رشوان ودرس في الأخلاق
عبدالله حمود الحبيشي
الخطبة الأولى ..
إنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ..
أَمَّا بَعْدُ .. عباد الله .. في الألعاب الأولمبية والتي أقيمت في مدينة لوس أنجلس عام 1984م كانت هناك مباراة في الجودو بين لاعب مصري وآخر ياباني وكان اللاعب الياباني اصيب في المباراة قبل النهائية فإما أن يلعب وهو مصاب أو ينسحب فأصر على اللعب وكانت فرصة لا تعوض لللاعب المصري أن يفوز لأن الخصم مصاب .. وكانت المفاجأة أن المباراة انتهت بفوز اللاعب الياباني .. وعندما سؤال اللاعب المصري كيف تخسر هذه المباراة السهلة .. قال اللاعب محمد رشوان : ليس من ديني ولا من أخلاقي أن أستغل أنه مصاب ..
إنه الدين .. إنه الإسلام .. إنها الأخلاق الإسلامية .. ما قيمة الجائزة التي سيأخذها إذا فاز .. وما هي قيمة الأخلاق التي أظهرها للعالم كله وسمع عنه .. ولا غرابة أن يبحث الكثير من غير المسلمين عن هذا الدين الذي يحث على هذه الأخلاق السامية الرفيعة .
الدين المعاملة هذه الجملة ليست حديثا نبويا ولكن معناها صحيح فديننا دينٌ يحث على المعاملة والأخلاق الحسنة بل جعل لها أعظم الأجر وحث عليها .. وخاب وخسر وأفلس من لم يكن ذا خالق حسن ، ومعاملة طيبة مع الناس القريب منهم والبعيد .
في إحدى مجالس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه سألهم سؤالا فقال (أُخبِرُكُم بأحبِّكم إليَّ ، وأقربِكم منِّي مجلِسًا يومَ القيامةِ ؟) فسكَت القومُ فأعادها مرَّتينِ أو ثلاثًا .. إن من يسمع هذا السؤال من النبي عليه الصلاة والسلام عمن يحبه ويكون مجلسه قريبا من مجلسه يوم القيامة يتبادر إلى ذهنه أن من ينال هذه المنزلة أهل الجهاد ، أو أهل الصيام والقيام .. ولكن ديننا ليس دين عبادة فقط ، وليس دين تبتل وطقوس .. أُخبِرُكُم بأحبِّكم إليَّ ، وأقربِكم منِّي مجلِسًا يومَ القيامةِ ؟ فسكَت القومُ فأعادها مرَّتينِ أو ثلاثًا ، قال القَومُ : نعَم يا رسولَ اللهِ ! قال (أحسنُكُم خُلُقًا).
هل تأملنا كم للأخلاق الحسنة من مكانة في ديننا .. إنها ليست مثالية زائدة ، وليست ترفا أو عملا مستحبا ، بل هي ضرورة وغاية عظيمة سعى لها الشرع ، وأكدها وأوجبها .. فلا غرابة أن يكون المفلس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يأتي يوم القيامة بعبادات عظيمة ، وطاعات جليلة ، ولكنه بلا أخلاق ، فيشتم ويقذف ويأكل الحقوق ويكذب فهذا هو المفلس يوم القيامة .. بل سُئل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا صريحا جمع بين العبادة والمعاملة فهذه إمرأة تقومُ اللَّيلَ وتَصومُ النَّهارَ وتفعلُ ، وتصدَّقُ –هذه كلها عبادات وطاعات- وتُؤذي جيرانَها بلِسانِها ؟ - مع طاعاتها وعبادتها ليس عندها أخلاق- فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليهِ وسلم لا خَيرَ فيها ، هيَ من أهلِ النَّارِ .. فهل بعد هذا بيان ليتضح لنا مكانة الأخلاق في ديننا .
لقد بعَث الله نبيَّنا محمّدًا صلى الله عليه وسلم للدَّعوةِ إلى الأخلاقِ الصَّالحة (إنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ ) .
قال ابن القيم رحمه الله : حُسْنُ الْخُلُقِ يَقُومُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ : الصَّبْرُ ، وَالْعِفَّةُ ، وَالشَّجَاعَةُ ، وَالْعَدْلُ .
إِنَّ حُسنَ الخُلُقِ بَذلٌ لِلنَّدَى ، وَكَفٌّ لِلأَذَى ، وَرَتقٌ لِلخَلَلِ ، وَعَفوٌ عَنِ الزَّلَلِ ، وَسَترٌ لِلعُيُوبِ ، وَجَبرٌ لِلقُلُوبِ .. إِنَّهُ تَخَلٍّ عَنِ الرَّذَائِلِ ، وَتَحَلٍّ بِالفَضَائِلِ .. الخُلُقُ الحَسَنُ أَن تَصِلَ مَن قَطَعَكَ ، وتُعطِيَ مَن حَرَمَكَ ، وتَعفُوَ عَمَّن ظَلَمَكَ ، وتوقر الكبير ، وترحم الصغير ، وتعرف لكل ذي حق حقه .. وفاء بالحق ، وصدق بالوعد ، وأداء للأمانة .. قال ابن القيم رحمه الله : الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ . فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ، زَادَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ .
وقال ابن رجَب رحمه الله : لا تتمّ التقوَى إلاَّ بحُسن الخلُق .
إن حسن الأخلاق لا يكون مع اصحاب الأخلاق العالية .. والمعاملة الحسنة .. ولا يكون في مواقف المجاملة والود .. تظهر الأخلاق الحسنة في أشد المواقف إيذاء .. وأكثر المواقف إزعاجا ..
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بُردٌ نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة ، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت به حاشية الرداء من شدة جذبته ، ثم قال : مُرْ لي من مال الله الذي عندك . فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فضحك ، ثم أمر له بعطاء .
هذا هو الدين وهذه هي أخلاق الإسلام وأهله ، كما وصفهم الله في كتابه (وَ?لْكَ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ) (خُذِ ?لْعَفْوَ وَأْمُرْ بِ?لْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ?لْجَ?هِلِينَ) ، (وَعِبَادُ ?لرَّحْمَ?ن ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا) وقال تعالى (وَاخفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصِي أصحابه رضي الله عنهم بحسن الخلق قالَ لمعاذٍ رضي الله عنه (اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) .
وإذا تحلَّى المسلِمون بأَخلاقِ القُرآن صَلحَ المجتمَع وكانُوا دُعاةَ خيرٍ إلى الدين بالقُدوةِ والأفعالِ الحميدة .. فكم هي القصص التي من كثرتها لا تخفى عليكم ممن دخلوا في دين الله بسبب حسن الخلق وكريم المعاملة .
الشيخ الدكتور عبدالرحمن السميط رحمه الله يمر في طريقة على سيارة للكنيسة وهي متعطلة فوقفوا وساعدوهم فتعجب وفد الكنيسة وحق لهم أن يتعجبوا .. فقال الشيخ السميط مبينا لهم سبب مساعدته لهم : إن ديننا يأمرنا بذلك بأن نعامل الناس معاملة طيبة يقول الشيخ بعد فترة سمعت أن جميع من كان في السيارة وكانوا مسيحيين قد أسلموا من غير أن نكلمهم كلمة واحدة عن الإسلام ..
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت ..
الخطبة الثانية ..
أما بعد عباد الله .. لقد تَكَفَّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِبَيتٍ في أَعلَى الجَنَّةِ لِمَن حَسُنَ خُلُقُهُ، وَبَيَّنَ أَنَّ أَكمَلَ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحسَنُهُم خُلُقًا، وَأَنَّ حُسنَ الخُلُقِ هُوَ أَثقَلُ مَا يُوضَعُ في المِيزَانِ، وَقَرَّرَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَنَّ المُؤمِنَ يَبلُغُ بِحُسنِ الخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ، وَأَنَّ حُسنَ الخُلُقِ مَعَ التَّقوَى أَكثَرُ مَا يُدخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، وَأَنَّ حُسنَ الخُلُقِ هُوَ البِرُّ .. بِكُلِّ هَذَا صَحَّتِ الأَحَادِيثُ عَنهُ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ .
عباد الله .. إن الحديث عن الأخلاق جميل وكلنا يتمنى أن يكون ذا خلق حسن .. ولكن يسقط البعض في أقل موقف ، وما أكثر المواقف التي تغيب معها الأخلاق ، وتُنسى القيم ، ويطيش معها العقل ، مواقف تثير الغضب ، وتسوء الأخلاق، وهذا محك لسمو أخلاقك .. في مثل هذه المواقف يظهر الأحسن أخلاقا ، والأكمل صبرا وحلما وأدبا .. عند أثرة الآخرين يظهر إيثارك .. وعند جهل الآخرين يظهر حلمك .. وعند بذاءة الآخرين وسوء كلامهم يظهر حسن كلامك .. ولنعلم أن سوء أخلاق الآخرين ليس مبررا لسوء أخلاقنا فكلٌ يعمل على شاكلته .
ومع هذا نقولها وبكل صراحة ووضوح لا ندعي الكمال فقد ننجح مره ، ونفشل مرات .. فحسن الخلق ليس بالأمر السهل الميسر بل يَحتَاجُ مِنَ المَرءِ إِلى أَن يَأطِرَ نَفسَهُ عَلَيهِ أَطرًا وَيَحمِلَهَا عَلَيهِ حَملاً، وَيَأخُذَهَا بِالجِدِّ وَيُجَاهِدَهَا عَلَى قَبُولِ الحَقِّ وَلَو عَلَى نَفسِهِ، َقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ «إِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الحِلمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَن يَتَحَرَّ الخَيرَ يُعطَهُ، وَمَن يَتَّقِّ الشَّرَّ يُوقَهُ» .
وشهادة شكر وتقدير لأصحاب الخلق العالي والذين لا يخلوا مجتمعنا منهم وللحمد لله .. فنراهم مثلا بخروجنا من هذا الجامع ممن أوقف سياراته بعيدا لأنه لا يريد أن يؤذي المصلين ويغلق عليهم الطريق ..
سنرى من انتظر وقتا ليس بالقليل لوجود صاحب سيارة أغلق عليه الطريق ، فتعامل معه بالحلم والصبر والمسامحة ..
أصحاب الخلق العالي يعلمون أن أولى الناس بحسن الخلق أهل بيته وأقاربه .. فتظهر البشابشة والسماحة والتغاضي عن التقصير ، والعفو عن الزلة ، والصبر على الأذى .. خيرُكُم خيرُكم لِأهْلِهِ ، وَأَنَا خيرُكم لِأَهْلِي هذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم .. وسئلت الصديقة رضي الله عنها : كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ ..
نسأل الله أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا هو ويصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا هو
المشاهدات 1423 | التعليقات 2
جزاك الله خيرا أخي بدر ونسأل الله أن ينفع بنا جميعا
بدر آل برجس
سلمت يمينُك يا شيخ عبدالله على هذه الخطبة المميزة , وجعلها رفعةً لك في الدنيا والآخرة ..
تعديل التعليق