رمضان شهر الصدقة والجود *حسب التعميم*25-8-1444هـ
محمد آل مداوي
رمضان شهر الصدقة والجود
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونَستعِينُه ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أنفُسِنا ومِنْ سيِّئاتِ أعمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا الله وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورَسُولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحَابِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.. أمَّا بعد:
فأُوصِيكُمْ ونَفْسِي بتقوَى الله، فاتَّقوا اللهَ رَحِمَكُمُ الله.. تَرَفَّعُوا عَنْ هَذِهِ الدُّنيا كمَا زَهِدَ فِيهَا الصَّالِحُون، وأَعِدُّوا الزَّادَ لِنُقْلَةٍ لا بُدَّ لها أنْ تَكُون، واعْتَبِروا بِمَا تَدُورُ بهِ الأيَّامُ والسُّنون، (واتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
أيُّها المسلمون: عِبَادَةُ اللهِ وطَاعَتُه؛ هِيَ رُوحُ العَبْدِ وسَعَادَتُه، ويَجِبُ الصَّبرُ عَلَيها في الحَرِّ والقَرّ، قالَ تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ).. ولِحَاجَةِ العَبْدِ لها فَلَا أمَدَ لها يَنْقَضِي في الحَيَاة، قالَ عَزَّ وجل: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).
ولِفَضْلِ اللهِ السَّابِغِ عَلَى خَلْقِه: يُعِيدُ عَلَيهِمْ كُلَّ عَامٍ شَهْرًا مُبَارَكًا جَعَلَهُ مَغْنَمًا لِلتَّعَبُّدِ في لَيْلِهِ ونَهَارِه، ومِنْ كَرَمِهِ أنْ نوَّعَ لَهُمْ فيهِ الفَضَائِلَ والطَّاعَات.
وهَا هِيَ أَيَّامُهُ وليَالِيهِ قد أَزِفَتْ مَلِيئَةً بخَيْرَاتِها وبَرَكَاتِها، قالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: (أتاكُمْ رَمَضَان، شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللهُ عَلَيكُمْ صِيَامَه، تُفْتَحُ فيهِ أبوَابُ السَّمَاء، وتُغْلَقُ فيهِ أبوَابُ الجَحِيم، وتُغَلُّ فيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِين، للهِ فيهِ لَيْلَةٌ خَيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر، مَنْ حُرِمَ خَيْرَها فَقَدْ حُرِم) رواه مسلم.
وشَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَك؛ شَهْرُ البَذْلِ والجُوْد، والكَرَمِ والمُوَاسَاة، ونَبِيُّ الجُودِ عَلَيهِ الصَّلاةً والسَّلام جُودُهُ كالرِّيحِ المُرْسَلَة، وهُوَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ في شَهْرِ رَمَضَان.
ولَيْسَ الجُودُ بَذْلَ المَالِ فَحَسْب؛ بَلْ هُوَ أَوْسَعُ وأَشْمَل؛ قالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْم: "الكَرَمُ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ أَنْوَاعِ الفَضَائِل، ولَفْظٌ جَامِعٌ لمعَانِي السَّمَاحَةِ والبَذْلِ والنَّوَائِلِ".
الكَرَمُ والجُود، والبَذْلُ والعَطَاءُ؛ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْء، ومِنْ كَمَالِ إِيْمَانِه، ودَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بالله، (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
يَقُولُ عَلِيٌّ t: "إذَا أَقْبَلَتْ عَلَيْكَ الدُّنْيَا فَأَنْفِقْ، فَإِنَّها لا تَفْنَى، وإِذَا أَدْبَرَتْ فَأَنْفِقْ، فَإِنَّها لا تَبْقَى، وأنتَ لِلْمَالِ إذَا أَمْسَكْتَه، والمَالُ لَكَ إذَا أَنْفَقْتَه... ومَنْ جَادَ سَادَ، والجُودُ حَارِسُ الأَعْرَاض".
أيُّها المؤمنون: الزَّكَاةُ والصَّدَقَة؛ تُطَهِّرُ النَّفْسَ مِنَ البُخْلِ والشُّحِّ، وتُنَمِّي المَالَ وتَحْفَظُه؛ قالَ جَلَّ شَأْنُه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا).
تَقِي المَرْءَ مِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ، وتَصْرِفُ عَنْهُ عَظِيمَ المَصَائِبِ والكُرُوب، وتُيسِّرُ لَهُ الأُمُور؛ قالَ عَزَّ وجَل: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى).
البَذْلُ في إِخْلَاصٍ ورَحْمَة؛ يَغْسِلُ الذُّنُوبَ، ويَمْحُو الخَطَايَا، وصَنَائِعُ المَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوء، وصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
لا تَسْتَقِلَّ إِعْطَاءَ القَلِيل؛ فَالحِرْمَانُ أَقَلُّ مِنْه، ولَا تَسْتَكْثِرْ إِعْطَاءَ الكَثِير، فأنتَ أكثَرُ مِنْه.
والمُسْلِمُ -عِبَادَ الله- يَتَشَوَّفُ إلى العِبَادةِ ويَفْرَحُ بأَدَائِها، وإذَا دَخَلَ فِيهَا أَدَّاهَا بإِخْلَاصٍ للهِ واتِّبَاعٍ للنبيِّ r، إنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ قَبِلَها اللهُ مِنهُ وضَاعَفَ أُجُورَه.
ومِنَ الخُلُقِ مَعَ الله: المُسَارَعَةُ إلى أَوَامِرِهِ بِكُلِّ اسْتِبْشَارٍ وسُرُور، فالمَرءُ لم يُخْلَقْ إلَّا لِعَبَادَةِ الله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ ما تسمَعون، وأستغفر اللهُ لي ولكم ولجميع المُسلمين والمسلمات من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، فطوبى للمستغفرين.
الخطبة الثانية.
الحمدُ للهِ على إِحْسَانِه، والشُّكرُ له على تَوْفيقِهِ وامْتِنَانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا الله وحدَهُ لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عَليهِ وعلى آله وأصحابه، وسَلَّمَ تسليمًا مَزِيدًا.. أمَّا بَعدُ أيُّها المُسلِمُون:
فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ: مَا يَحْصُلُ بِهِ تَفْرِيجٌ لِكُرْبَةِ مُسْلِمٍ، ورَفْعٌ لِمُعَانَاتِهِ ومُعَانَاةِ أُسْرَتِه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ؛ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) رَوَاهُ مُسْلِم.
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْقَلَ كَاهِلَهُ الدَّيْنُ، وابْتُلِيَ بالسِّجْن، فَحُرِمَتْ مِنْهُ أُسْرَتُه، وفَقَدَهُ أَهْلُهُ وأَبْنَاؤه.. والإِنْفَاقُ عَلَى مِثْلِ هَؤلاءِ أَحَقُّ مِنْ غَيرِهِمْ، فَلَيْسَ البَذْلُ مَحْصُورًا في مَجَالَاتٍ مُعَيَّنَةٍ كَتَفْطِيرِ الصَّائِمِينَ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَحْصُلُ فِيهِ الإِنْفَاقُ بِإِسْرَاف، ويَكُونُ التَّوَسُّطُ والاعْتِدَالُ فِيهِ أَوْلَى.
واحْرِصُوا -رَعَاكُمُ الله- عَلَى بَذْلِ المَالِ إلى المِنَصَّاتِ الرَّسْمِيَّة، والجِهَاتِ الحُكُومِيَّة، حِفْظًا لِلأَمْوَال، وضَمَانًا لإِيْصَالِهَا إلى المُسْتَحِقِّين، وإِنْفَاقِهَا عَلَى الوَجْهِ المَطْلُوب.
ألَا فَاتَّقُوا اللهَ رَحِمَكُمُ الله، فمَا أَنْفَقَ عَبْدٌ نَفَقَةً إلَّا واللهُ يَعْلَمُهَا، وعَلَيْهِ خَلَفُهَا.. واعْلَمُوا أنَّكُمْ عَلَى أَعْتَابِ شَهْرٍ عَظِيم، ويُوشِكُ أنْ تُصْبِحُوا عَمَّا قَرِيبٍ صَائِمِين، فَإِنْ كَتَبَ اللهُ لَكُمْ إِدْرَاكَه؛ فأَحْسِنُوا فيهِ الوِفَادَة، وَجِدُّوا فيهِ بالعَمَل، فلم يَكُنْ سَلَفُكُمْ يَسْتَعِدُّونَ له بمَزِيدٍ مِنَ الأَكْلِ والشُّرْب، ولَكِنْ بالطَّاعَةِ والعِبَادَة، والجُودِ والسَّخَاء، والتَّوْبةِ والعَمَل، (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ).
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ صحابةِ نبيك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهِمْ واتَّبَع سُنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد r وعبادك المؤمنين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه وولي عهده لما تحب وترضى، وهيئ لهم البطانة الصالحة، يا سميع الدعاء.
اللَّهم أصلح قلوبَنا، واشرح صدورَنا، ويسِّر أمورَنا، واقضِ حاجاتنا، وأصلح نياتنا وذرياتنا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالنا، واُنْصُر اللهم جنودنا، اللهم انصر جنودَنا المرابطين على حدود بلادنا، اللهم اِرْبِطْ على قلوبـهم، وثبِّت أقدامهم، وعافِ جريحَهم، وتقبَّلْ شهيدهم، واخلفهم في أهليهم بخيرٍ يا رب العالمين.
اللهم بلّغنا بمنّك وكرمك شهرَ رمضان، اللهم أَهِلَّ علينا شهرَ رمضان بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحبه وترضاه، اللهم اجعله شهر عزٍّ ونصرٍ للإسلام والمسلمين في كلِّ مكان، اللهم وأعنا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا، إنك خيرُ مسؤول وأكرمُ مأمول.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين