رمضان شهر الأنتصار والفتوحات

بسم الله الرحمن الرحيم           رمضان شهر الأنتصار والفتوحات

أما بعد: فاتقو الله أيها المؤمنون، واعلموا أن شهر رمضان لم يكن عند سلفنا شهر صيام وقيام ودعاء واعتكاف وعمرة وإكثار من العبادة فحسب، بل كان شهر جهاد ومجاهدة ودعوة وعمل، فقد سطروا فيه أعظم الانتصارات وأكبر الفتوحات، وإن ليالي هذا الشهر وأيامه تحكي ما حققته الأمة من انتصارات وأمجاد، فقد كان في هذا الشهر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان في غزوة بدر الكبرى التي هي شامة في جبين التاريخ. فقد فرق الله في هذه الغزوة بين الحق والباطل، فنصر الله دينه، وأظهر نبيه، وأطاح رؤوس الكفر والشر والظلم والطغيان، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران:123]. فكانت هذه الغزوة صفحة من صفحات المجد المشرق في تاريخ هذه الأمة.وقد منّ الله تعالى على الأمة في هذا الشهر أيضًا ففتح بيته لنبيه، وطهّره من أوضار الشرك ولوثات الكفر ومظاهر الظلم والاستكبار، فكان حدثًا عظيمًا كبيرًا ليس في تاريخ الأمة فحسب، بل وفي تاريخ البشرية كلها، كيف لا؟! وقد أعزّ الله بهذا الفتح دينه ورسوله وحزبه، واستنقذ به بلدَه وبيته من أيدي الكفار والمشركين، وقد استبشر بهذا الفتح أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجًا، وانحسرت به الوثنية في جزيرة العرب. وما انفك هذا الشهر المعطاء أن يكون محلاً ومضمارًا لأمجاد وبطولات وانتصارات لهذه الأمة عبر التاريخ، وهذا يؤكد أن شهر الصيام له أثر بالغ في تحقيق النصر وصناعة المجد، وكيف لا يكون كذلك؟! وهو شهر الصبر والتقوى؛ فإذا صبرت الأمة واتقت الله سبحانه وتعالى وقاها شر عدوها ودافع عنها، (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج:38].وهذا مما يؤكد أهمية تحقيق المقصود من الصيام، فإن المتقدمين لما حققوا غايات الصيام ومقاصده جعل الله شهر صومهم شهر عِزّ ونَصر وتمكين ومجد. ولما ضعف صبر الأمة وقلّ تقواها وتمسكها بدينها وتركت الجهاد جعلها الله غرضًا لأعدائها، فأحل بها الكفر أعظم الضيم، وأنزل بها الأعداء ألوان الكيد والتعذيب:أيها المؤمنون، إن المتأمل لحركة المد والجزر في تاريخ الأمة لا يعتريه شك أن الأمة اليوم تمر بأصعب أيامها وأشد أحوالها، فإنه وإن كان قد نزل بالأمة نكبات وحلت بها الكوارث والأزمات فإنها لم تزل على ثقة بدينها وربها، معتزة بالإسلام، فخورة بالإيمان، لذا فإنها سرعان ما وثبت من سباتها وانقشعت كروبها بمراجعة دين ربها. أما اليوم، فإن كثيرا من المسلمين أُصِيبوا في إيمانهم ودينهم، واجتمع عليهم أعداؤهم، فرموهم عن قوس واحدة، كما أخبر النبي حيث قال: ((يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُق كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا))، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: ((أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ))، قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: ((حُبُّ الْحَيَاةِ، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).وواقع الأمة اليومَ يجسّد هذا الحديث ويوضحه، فأعداد المسلمين كثيرة، ولكنها لا تفرح صديقًا، ولا تخيف عدوًا، فهم غثاء كغثاء السيل، وأما أعداؤنا من اليهود والمشركين والنصارى والمنافقين فقد جمعوا فلولهم، ورصوا صفوفهم، وجمعوا كلمتهم على حرب الأمة وتدميرها وإذلالها ونهب ثرواتها. فالوثنيون والملحدون ـ ممثلون بالعالم الشرقي ـ يسحقون المسلمين بالحديد والنار، يتربصون بالأمة الدوائر، ويكيدون لها المكائد، ولا يجدون فرصة ينفّسون فيها عن أحقادهم إلا فعلوا، وما تخفي صدورهم أكبر، وما يفعلونه بإخواننا في بقاع شتى من العالم الإسلامي أكبر شاهد على ضراوة عداوتهم.أما الصليبيون ـ ممثلون بالعالم الغربي الكافر ـ فهم ورثة الأحقاد والضغائن على الأمة، فالصليبيون ضائقون بالإسلام منذ ظهوره، وقد اشتبكوا مع المسلمين في حروب طويلة مضنية، إلا أن التاريخ لم يشهد حدة في العداء وخبثًا في الأداء وإصرارًا وتصميمًا على تدمير الأمة وإفنائهما كما يجرى منهم اليوم، فها هم خبراؤهم وكبراؤهم وساستهم يتنادون لحرب الإسلام، وما هذا الذي يجري في العراق وسوريا واليمن وبورما ومن قبلهما فلسطين الحبيبة   وغيرها من بلاد الإسلام إلا ثمرة أعمالهم وجني أحقادهم، وما هذه الهيمنة السياسية والتسلط الاقتصادي والاستكبار الحضاري على المسلمين إلا قليل من كثير وغيض من فيض، أما اليهود فقد زرعوا دولتهم في قلب العالم الإسلامي، وهم سماسرة الكيد والمكر والخبث، وقد ضربوا أفظع الصور في تشريد المسلمين وإذلالهم والتسلط عليهم والتلاعب بهم وانتهاك مقدساتهم،.أما المنافقون فهُم أشدّ الأعداء خطرًا وأعظمهم فتكًا، لذا قال الله تعالى عنهم: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المنافقون:4]، (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً) [التوبة:10]، لبسوا مسوح الضأن على قلوب الذئاب، فالظواهر ظواهر الأنصار، والبواطن قد تحيزت إلى الكفار، دعاة على أبواب جهنم، يصدّون عن سبيل الله، ويبغونها عوجًا، تلونت راياتهم، وتشكلت شعاراتهم، فتارة قوميون، وتارة وطنيون، وتارة علمانيون، تعددت الأسماء والكفر واحد، عاثوا في الأمة فسادًا ودمارًا، فهل التغريب الذي تعيشه الأمة إلا من صنعهم؟! وهل تنحية الشريعة وتطبيق القوانين الوضعية إلا من أعمالهم؟! وهل محاربة الدين وأهله وعلمائه ودعاته إلا تجارتهم؟! فللّه كم من راية للدين قد نكسوها؟! وكم من شعيرة من شعائره قد عطلوها؟! وكم من عالم أو عامل أو داعية لله قد آذوه؟! فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.أيها المؤمنون، هؤلاء هم أعداء دينكم الظاهرون والمستترون، سعوا إليكم بالبوائق والأزمات، وجرمكم الذي اقترفتموه أنكم رضيتم بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا، (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج:8].

الخطبة الثانية

أما بعد: أيها المؤمنون، إن أمتكم مغزوةٌ من داخلها، ومحاربة من خارجها، أما غزوها من الداخل فذلك بالمنافقين المتربصين؛ من العلمانيين و أشياعهم الذين أضعفوا إيمان الأمة بربها ودينها بشبهاتهم وشهواتهم. وأما حربها من خارجها فبهذا التداعي العالمي لأمم الكفر من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين على أمة الإسلام، ولن تنجو الأمة من هذين الشبحين إلا بإقبالها على ربها، ورجوعها إلى دينها، وإعلائها رايات الجهاد بأنواعها؛ جهاد النفس وجهاد العُصاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد المنافقين وجهاد الكفار، فإن ما أصاب الأمة لم يكن  إلا بسب هجرها ظهور الخيل وأخذها بأذناب البقر، ويدلّ على ذلك ما رواه أبو داود وغيره بإسناد جيد عن عبد الله بن عمر عن النبي قال: ((إذا تبايعتم بالعِينَة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)). فعلينا ـ أيها الإخوة ـ الأخذ بأسباب النصر وسننه للخروج من مآسي اليوم وتحقيق آمال الغد، فإن النصر لا ينزل اعتباطًا، ولا يخبط خبط عشواء، بل هو وفق سنن وقوانين مضبوطة كسير الشمس.فمن هذه السنن أن تعلم أن النصر من عند الله تعالى، كما أخبرنا مولانا حيث قال: (وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران:126]، فمهما طلبنا النصر من غيره أذلنا الله وخيب سعينا، وما أحوجنا إلى أن نجأر إلى الله تعالى وأن ننصر الله تعالى بأقوالنا وأعمالنا وقلوبنا، فإن الله تعالى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]. ونصرنا لله تعالى يكون بتعظيم دينه وامتثال أمره وإعلاء كلمته وتحكيم شرعه والجهاد في سبيله،

المرفقات

شهر-النصر

شهر-النصر

المشاهدات 541 | التعليقات 0