رمضان أقبل
عبدالله اليابس
1440/08/27 - 2019/05/02 16:23PM
رمضان أقبل
الحمد لله الذي فضل شهر رمضان على سائر الشهور، وجعل الصيام سببا في تكفير السيئات ومضاعفة الأجور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له الغفور الشكور، وأصلي وأسلم على سيدنا ونبينا محمد إمام الصائمين، وقائد الغر المحجلين، الذي كان يُبَشر أصحابه بقدوم رمضان، ويحثهم على الاستعداد لعمل الصالحات وطلب العفو والرضوان، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله فهي جماع الخير كله, {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اليوم هو السابع والعشرون من شهر شعبان .. يومان أو ثلاثة تفصلنا عن شهر رمضان المبارك.
لاح الهلال لنا ببشرى مُغرَمِ *** بقدوم شهر الصوم أعظمِ موسمِ
فتهللت منه أسارير الهدى *** وغدت تهاني الرَّكبِ مائدة الفم
أصداؤه في كل قُطر غَرَّدت *** ومنابع التقوى لتجري في الدم
الشهر والقرآنُ مقترنان ما افـ *** ـترقا فمنه بدا ولم يتصرمِ
رمضان في قلبِ الزمان مساحةٌ *** للنصرِ والتاريخُ أعظمُ مُفهِم
رمضان ذكرك في فمي لا ينتهي *** وإذا ذكرتُك كنتَ سرَّ تبسُّمِي
وبَكيتُ من فرحي وصرت متيماً *** بك والمشاعرُ فوق كل متيَّم
الصوم فاز بالاختصاص لربنا *** إذ قال: (لي) بشرى لكل الصُّوَّمِ
الصوم حبس النفس في سجن العلا**أهلاً بشهر الصوم أعظمِ موسمِ
هاهي الساعات والدقائق تتسابق شوقًا لدخول هذا الشهر العظيم.
وقبيل أن يدخل الشهر, ونستنشق نسائم الخير, لنا مع هذه المناسبة عدة وقفات:
الوقفة الأولى: إذا دخل رمضان .. فإن دخوله ليس كدخول غيره من الشهور, فالسماء يحدث فيها تغير بدخوله, والأرض يحدث فيها تغير بدخوله, روى أبو هريرة رضي الله عنه كما عند البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخَل رمضانُ فُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ وغُلِّقَتْ أبوابُ جهنَّمَ، وسُلسِلَتِ الشياطينُ".
الله أكبر .. أبواب الجنة تفتح فلا يُغلق منها باب ..
وأبواب النار تغلق فلا يُفتح منها باب ..
والشياطين تصفد وتسلسل فلا تصل إلى ما تصل إليه في غيره من الشهور ..
رمضان .. شهر أثنى عليه الرحمن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}.
رمضان .. أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشر به, روى أبو هريرة رضي الله عنه كما عند النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاكم شهرُ رمضانَ شهرٌ مبارَكٌ، فرض اللهُ عليكم صيامَه، تُفَتَّحُ فيه أبوابُ السماءِ، وتُغْلَقُ فيه أبوابُ الجحيمِ، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، للهِ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ".
رمضان بيَّن فضله جبريل عليه السلام, روى مالك بن الحويرث وغيره قال: صعدَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ المنبرَ فلمَّا رقيَ عَتَبةً قال: آمينَ, ثمَّ رَقِيَ أُخرَى، فقال: آمينَ, ثمَّ رقيَ عتبةً ثالثةً، فقال: آمينَ. ثمَّ قال: أتاني جبريلُ فقال: يا محمَّدُ! مَن أدركَ رمضانَ، فلَم يُغْفَرْ لهُ؛ فأبعدَهُ اللهُ، فقلتُ: (آمينَ). قال: ومَن أدركَ والدَيْهِ أو أحدَهُما، فدخلَ النَّارَ؛ فأبعدَهُ اللهُ، فقلتُ: آمينَ. قال: ومَن ذُكِرْتَ عندَهُ فلَم يُصَلِّ عليكَ فأبعدَهُ اللهُ قلْ: آمينِ. فقلتُ : (آمينَ) .
أيها الإخوة .. شهر أثنى عليه الله تعالى .. واثنى عليه رسوله صلى الله عليه وسلم.. وأثنى عليه جبريل عليه السلام .. شهر تتغير له السماء والأرض .. هل نتركه يمر كغيره من الشهور؟
شهرُ الصّيامِ مُباركٌ قد خَصّهُ *** ذو الطَّولِ فيه بفضلهِ واختارَهُ
فإذا أتى فَتَحَ الإلهُ جِنانَهُ *** للصَّائمينَ لهُ وأغلق نارَهُ
الوقفة الثانية: أنجز أعمالك اليوم وتفرغ للعبادة غدًا.
العيد سيأتي في موعده .. لن يتقدم أو يتأخر.. والعجب من بعض الناس من الرجال والنساء الذين لا يبدؤون في شراء حاجيات العيد إلا في العشر الأواخر من رمضان, فتبدأ زحمات الطرق والأسواق, وترتفع الأسعار, وتقل السلع.
فابدأ من هذه الأيام واشتر ملابس العيد لك ولأسرتك, وجهز هدايا العيد إن كنت عازمًا على ذلك, واستقبل رمضان وقد أنجزت أعمالك وتفرغت لعبادة ربك سبحانه وتعالى, فالدقيقة في رمضان غالية ولا شك.
الوقفة الثالثة: من هذه اللحظة اعزم على الاجتهاد في العبادة في رمضان.
اعزم على طاعة ربك فللعزيمة على الخير أجر عند الله تعالى, فإذا عَمَل العبد الطاعة وُهِب الأجور العظيمة, روى مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن همَّ بحسَنةٍ فلم يعمَلْها كُتِبَت لَهُ حسَنةً, ومَن همَّ بحسَنةٍ فعمِلَها كُتِبَت لَهُ عَشرًا إلى سَبعِمائةِ ضِعفٍ، ومَن همَّ بسيِّئةٍ فلم يَعمَلْها لم تُكْتب, وإن عمِلَها كُتِبَت".
اعزم من الآن على الطاعات.. عزمًا مؤكِّدًا للفعل, اعزم على ختم القرآن عدة مرات, واعزم على صلاة التراويح في المسجد كل يوم, اعزم على تفطير الصائمين وخطط لذلك, وابدأ في التجهيز له, اعزم على الصدقة في رمضان, وتلمَّس من اليوم حاجات الفقراء وبيوتهم واشتر أنت وأهلك ما تريدون التصدق به, اعزم على فعل الخير, وتذكر أنك مثاب, وأن رمضان شهر الطاعة, وأن للطاعة حلاوة.
جاء الصّيامُ فجاء الخيرُ أجمعُه *** ترتيلُ ذِكرٍ وتحميدٌ وتسبيحُ
فالنَّفس تدأب في قولٍ وفي عملٍ *** صوم النَّهار وباللَّيل التَّراويحُ
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم, إنه هو الغفور الرحيم.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى .
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. الوقفة الرابعة: أغلق ملفاتك المفتوحة ..
إن كان عليك قضاءٌ من رمضانَ فائت فبادر إلى قضائه غدًا, وتذكر أنك إن أخرت القضاء حتى يأتي شهر رمضان فإنه يجب عليك القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم.
إن كان بينك وبين أحد من إخوانك خصومة فبادر أنت إلى الإصلاح والإجتماع, وتذكر أن خيرهما الذي يبدأ بالسلام.
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
إن كان لديك معاصٍ وأنت مقيم عليها فبادر بالتوبة والإنابة لله تعالى, واعلم أن رمضان فرصة ذهبية للتغيير, ولتصحيح المسار إلى الله تعالى, فرصة لأن يصلح العبد علاقته مع الله, فيُنَقِّي ظاهره وباطنه من الذنوب والمعاصي, فرصة أن يتخلص من معاصٍ أدمن عليها, أفسدت عليه قلبه وعلاقته بربه وعلاقته مع الناس.
{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}.
استقبل رمضان بنفس طاهرة نظيفة نقية, عازمةٍ على التخلص من المعاصي, عش حياة الطهر والنقاء وتذوق حلاوة الإيمان.
يقول ابن رجب رحمه الله: (لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام، انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل، فلم يبق للعاصي عذر، يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، ويا عيون المجتهدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس اقلعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين.. بغير الله لا تقنعي، قد مُدَّت في هذه الأيام، موائد الإنعام للصوام، فما منكم إلا من دعي: {يا قومنا أجيبوا داعي الله}, طوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طُرِد عن الباب وما دعي).
يَا ذَا الَّذِي مَا كفاهُ الذَّنْبُ في رَجبٍ *** حَتَّى عَصَى ربَّهُ في شهر شعبانِ
لَقَدْ أظَلَّكَ شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَا *** فَلاَ تُصَيِّرْهُ أَيْضًا شَهْرَ عِصْيانِ
وَاتْل القُرانَ وَسَبِّحْ فيهِ مجتَهِدًا *** فَإِنه شَهْرُ تسبِيحٍ وقُرْآنِ
كَمْ كنتَ تعرِف ممَّنْ صَام في سَلَفٍ ** مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْوَانِ
أفْنَاهُمُ الموتُ واسْتبْقَاكَ بَعْدهمُ ** حَيًّا فَمَا أقْرَبَ القاصِي من الدانِي
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.