رِفـــــــْـــــــــــقَاً بِأَنْفُسـِـــــــــــــــــــــــــــكُم ١٤٤٣/١١/٤هـ

يوسف العوض
1443/11/01 - 2022/05/31 02:27AM

الخطبة الأولى

 

أَيُّهَا الـمُسْلِمُونَ: لَقَدْ خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَجَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالأَيَّامَ وَالشُّهُورَ مُتَعَاقِبَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا، وَقَدِ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ مِنَ الزَّمَانِ أَوْقَاتًا فَخَصَّهَا بِمَزِيدِ تَكْرِيمٍ، وَحَفَّهَا بِزِيَادَةِ تَعْظِيمٍ، فَرَفَعَ مِنْ بَيْنِ الأَزْمِنَةِ قَدْرَهَا، وَأَعْلَى لَهَا عَلَى غَيْرِهَا ذِكْرَهَا؛ فَعَشْرُ ذِي الحِجَّةِ أَفْضَلُ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ، وَيَوْمُ النَّحْرِ أَعْظَمُ الأَيَّامِ عِنْدَهُ جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَيَوْمُ الجُمُعَةِ خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ شَمْسُ الدُّنْيَا، وَلَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ عِبَادَةً وَأَجْرًا، وَاخْتَصَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذِهِ الأُمَّةَ بِأَزْمِنَةٍ خَيِّرَةٍ كَامِلَةٍ، وَأَيَّامٍ وَلَيَالٍ مُبَارَكَةٍ فَاضِلَةٍ، وَالشُّهُورُ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا اخْتَصَّ مِنْهَا أَرْبَعَةً؛ فَجَعَلَهُنَّ حُرُماً، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالعَمَلَ الصَّالِحَ وَالأَجْرَ أَكْرَمَ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى:" إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ "، قَالَ كَعْبٌ رَحِمَهُ اللهُ: (اخْتَارَ اللَّهُ الزَّمَانَ، فَأَحَبُّهُ إِلَى اللهِ الأَشْهُرُ الحُرُمُ). وَهَذِهِ الأَرْبَعَةُ الحُرُمُ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ؛ فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ: شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَأَخْبَـرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ  الزَّمَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ دَارَ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي اخْتَارَهُ اللهُ تَعَالَى وَوَضَعَهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ أنْ تَلَاعَبَ العَرَبُ بِالأَشْهُرِ الحُرُمِ زِيَادَةً وَنُقْصَانًا، تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا: وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: النَّسِيءَ؛ فَقَالَ تَعَالَى: "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ".

أَيُّهَا الـمُسْلِمُونَ: وَقَدْ سُمِّيَتِ الأَشْهُرُ الحُرُمُ بِهَذَا الِاسْمِ؛ لِعِظَمِ حُرْمَتِهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَحُرْمَةِ الذَّنْبِ فِيهَا، أَوْ لِحُرْمَةِ القِتَالِ فِيهَا، وَلَقَدْ نَهَى رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الظُّلْمِ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ، تَشْرِيفًا لَهَا وَتَعْظِيمًا، وَإِعْزَازًا لِشَأْنِهَا وَتَكْرِيمًا، فَقَالَ تَعَالَى: "فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ". وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَنْبَغِي لِاسْتِشْعَارِ حُرْمَةِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ: أَنْ يَكُفَّ المَرْءُ نَفْسَهُ عَنِ البُهْتَانِ وَالظُّلْمِ، إِذِ الذَّنْبُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ سُوءٌ وَشُؤْمٌ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الأَشْهُرِ المُعَظَّمَةِ، أَشَدُّ وَأَعْظَمُ حُرْمَةً؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: (فِي كُلِّهِنَّ. ثُمَّ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حُرُمًا وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْأَجْرَ أَعْظَمَ).

أَيُّهَا الـمُسْلِمُونَ: وَعَلَى العَبْدِ المُؤْمِنِ أَنْ يُرَاعِيَ - فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ - أُمُورًا وَأَحْكَامًا، وَيَجْتَنِبَ أَخْطَاءً وَآثَامًا، فَمِنَ الأَحْكَامِ: الْتِزَامُ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى، قَالَ سُبْحَانَهُ:" تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ " فَلَا يَجْتَرِئْ عَلَى انْتِهَاكِهَا وَتَعَدِّيهَا، وَلَا يَقْتَرِبْ مِنْهَا لِئَلَّا يَقَعَ فِيهَا، حَيْثُ إِنَّ الْتِزَامَ حُدُودِ اللهِ وَعَدَمَ تَعَدِّيهَا؛ دَلِيلٌ عَلَى تَقْوَى القُلُوبِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللهِ فِيهَا؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى:" ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ " .

وَمِنْهَا أَيْضًا: إِقَامَةُ فَرَائِضِ اللهِ تَعَالَى؛ مِنَ العِنَايَةِ بِالعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ وَتَرْكِ مَا يُضَادُّهَا، وَإِقَامَةُ شَعَائِرِ اللهِ وَاجْتِنَابُ مَا يُحَادُّهَا، وَالقِيَامُ بِالعِبَادَاتِ البَدَنِيَّةِ وَالقَلْبِيَّةِ، وَالْتِزَامُ سَائِرِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" .

وَمِنْهَا: اجْتِنَابُ مَا حَرَّمَ اللهُ؛ مِنَ الرِّبَا وَالزِّنَا، وَأَكْلِ الحَرَامِ وَالكَذِبِ وَالْغِشِّ وَالزُّورِ، وَالخِيَانَةِ وَسَائِرِ الآثَامِ وَالشُّرُورِ، وَإِنَّ مِنْ تَعْظِيمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الأَشْهُرَ الحُرُمَ: أَنْ نَهَانَا عَنِ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهَا، وَإِخْفَارِ ذِمَّتِهَا، قَالَ تَعَالَى:" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ " ، وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" .

 

الخطبة الثانية

 

أَيُّهَا الـمُسْلِمُونَ: وَقَدْ أَكَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرْمَةَ الزَّمَانِ وَحُرْمَةَ المَكَانِ؛ فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «أَلَا تَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا، أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الحَرَامِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، وَأَبْشَارَكُمْ: عَلَيْكُمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ»؟ رَوَاهُ البُّخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

أَيُّهَا الـمُسْلِمُونَ: وَمِمَّا عَلَى العَبْدِ أَنْ يُرَاعِيَهُ - أَيْضًا - أَنْ يُؤَدِّيَ الحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا، وَأَنْ يَرُدَّ المَظَالِمَ إِلَى أَصْحَابِهَا؛ كَحُقُوقِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَالأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ، وَحُقُوقِ الإِخْوَانِ وَالْجِيرَانِ، وَالشُّرَكَاءِ وَالأُجَرَاءِ وَأَهْلِ الإِيمَانِ، وَسَائِرِ أَصْحَابِ الْمِلَلِ وَالأَدْيَانِ؛ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ» رَوَاهُ البُّخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

 
المرفقات

1653964641_الاشهر الحرم2.pdf

المشاهدات 2045 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا