رعاية الإسلام لكبار السن.

 

رعاية الإسلام لكبار السن

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا

ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله حق التقوى ؛ فإن أقدامكم على النار لا تقوى .

عباد الله : لقد جاء دين الإسلام بخلق البر والإحسان للشيوخ وكبار السن ، ورعاية حقوقهم، وتعاهدهم، وعدَّ هذا الأمر من أعظم أسباب التكافل الاجتماعي ومن جليل أعمال البر والصلة ؛ ذلك أنه عندما يتقدم العمر ويهن العظم ويشتعل الرأس شيباً، يحتاج الكبير إلى رعاية خاصة واحترام وتبجيل وحسن صحبة ومعروف، فعن أنس بن مالك ÷ قال: جاء شيخ يريد النبي × ، فأبطأ القوم عنه أن يُوسعوا له، فقال × :> ليس منا مَن لم يرحم صغيرنا ويعرِفْ شَرَفَ كبيرنا <. حديثٌ صحيحٌ، رواه أَبُو داود، والترمذي، وَقالَ الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح. وفي رواية أبي داود: ” حَقَّ كَبِيرِنَا” .

 

الشيوخ والكبار لهم فضل في الإسلام، ولهم حقوق وواجبات تحفظ قدرهم فالخير والبركة في ركابهم، والمؤمن لا يزاد في عمره إلا كان خيراً له، قال × : > واجعل الحياة زيادة لي في كل خير < وفي الحديث : > … وإنَّه لا يزيد المؤمنَ عمرُه إلا خيراً <. رواهما مسلم.

 

1

وكبار السن الصالحون خيرُ الناس فعن عبدالله بن بسر أن أعرابيًّا قال: يا رسول الله، مَن خيرُ الناس؟ قال: > مَن طال عمرُه، وحسُن عمله <. لأن مَن طال عمره ازداد علمه وإنابته ورجوعُه إلى الله عزَّ وجل؛ والشيخوخة موجبة للخير والزهادة في الدنيا. 

 

دخل سليمان بن عبدالملك مرة المسجد، فوجد في المسجد رجلًا كبير السن، فسلَّم عليه، وقال: يا فلان، تحبُّ أن تموت؟ قال: لا، ولمَ؟ قال: ذهب الشبابُ وشرُّه، وجاء الكِبَرُ وخيرُه، فأنا إذا قمت قلت: بسم الله، وإذا قعدت قلت: الحمد لله، فأنا أحب أن يبقى لي هذا.

 

كبار السن أهل تجربة وخبرة ومعرفة ببواطن الأمور عركتهم الحياة ودربتهم المواقف وأنضجتهم الأحداث ففي صحبتهم بركة، فعن ابن عباس {، أنه × قال : > الخير مع أكابرِكم <، وفي رواية : >البركة مع أكابركم <. قال المناوي : ” فالبركة مع أكابركم المجربين للأمور، والمحافظين على تكثير الأجور فجالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم.

 

إجلال الكبير من خلال احترامه وتوقيره، قال × : > ليس منا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صغيرنا ويوَقِّرْ كبيرنا< صحَّحه الألباني في صحيح الترمذي.

 

وعن أبي موسى أنه × قال: >إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ تَعَالَى: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبةِ المُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرآنِ غَيْرِ الْغَالي فِيهِ والجَافي عَنْهُ، وإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِطِ <. حديثٌ حسنٌ، رواه أَبُو داود.

 

 (إِنَّ مِن إجلالِ الله ) أي: تبجيله وتعظيمه. (إكرام ذي الشيبة المسلم ) أي: تعظيم الشيخ الكبير في الإسلام ، بتوقيره في المجالس ، والرفق به ، والشفقة عليه ، ونحو ذلك، كل هذا مِن كمالِ تعظيم الله ، لحرمته عند الله.

 

ويظهر ذلك التوقير والاحترام في العديد من الممارسات العملية الحياتية فمن إجلال الكبير بدؤه بإلقاء التحية والسلام عليه، قال × :> يسلم الصغير على الكبير، والراكب على الماشي<. رواه البخاري.

 

2

ومن إجلال الكبير الابتداء به وتقديمه في الأمور كلها ؛ كالتحدُّث والتصدر في المجالس، والبدء بالطعام، والجلوس، وغير ذلك ، فالأولى في الصلاة أن يلي الإمام مباشرةً كبار القوم وذوو المكانة والمنزلة العلمية والعمرية أهل العقول والحكمة ؛ فعن أبي مسعود ÷ قال: > كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يمسح مَناكِبَنا في الصلاةِ ويقولُ: استووا ولا تختلفوا فتختلفَ قلوبُكم، ليلني منكم أولو الأحلامِ والنهى، ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونَهم<. قال أبو مسعودٍ: “فأنتم اليوم أشدَّ اختلافاً “. رواه مسلم.

 

ومن إجلال الكبيرِ تقديمة في الكلام ، فقد كان رسول الله × إذا تحدث عنده اثنان بأمرٍ ما بدأ بأكبرهما سنّاً، وقال كبر كبر.

 

وعن ابن عمر أن النبي × قال: > أراني أتسوك بسواك، فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواكَ الأصغرَ منهما، فقيل لي: كبِّرْ، فدفعته إلى الأكبر منهما <. رواه مسلم.

 

ومن إجلال كبير السن في الحديث منادته بألطف خطاب، وأجمل كلام، وليس من أدب الإسلام الاستخفاف بالكبير، أو إساءة الأدب في حضرته، أو رفع الصوت بحضرته أو في وجهه بكلام يسيء إلى قدره وعمره، روى الشيخان عن سمرة بن جندب ÷ أنّه قال: > لقد كنتُ على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غلامًا، فكنتُ أحفظُ عنه، فما يمنعني من القولِ إلا أنَّ ههنا رجالًا هم أَسَنُّ مِنِّي<.

 

ومن إجلال الكبير الدعاء له بطول العمر في طاعة الله، والتمتع بالصحة والعافية، وبحُسن الخاتمة، ومن بر الوالدين الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾.

 

ومن إجلال الكبير أن يعيش مكفول الحاجات المادية، يوفَّر له غذاؤه، ودواؤه، وملبسه، ومسكنه، وأولى الناس بالاهتمام بهذا أسرته وأولاده؛ فكما رباهم صغاراً، يجب أن يكفلوه كبيراً فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، ولا يجوز لأبنائه وذويه بحال أن يفرِّطوا في هذا الواجب ، ولا أن يمنوا على والديهم بهذا؛ فهي نفقة واجبة وحق مؤكد.

 

3

عباد الله: لقد أوصى القرآنُ بالوالدين ، وخصَّ بالذكر حالة بلوغ الكبر، فقال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾.

 

ونهى الله تبارك وتعالى في هذه الآيات عن أمرين: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ﴾. الأُفُّ: مجرد التأفف والتضجر. والنهر وهو الزجر ، وأمر سبحانه بثلاثة أمور: ﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾. أمر بالقول الكريم اللين، وخفض الجناح، والدعاء لهما: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾، يعني ادعُ لهما في حياتهما وفي موتهما.

 

وكان أبو هريرة ÷ إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أُمِّه فقال : السلام عليك يا أُمَّتاه ورحمة الله وبركاته .فتقول : وعليك السلام يا بُنَيَّ ورحمة الله وبركاته فيقول : رحمك الله كما ربيتني صغيرًا .فتقول : رحمك الله كما بررتني كبيرًا .وإذا أراد أن يدخل صنع مثله.

 

عباد الله: ليس من البر قطيعة الوالدين وهجرهما وإسلامهما للخادم والمرافق أو للوحدة الموحشة، فالإنسان ليس مجردَ مخلوق يأكل ويشرب، الإنسان أكبر من ذلك، ؛ فله أشواق وطموحات، ومن حق الأب والجد أن يعيش مع أولاده وأحفاده ومن حق الأحفاد أن يتعلَّموا من تجاربه، من حقهم أن يؤنسهم، ومن حقه أن يؤنسوه.

 

 

 

باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميعِ المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الدَّاعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

 

أما بعد: عباد الله: إنَّ رعاية المسنين في الإسلام نموذج أمثل للتكافل الاجتماعي فقيمنا قيم إسلامية أصيلة، ترحم الضعيف والصغير، وتوقر الكبير، وتحترم العالم والسلطان.

 

وقيم غيرنا من غير المسلمين قيم غربية غريبة ، تفكَّكت أسرهم؛ فلا يكاد الابن يعرف أباه أو أمه بمجرد أن يبلغ الحُلُم، وهام كل واحد على وجهه، هذه هي حياتهم، يرمونهم في المصحات ودور المسنين ويعيش أحدهم في وحدة وغربة ، لا يتمتع فيها بأبناء ولا أحفاد، والإسلام لا يرضى للإنسان إلا أن يحيا كريماً عزيزاً موقَّراً.

 

عباد الله: إنَّ قيمةَ احترامِ الكبير من القيم الإسلامية العظيمة التي يتقرَّبُ المسلمُ بها إلى الله عَز وجلَّ، وهي ليست مجرَّدَ تقاليدَ صارمةٍ، أو أعراف، أو عادات؛ بل سلوكيات راقية نُؤَدِّيها عن طِيبِ خاطرٍ، ورضا نفسٍ، والتماس أجْرٍ، وابتغاءِ ثواب.

 

عباد الله: يقول الله تعالى : ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ .

 

أيها الابن البار احرص على مراعاة كَبرة والديك وتذكّر أنّك وإن كنت قوياً الآن فستعود يوماً إلى ضعفك الذي كنت عليه، فلا تتكبّر عليهما لأجل منصب أو زوجة أو غيرها ، واعلم انك إذا أكرمت شيخاً وأنت شابٌّ، جزاك الله من جنس عملك؛ فهيأ لك وأنت شيخ من يكرمك وأنت في حاجة إلى الإكرام، وبرُّوا آباءكم، تبرُّكم أبناءكم.

 

اللهُمَّ أعزَّ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الـشِّـرْكَ والمُـشـْرِكِين، وَاحْمِ حَوْزَةَ الدِّين.

 

5

اللهُمَّ وَفِّق إمَامَنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ لِما فِيه عِزُّ الْإِسْلَامَ وَصَلَاحُ الْمُسْلِمِين.

 

اللهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَإِخْوَانَه وَأَعْوَانَه لِما تُحِبُهُ وتَرْضَاه.

 

اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتَك، وَتَحَوُّل عَافِيَتك، وَفُجَاءَة نَقِمَتِك، وَجَمِيعِ سَخَطِك.

 

اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ البَرَصِ وَالْجُذَام وَالْجُنُونِ وَسَيِّئ الْأَسْقَام.

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ ﴾ .

 

جمع وتنسيق/ عبدالله بن مـحمد حسين النجمي

 

المرفقات

1728485511_رعاية-الإسلام-لكبار-السن-خطبة-جمعة-للشيخ-عبدالله-_241009_174409.pdf

المشاهدات 652 | التعليقات 0