رعايةُ كبارِ السِّنِّ؛ أولوياتٌ، وحقوقٌ
عبدالمحسن بن محمد العامر
إنّ الحمدَ للهِ، نحمَدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمد، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المؤمنين: إنّ لكبار السنّ في الإسلامِ تقديراً وتوقيراً، واحتراماً وتبجيلاً، فَهُمُ الآباءُ والأجدادُ، وهُمْ أهلُ السَّبْقِ في ميادينِ الحياةِ، وفي طاعةِ اللهِ وعبادَتِه، قالَ بكرُ بنُ عبدِ اللهِ المُزَنيُّ رحمَه اللهُ: إذا رأيتَ مَنْ هو أكبرُ مِنكَ، فقلْ: هذا سبَقني بالإيمانِ، والعملِ الصالحِ، فهو خيرٌ منِّي، وإذا رأيتَ مَنْ هوَ أصغرُ مِنكَ فقلْ: سَبقتُه إلى الذنوبِ والمَعاصِي، فهوَ خيرٌ مِنِّي.
كبارُ السِّنِّ يملكون التجارِبَ الطويلةَ العريضةَ، حَمَلوا راياتِ العِلم والتعليم، وراياتِ البِنَاءِ والتشييدِ، وراياتِ الكفاحِ والصّبرِ والمعاناةِ، حرثوا وزرعوا، وسافروا واغتربوا، وحلّوا وارتحلوا، مرّتْ عليهم مراحلُ الطّفولةِ، والشبابِ، والكهولةِ، وولجوا مرحلةَ الكِبَرِ والشيخوخةِ، وعن هذه المراحلِ قالَ اللهُ تعالى: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ"
عبادَ الله: يومَ أنْ قالتِ المرأتانِ لموسى عليه السلامُ: "لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ" هنا قدّرَ موسى عليه السلامُ شيخوخةَ أبيهما، ورقَّ لحالِهما وتولّى مهمّةَ أبيهما في سَقْيِ غنِمهما، وفي هذا إشارةٌ إلى القيامِ بالمهّمّةِ الاجتماعيّةِ تجاهَ كبارِ السِّنِّ.
وعندما ناجى زكريّا ربّه طالباً الذّريّةَ والولدَ، استحضرَ حالَه في الشَّيبِ والشيخوخَةِ؛ قال تعالى: " إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا" قالَ السّْعديُّ رحمه اللهُ: (لأنَّ الشَّيبَ دليلُ الضّعْفِ والكِبَرِ، ورَسولُ المَوتِ ورائِدُه، ونذيرُهُ، فَتَوَسَّلَ إلى اللهِ تعالى بِضَعْفِهِ وعَجْزِهِ، وَهذَا مِنْ أَحَبِّ الوسائلِ إلى اللهِ، لأنَّه يَدلُّ على التَّبَرِّيْ مِنَ الحوْلِ والقوَّةِ، وتَعلّقِّ القلبِ بِحوْلِ اللهِ وَقُوّتِه) وقالَ اللهُ عن إخوةِ يوسفَ عليه السلامُ "قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"، قالوا ذلكَ مستعطفينَ؛ ليوفوا بعهدِ أبيْهِم: إنَّ له أبًا شيخًا كبيرًا؛ أي: كبيرُ القدْرِ، يُحبُّه ولا يُطيْقُ بُعْدَه.
هذا شيءٌ مِنْ شَأنِ الكبِيرِ وقَدْرِهِ في كتابِ اللهِ تباركَ وتعالى.
معاشرَ المؤمنينَ: وحالُ الشيخوخةِ وكِبَرِ السنِّ، حالٌ أوْلاهَا الله تعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلمَ أهمّيَةً ورعايَةً عامّةً وخاصَّةً، فالعامّةُ؛ تَعَمُّ جميَعَ كبارِ السّنِّ مِنَ المسلمينَ قريبِهمْ وبعيدِهم؛ فقد قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "إنَّ من إجلالِ اللَّهِ إِكْرامَ ذي الشَّيبةِ المسلِمِ، وحاملِ القرآنِ غيرِ الغالي فيهِ والجافي عنهُ، وإِكْرامَ ذي السُّلطانِ المقسِطِ" رواهُ أبوداودَ وحسّنهُ الألبانيُّ.
وقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "ليسَ منَّا من لَم يَرحَمْ صغيرَنا، ويعرِفْ حَقَّ كَبيرِنا" رواه الإمامُ أحمدُ وأبو داود والترمذيُّ وصححهُ الألبانيُّ.
وكانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ يكرِّمُ كبيرِ السّنِّ ويَهتَمُّ بهِ بنفسِه، وهوَ قُدوَتُنَا ومَثَلُنا الأعلى؛ "ففي يومِ فتحِ مكةَ جاء أبو بكرٍ بأبي قُحافةَ وهو والدُهُ؛ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مسلِماً، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بكرٍ: ( لو أقرَرْتَ الشَّيخَ في بيتِه لَأتَيْناه ) تكرِمةً لأبي بكرٍ" رواهُ الإمامُ أحمدُ وغيرُه وهو حديث صحيحٌ.
وعنِ المسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: "قَدِمَتْ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أقْبِيَةٌ، فَقالَ لي أبِي مَخْرَمَةُ: انْطَلِقْ بنَا إلَيْهِ، عَسَى أنْ يُعْطِيَنَا منها شيئًا، فَقَامَ أبِي علَى البَابِ، فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَوْتَهُ، فَخَرَجَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومعهُ قَبَاءٌ وهو يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ، وهو يقولُ: خَبَأْتُ هذا لكَ خَبَأْتُ، هذا لَكَ" رواهُ البخاريُّ.
وأمّا الرعايَةُ والأهميّة الخاصّةُ؛ فهيَ للوالدينِ؛ قالَ اللهُ تعالى: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا"
وقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ أبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ -أحَدَهُما أوْ كِلَيْهِما- فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ" رواهُ مسلمٌ.
ومرَّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجلٌ فرأى أصحابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من جلَدِه ونشاطِه فقالوا: يا رسولَ اللهِ لو كان هذا في سبيلِ اللهِ؟! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: إنْ كانَ خَرَجَ يَسعَى على ولدِه صِغارًا فهو في سبيلِ اللهِ، وإنْ كانَ خَرَجَ يَسْعَى على أبَوينِ شَيْخِينِ كبيرينِ فهوَ في سبيلِ اللهِ، وإنْ كانَ خرجَ يَسعى على نفسِه يُعفُّها فهوَ في سبيلِ اللهِ، وإنْ كانَ خَرَجَ يَسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطان" رواه الطّبرانيُّ ورجاله رجالُ الصحيحِ.
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنّةِ، ونفعنا بما صرّفَ فيهما مِنَ الآياتِ والحكمَةِ.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم مِنْ كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ فاستغفروه إنّه كانَ غفّاراً.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ لهُ على توفيقه وامتنانِه، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيماً لشأنِه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آله وأصحابِه وإخوانِه..
أمّا بعدُ فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى؛ قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"
معاشرَ المؤمنين: كبارُ السّنِّ الصالحونَ خيرُ النَّاسِ؛ وفيهم مِنَ البَرَكَةِ على مُجتَمَعِهم وَمَنْ حَوْلَهم الشيءُ الكبيرُ، يَلْحَظُ هذا ويُدْرِكُه كلُّ مَنْ عاشَ مَعهم، وخالَطَهم، وأَنِسَ بقُرْبِهم، واسْتَمْتَعَ بحدِيْثِهم؛ عنْ نُفيعِ بنِ الحارِثِ رضيَ اللهُ عنه: "أنَّ رجلًا قالَ: يا رسولَ اللَّهِ أيُّ النَّاسِ خيرٌ؟ قالَ: مَن طالَ عمرُهُ، وحَسنَ عملُهُ" رواه الترمذيُّ وصححه الألبانيّ. لأنَّ مَنْ طالَ عُمُرُه، ازْدَادَ عِلْمُه وإنَابَتُه ورُجوعُه إلى اللهِ عزّ وجلّ.
وكبارُ السنِّ خيارُ الأمّةِ وأفضلُها، عنْ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قالَ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: " ألَا أُنَبِّئُكم بخِيارِكم؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: خِيارُكم أطوَلكم أعمارًا، وأحسَنُكم أخْلاقًا" رواه الإمامُ أحمدُ وغيرهُ، وهو حديث صحيحٌ.
دَخَلَ سليمانُ بنُ عبدِالمَلكِ مرةً المَسجدَ، فَوجدَ في المسجدِ رجلًا كبيرَ السِّنِّ، فَسلَّمَ عليهِ وقالَ: يا فلانُ، تُحِبُّ أنْ تَموتَ؟ قالَ: لا، قالَ: وَلمَ؟ قالَ: ذَهَبَ الشَّبَابُ وشرُّهُ، وجاء الكِبَرُ وَخَيْرُه، فأنَا إذا قُمْتُ قُلْتُ: بِسمِ اللهِ، وإذا قَعَدتُ قلتُ: الحمدُ للهِ، فأنَا أُحِبُّ أنْ يَبْقَى ليَ هذا.
عبادَ اللهِ: لكبارِ السّنِّ حقوقٌ كثيرةٌ، وعلى المجتَمعِ أفراداً وجماعاتٍ تِجاهَهم واجباتٌ عديدةٌ؛ فمِنْ حقّهم؛ احترامُهم وتقديرُهم، وتقديمهم في مجالات الإيثارِ وميادينِ التجمعاتِ، ومبادرَتُهم بالسلامِ، والتّحفِّي بهم، وإظهارُ مكانتِهم وقدْرِهم، وطلاقةُ الوَجْه والتّبسُمُ معَهم، والإنصاتُ لحديثِهم، والتفاعلُ معَ قِصَصِهم وطرْحِهم، وذكرُ جهودِهم وإسهاماتِهم وأعمالِهم الصالِحةِ، وإكرامُهم بالهدايا والأعطياتِ الطّيْبةِ القيّمَةِ، والتغافلُ عنْ كلِّ ما يصدرُ عنهم ومنهم مِن تصرفاتٍ خارجةٍ عن إرادَتِهم، وقد تكونُ بسببِ ما يعانونَ مِنْ أمراضِ الشيخوخَةِ وتقدّمِ العمرِ، وينبغي إشعارُهم بقيمتهم وأهميّتِهم وذلك بمشاورتهم، والاستنارةِ بخبرتِهم وتجارِبهم، والإكثارُ منْ زيارتهم وتفقّدِ أحوالِهم، وإعطاؤهم الوقتَ الكافي مِنْ غيرِ إطالةٍ مملّةٍ، أو سرعةٍ مُخلَّةٍ،.
ثمَّ اعلموا ـ عبادَ اللهِ ـ أنَّ البرَّ والإحسانَ إلى كبارِ السّنِّ ليسَ له حدٌّ ولا ضابطٌ، فكلّما استكثرتَ منه انتفعتَ ونَفَعتَ، وانفتحتْ لك أبوابٌ جديدةٌ، ونوافذُ فريدَةٌ، واستَزَدتَ من الخيراتِ والبركاتِ.
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله ...
المرفقات