا عَلَى الصَّائِمِ إِلَّا أَنْ يَسْتَجِنَّ بِالصِّيَامِ؛ لِأَنَّهُ جُنَّةٌ، فَيَحْفَظُ بَصَرَهُ وَسَمْعَهُ مِنَ الْفَضَائِيَّاتِ الَّتِي تَبُثُّ كُلَّ خَبِيثٍ يُحَرِّكُ الشَّهَوَاتِ؛ لِيَتَأَتَّى لَهُ التَّعَوُّدُ عَلَى الْعِفَّةِ، فَلَا يَمْضِي رَمَضَانُ إِلَّا وَقَدْ تَعَوَّدَ عَلَى غَضِّ بَصَرِهِ، وَحِفْظِ سَمْعِهِ، وَكَبْحِ جِمَاحِ شَهْوَتِهِ؛ لِيَنَالَ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ، وَيَكُونَ حَقِيقًا بِقَوْلِ الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ» وَمَا أَلَذَّهَا مِنْ حَيَاةٍ! وَمَا أَعْلَاهُ مِنْ مَقَامٍ! أَنْ يَدَعَ الْعَبْدُ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، فَيَتَوَلَّى الْكَرِيمُ عَزَّ وَجَلَّ جَزَاءَهُ، فَمَنْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، المُعَظِّمِينَ لِحُرُمَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي رَمَضَانَ؟!
جَعَلَنَا اللهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْعَفَافِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِحِفْظِ الصِّيَامِ وَحُسْنِ الْقِيَامِ، وَالمُنَافَسَةِ فِي صَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنَ المُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...


الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاجْعَلُوا رَمَضَانَ هَذَا خَيْرَ رَمَضَانٍ مَرَّ بِكُمْ، بِلُزُومِ الذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى التَّرَاوِيحِ وَالْقِيَامِ، وَالتَّبْكِيرِ لِلْمَسَاجِدِ فِي الْفَرَائِضِ، وَبَذْلِ المَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ؛ فَإِنَّ رَمَضَانَ مِنْحَةُ الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يُضَيِّعُهَا إِلَّا مَحْرُومٌ مَخْذُولٌ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: الصِّيَامُ لِجَامُ المُتَّقِينَ، وَجُنَّةُ الْمُحَارِبِينَ، وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ وَالمُقَرَّبِينَ، وَالنُّفُوسُ مُحْتَاجَةٌ إِلَى تَرْوِيضٍ عَلَى الِاسْتِعْفَافِ، فِي زَمَنٍ ضَعُفَتْ فِيهِ الْعِفَّةُ، وَاتُّبِعَتِ الشَّهْوَةُ. وَالْعَفِيفُ لَا يَنْقَادُ لِشَهَوَاتِهِ، وَلَا يَخْضَعُ لِرَغَبَاتِهِ، بَلْ يَضْبِطُهَا بِمَا يُصْلِحُ قَلْبَهُ، وَيُعِزُّ نَفْسَهُ؛ فَلَيْسَ مِنْ وَرَاءِ الِانْقِيَادِ لِلشَّهْوَةِ إِلَّا ذُلُّ النَّفْسِ، وَتَدْنِيسُ الشَّرَفِ، وَإِرَاقَةُ الْحَيَاءِ، فَفِي صِيَامِ رَمَضَانَ تَرْوِيضُ النَّفْسِ عَلَى الشَّرَفِ وَالْعِزَّةِ، وَحِفْظِ الْكَرَامَةِ، وَالِانْتِصَارِ عَلَى الشَّهْوَةِ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ يَمْتَنِعُ عَنْ شَهَوَاتِهِ بِاخْتِيَارِهِ لِأَجْلِ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا، وَهُوَ رِضَا اللهِ تَعَالَى، وَلَنْ تَجِدُوا فِيمَنْ أَدْمَنُوا صِيَامَ النَّافِلَةِ مَنْ عِنْدَهُ شَرَاهَةٌ فِي الْأَكْلِ، أَوْ يَمُدُّ يَدَهُ بِالسُّؤَالِ، أَوْ يُرِيقُ مِنْ وَجْهِهِ مَاءَ الْحَيَاءِ؛ لِأَنَّ صِيَامَهُ رَوَّضَهُ عَلَى الِاسْتِعْفَافِ.
فَلْنَتَعَلَّمِ الْعِفَّةَ مِنْ رَمَضَانَ؛ فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ تُتَعَلَّمُ كَمَا يُتَعَلَّمُ الْعِلْمُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمَ بِالتَّحَلُّمِ».
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

رمضان طريق الاستعفاف.doc

رمضان طريق الاستعفاف.doc

رمضان طريق الاستعفاف-مشكولة.doc

رمضان طريق الاستعفاف-مشكولة.doc

المشاهدات 2740 | التعليقات 4

للأسف الإخوة لم يصلحوا مشكلة الخلل في الملفات إلى الآن مع أنهم يرون الشكوى في المنتدى ونبهوا إلى ذلك، فما أدري ما سبب هذا التقاعس؟
لذا سأضطر إلى نشر الخطبة هنا مرة أخرى بصغيتها المهملة، ومن أراد الخطبة مشكولة أو مهملة فينسخها من هنا ويلصقها في ملفه الوورد


رمضان طريق الاستعفاف
5/9/1437
الحمد لله الرحيم الرحمان، الكريم المنان، {عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 2 - 4] نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا؛ هدانا للإيمان، وأعطانا القرآن، وبلغنا رمضان، وجعلنا من أهل الصيام والقيام؛ فكم من أناس ماتوا فلم يدركوه، وكم من أحياء أدركوه فلم يصوموه ولم يعظموه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظيم بذاته وأسمائه وأوصافه، حكيم في شرائعه وأحكامه، لطيف في أقداره وأفعاله، يغفر الذنب العظيم، ويجزي الكثير على القليل، وهو الغفور الشكور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ خير من دان بالإسلام، وأفضل من صام وقام، وهو قدوتنا في تعظيم رمضان {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأنزلوا الشهر الكريم منزلته، وارعوا له حرمته، ونوعوا فيه الطاعات، ونافسوا في الخيرات، وتسابقوا إلى الصفوف الأول من المساجد، ولا تفارق أيديكم المصاحف، فما هو إلا أيام معدودة كما ذكر الله تعالى، ثم ينقضي كما انقضى غيره من الشهور والأعوام، ولا يدري مؤمن أيدرك رمضان القابل أم لا، فاجعلوا رمضانكم هذا كأنه آخر رمضان لكم، وأروا الله تعالى من أنفسكم خيرا تجدوا خيرا {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94].
أيها الناس: رمضان شهر مبارك تشمل بركته جميع المؤمنين، في أعماله الصالحة المنوعة، وأجورها الكثيرة المضاعفة. وتأتي بركته على القلوب بإصلاحها، وعلى الأخلاق بتهذيبها وتزكيتها، وبين رمضان وبين الأخلاق رباط وثيق، وحبل متين.
والعفة من أجلِّ الأخلاق وأعظمها؛ لأن العزة مرتهنة بالعفة، فالعفيف لا يكون إلا عزيزا، وهي تكسب صاحبها أخلاقا حسنة كثيرة.
ومجالات العفة ثلاثة، عفة اليد، وعفة اللسان، وعفة الفرج. فإذا حققها المرء سلم له دينه، وكان شريفا عزيزا في قومه:
فعفة اليد سبب لعفة البطن، وقلة الأكل، والتحرر من الشهوة البهيمية. والصيام الحق يروض الصائم على عفة اليد والبطن؛ وذلك أن الصائم يرى الطعام الشهي فيحبس نفسه عنه بإرادته، مع أن الجوع يدعوه إليه، فتألف نفسه العفة عما هو أضعف داعيا من الطعام كالمراكب والملابس والمنازل والأثاث وغيرها، فلا تشتهي نفسه ما لا يقدر عليه، ولا يتطلع إلى ما لا يملك، ولا تمتد يده إلى الحرام، ولا يريق ماء وجهه بالسؤال، فيحقق قول الله تعالى {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] وإذا عفت يده عن السؤال، وعف قلبه عن التطلع إلى ما عند الآخرين؛ عاش عزيزا بينهم ولو كان أفقرهم، وكان محبوبا في أوساطهم؛ لأنه لا يطمع في دنياهم. وجاء وصفهم في القرآن {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] وكان محمد بن واسع رحمه الله تعالى يبل الخبز اليابس بالماء ويأكله ويقول: «من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد». وكان التابعي الجليل سُوَيد بن غَفَلَةَ رحمه الله تعالى إِذَا قِيلَ لَهُ: أُعْطِيَ فُلَانٌ وَوُلِّيَ فُلَانٌ، قَالَ: «حَسْبِي كِسْرَتِي وَمِلْحِي».
وقال الحسن رحمه الله تعالى: «لا تزال كريمًا على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك وأبغضوك»
وما أحوج الناس إلى عفة اليد والبطن في زمن كثر فيه التكالب على الدنيا، وازدادت متطلبات الترف والسرف، وصار الناس ينافس بعضهم بعضا في حفلاتهم وأعراسهم وأسفارهم، مع تضعضع الوضع الاقتصادي، فلا يسعفهم فيما هم فيه من نقص في الأموال والأرزاق إلا تغيير أنماط حياتهم، وطرائق تفكيرهم، باستعفافهم عما لا يستطيعون، وقناعتهم بما يجدون، ورمضان فرصة لهذا التغيير.
وأما عفة اللسان فشهوة بني آدم تدعوه للكلام؛ ولذا كثر التحذير من زلات اللسان «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» وفي حديث آخر «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ» وفي ثالث «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟» وجاء الأمر بطيب الكلام {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [الحج: 24] كما جاء النهي عن قيل وقال، وكثرة السؤال. كل ذلك لأن الألسن حصائد الحسنات والسيئات، فإذا ألفت الألسن الذكر والقرآن والعفة سلم أصحابها، وإن ولغت في الشتم والسباب والكذب والغيبة والنميمة أهلكت أصحابها، وأوردتهم النار.
وربما وقع فاقد العفة في التزلف والنفاق، واغتال عفة اللسان، وأراق ماء الحياء بتزلفه وتقربه ممن يريد نفعه؛ لأن يده ليست عفيفة، ولو بدا للناس من رؤوسهم وكبرائهم، فإنهم يحتقرونه بقلوبهم.
والمؤمن المستفيد من رمضان يقضي أغلب ساعاته في الذكر والقرآن فلا يبقى من وقته شيء للقيل والقال، فرمضان يروضه على تشغيل آلة اللسان فيما ينفع، وحجزها عما يضر. كما أن سبب التساب والتشاتم الغضب والخصومة، والمؤمن مأمور وهو صائم بأن يصبر على جهل الجاهلين، ولا يرد شتائمهم بمثلها، بل يقابلها بالحلم والاعتذار بالصوم؛ ولذا كان الصيام وقاية عن جهل القول وجهل الفعل، كما قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ» رواه الشيخان.
وأما عفة الفرج فتتبعها ولا بد عفة العين وعفة الأذن؛ لأن العين والأذن رسولا الفرج، ومحركاه للشهوة، وقد قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ» رواه الشيخان.
فإذا أعف المؤمن فرجه بقناعته بزوجه، أو بصيامه وصبره إن كان أعزبا؛ كان ولا بد أن تعف عينه عن النظر إلى النساء، وأن يعف سمعه عن سماعهن، وما يهيج عليهن من المعازف والغناء، وإلا لكان يعذب نفسه في نظره وسمعه، مع عزمه على عدم الوقوع في المحرم، وهو حال كثير ممن يطلقون أسماعهم وأبصارهم في المحرمات، لا يستفيدون إلا تعذيب قلوبهم بما لن يصلوا إليه. وهو دليل على أن كثيرا منهم إنما منعه من كبيرة الزنا عجزه عن الوصول إلى من يهواها، وليس عفته عنها، فيعيش معذبا بالنظر إليها وسماعها.
ولو أعف بصره وسمعه لارتاح من عذابه، وهنأ بعيشه، ووجد لذة في عبادة ربه سبحانه؛ ذلك أن الإقبال على الشهوات المحرمة يضعف لذة العبادات فيستثقلها أصحابها. وعفيف البصر والسمع عن المحرمات عفيف الفرج ولا بد عن الشهوات المحرمة. ولذا جاء التوجيه الرباني والنبوي للمتزوجين بالاكتفاء بزوجاتهم عما حُرم عليهم، وتوجيه العزاب إلى الاستعفاف والصيام؛ لإضعاف الشهوة {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33].
فكان صيام رمضان طريقا إلى العفة، ويربي الصائم عليها، وما على الصائم إلا أن يستجن بالصيام؛ لأنه جنة، فيحفظ بصره وسمعه من الفضائيات التي تبث كل خبيث يحرك الشهوات؛ ليتأتى له التعود على العفة، فلا يمضي رمضان إلا وقد تعود على غض بصره، وحفظ سمعه، وكبح جماح شهوته؛ لينال أعظم الجزاء، ويكون حقيقا بقول الرحمن سبحانه «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ» وما ألذها من حياة، وما أعلاه من مقام أن يدع العبد شهوته من أجل ربه سبحانه، فيتولى الكريم عز وجل جزاءه، فمن لا يريد ذلك من أهل الإيمان، المعظمين لحرمات الله تعالى في رمضان؟!
جعلنا الله تعالى من أهل الاستقامة والعفاف، ومنَّ علينا بحفظ الصيام وحسن القيام، والمنافسة في صالح الأعمال، وتقبل منا ومن المسلمين أجمعين، إنه سميع قريب مجيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واجعلوا رمضان هذا خير رمضان مرَّ بكم، بلزوم الذكر والقرآن، والمحافظة على التراويح والقيام، والتبكير للمساجد في الفرائض، وبذل والمعروف والإحسان؛ فإن رمضان منحة الرحمن سبحانه، فلا يضيعها إلا محروم مخذول.
أيها المسلمون: الصيام لجام المتقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، والنفوس محتاجة إلى ترويض على الاستعفاف، في زمن ضعفت فيه العفة، واتبعت الشهوة. والعفيف لا ينقاد لشهواته، ولا يخضع لرغباته، بل يضبطها بما يصلح قلبه، ويعز نفسه؛ فليس من وراء الانقياد للشهوة إلا ذل النفس، وتدنيس الشرف، وإراقة الحياء، ففي صيام رمضان ترويض النفس على الشرف والعزة، وحفظ الكرامة، والانتصار على الشهوة؛ لأن الصائم يمتنع عن شهواته باختياره لأجل ما هو أعلى منها، وهو رضا الله تعالى، ولن تجدوا فيمن أدمنوا صيام النافلة من عنده شراهة في الأكل، أو يمد يده بالسؤال، أو يريق من وجهه ماء الحياء؛ لأن صيامه روضه على الاستعفاف.
فلنتعلم العفة من رمضان؛ فإن الأخلاق تتعلم كما يتعلم العلم، وفي الحديث «إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحُلُمَ بِالتَّحَلُّمِ».
وصلوا وسلموا على نبيكم...


جزاك الله كل خير


وإياك أخي الكريم