رســالتي/ لطـــلّاب العــــلّم
يوسف العوض
يَقولُ أَحَدُ طَلَبَةِ اَلْعَلَمِ اَلْفُضَلَاءِ " فِي اَلنِّصْفِ اَلْأَوَّلِ مِنْ عَامِ 1420هـ كُنْتُ فِي زِيَارَةٍ لِلْأُرْدُنِّ ، وَلِعَاصِمَتِهَا عَمَّانَ تَحْدِيدًا ، فَعَزَمَتُ عَلَى رُؤْيَةِ اَلشَّيْخِ اَلْعَلَّامَةِ ، مُحَدِّثِ اَلْعَصْرِ نَاصِرِ اَلدِّينِ اَلْأَلْبَانِي - رَحِمَهُ اَللَّهُ - ، وَبَعْدُ جُهْدٍ جَهِيدٍ وَصَلَتُ إِلَى بَيْتِهِ فِي " مَارْكا اَلْجَنُوبِيَّةِ " ، وَكَمْ كَانَتْ فَرْحَتِي حِينَ رَأَيْتُ اِسْمَ اَلشَّيْخِ عَلَى اَلْبَيْتِ بِنَفْسِ اَلْخَطِّ اَلْفَارِسِيِّ اَلتَّعْلِيقِ ( مُحَمَّدُ نَاصِرُ اَلدِّينِ اَلْأَلْبَانِي ) ! لَكِنَّ هَذِهِ اَلْفَرْحَةَ سُرْعَانَ مَا تَبَدَّدَتْ حِينَ بَاءَتْ مُحَاوَلَاتِي بِالْفَشَلِ مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ - وَأَنَا أَلْتَمِسُ اَلدُّخُولَ عَلَيْهِ - حَيْثُ اِعْتَذَرُوا بِمَرَضِهِ ، وَعَدَمِ إِمْكَانِيَّةِ اَلدُّخُولِ عَلَيْهِ . . لَمْ يَشْفَعْ لِي إِخْبَارُهُمْ أَنَّنِي قَادِمٌ مِنْ اَلسُّعُودِيَّةِ . . وَلَا أَنَّنِي سَأُسَافِرُ قَرِيبًا . . وَلَا شَيْءَ مِنْ تِلْكَ اَلتَّوَسُّلَاتِ اَلَّتِي لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهَا إِلَّا اَلْحُبُّ اَلْكَبِيرُ لِهَذَا اَلْعَالَمِ اَلْجَلِيلِ . . وَبَعْدَهَا بِأَسَابِيعَ قَلِيلَةٍ ، وَإِذَا بِخَبَرِ وَفَاتِهِ ! رَحِمَهُ اَللَّهُ وَرَفْعَ دَرَجَاتِهِ ، وَجَمْعُنَا بِهِ فِي عِلِّيِّينَ . تَذَكَّرَتْ مَوْقِفِي هَذَا ، وَتَذَكَّرَتُ مَعَهُ تِلْكَ اَلْحَسَرَاتِ اَلَّتِي زَفَرَتْهَا قُلُوبُ اَلْمُحِبِّينَ ، وَالْكَلِمَاتِ اَلصَّادِقَةِ اَلَّتِي تَرْجَمَتْ مَكْنُونَاتِ اَلْأَفْئِدَةِ ، لِأُولَئِكَ اَلْإِعْلَامِ اَلَّذِينَ رَحَلُوا لِيَلْقَوا عُلَمَاءَ أَكَابِرَ فَسَبَقَ اَلْقَدَرُ ؛ فَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ لِقَائِهِمْ هَادِمُ اَللَّذَّاتِ ، وَمَفْرِقُ اَلْجَمَاعَاتِ.
وَمِنْ أَكْثَرِ اَلْمَوَاقِفِ اَلَّتِي تَقْطُرُ حُزْنًا فِي اَلتَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا اَلْمَعْنَى : مَا سَطَّرَهُ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ حَامِدٍ اَلشَّافِعِي ، فِي رِسَالَتِهِ لِابْنِ رَشِيقٍ - رَحِمَهُمْ اَللَّهُ - فِي اَلتَّعْبِيرِ عَنْ أَسَفِهِ عَلَى فَوَاتِ لِقَاءِ شَيْخِ اَلْإِسْلَامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ ، حَيْثُ يَقُولُ : " وَلَمَّا حَجَجْتُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعمِائَةِ صَمَّمَتُ اَلْعَزْمَ عَلَى اَلسَّفَرِ إِلَى دِمَشْقَ لِأَتَوَصَّلَ إِلَى مُلَاقَاتِهِ ، بِبَذْلِ مَهْمَا أَمْكَنَ مِنْ اَلنَّفْسِ وَالْمَالِ لِلتَّفْرِيجِ عَنْهُ ، فَوَافَانِي خَبَرُ وَفَاتِهِ - رَحِمَهُ اَللَّهُ تَعَالَى - مَعَ اَلرُّجُوعِ إِلَى اَلْعِرَاقِ ، قُبَيْلَ وُصُولِي اَلْكُوفَةَ ! وَجَدْتُ عَلَيْهِ مَالا يَجِدُهُ اَلْأَخُ عَلَى شَقِيقِهِ - اِسْتَغْفَرُ اَللَّهَ - بَلْ وَلَا اَلْوَالِدُ اَلثَّاكِلُ عَلَى وَلَدِهِ ، وَمَا دَخَلَ فِي قَلْبِي مِنْ اَلْحُزْنِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ اَلْوَلَدِ وَالْأَقَارِبِ وَالْإِخْوَانِ كَمَا وَجَدْتُهَ عَلَيْهِ - رَحِمَهُ اَللَّهُ تَعَالَى - وَلَا تَخَيَّلَتُهُ قَطُّ فِي نَفْسِي وَلَا تَمَثَّلَتُهُ فِي قَلْبِي ؛ إِلَّا وَيَتَجَدَّدُ لِي حُزْنٌ قَدِيمُهُ كَأَنَّهُ مُحْدَثٌ ، وَوَالِلَهِ مَا كَتَبَتُهَا إِلَّا وَأَدْمُعِي تَتَسَاقَطُ عِنْدَ ذِكْرِهِ أَسَفًا عَلَى فِرَاقِهِ وَعَدَمِ مُلَاقَاتِهِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاَللَّهِ اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ " . وَمِنْ أَشَدِّ اَللَّحَظَاتِ اَلَّتِي يَسْتَشْعِرُهَا اَلْإِنْسَانُ - وَهُوَ يَتَذَكَّرُ هَذَا اَلْمَعْنَى - تِلْكَ اَلْحَسَرَاتِ اَلَّتِي وَجَدَهَا مِنْ رَحَلَ مِنْ بَلْدَةٍ مِيمْمَا وَجْهَهُ شَطْرَ مَدِينَةِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَاصِدًا لِقَاءَ صَاحِبِهَا عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَالتَّشَرُّفَ بِرُؤْيَةِ ذَلِكَ اَلْوَجْهِ اَلْأَنْوَرِ ، وَالْجَبِينِ اَلْأَزْهَرِ ، وَإِذَا بِهِ يَسْمَعُ خَبَرَ وَفَاتِهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ كَالصَّاعِقَةِ عَلَيْهِ ! وَهَذَا مَا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ اَلْمُخَضْرَمِينَ ، مِنْ أَشْهَرِهِمْ : عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ عُسَيْلَةَ اَلصَّنَابِحِي اَلْمُرَادِي - رَحِمَهُ اَللَّهُ - ، اَلَّذِي بَلَغَهُ مَوْتُ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بَالَجُحْفَةِ - وَهِيَ تَبْعُدُ عَنْ اَلْمَدِينَةِ 183 كم - لِيَصِلَ اَلْمَدِينَةَ بَعْدَ خَمْسِ لَيَالٍ مِنْ وَفَاتِهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! يَا اَللَّهُ ! أَيُّ أَشْوَاقٍ وَلَوَاعِجَ كَانَتْ تَعْتَلِجُ فِي قَلْبِ اَلصُّنَابِحِي وَهُوَ فِي اَلطَّرِيقِ ! وَأَيُّ أَقْدَامٍ تِلْكَ اَلَّتِي حَمْلَتُهُ بَعْدَ سَمَاعِ اَلْخَبَرِ ؟ ! وَمَا مَشَاعِرُهُ وَهُوَ يَمُرُّ بِالْقَبْرِ اَلشَّرِيفِ اَلَّذِي لَمْ يَجِفْ بَعْدُ ، وَلَمْ تَزَلْ آثَارُ اَلْأَيْدِي عَلَيْهِ ! هَذِهِ اَلْحَسَرَاتُ تَتَجَدَّدُ اَلْيَوْمَ فِي صُوَرٍ شَتَّى ، يَقْرَأُهَا اَلْإِنْسَانُ فِي نَبَرَاتِ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ فَرَّطُوا فِي اَلْإِفَادَةِ مِنْ عِلْمِ عَالَمٍ كَانَ فِي مَدِينَتِهِمْ ، أَوْ فِي جَامِعَتِهِمْ . وَتَأْتِي فِي قَالَبِ اَلنَّدَمِ - فِي آخِرٍ اَلْعُمُرِ - عَلَى اَلتَّفْرِيطِ فِي سُنِّيِّ اَلْعُمُرِ اَلْأُولَى وَبَوَاكِيرِ اَلشَّبَابِ ، حَيْثُ لَمْ يَغْتَنِمْهَا فِي شَيْءٍ يَنْفَعُ وَيُفِيدُ ، وَيَكُونُ رَصِيدًا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ فِي اَلدُّنْيَا قَبْلَ اَلْآخِرَةِ ! وَمِنْ أَرْقَى هَذِهِ اَلْعِبَارَاتِ اَلْمُمْتَزِجَةِ بِالْعَبَرَاتِ : تِلْكَ اَلْأَمَانِي اَلَّتِي سَطَّرَهَا جَمْعٌ مِنْ اَلْعُلَمَاءِ فِي أَوَاخِرِ أَعْمَارِهِمْ عَلَى اَلتَّقْصِيرِ فِي تَدَبُّرِ كِتَابِ اَللَّهِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ ، وَالْعَيْشِ مَعَهُ وَفِي ظِلَالِهِ ، وَمِنْهُمْ شَيْخُ اَلْإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اَللَّهُ ، اَلَّذِي قَالَ كَلِمَتَهُ اَلشَّهِيرَةَ : " قَدْ فَتَحَ اَللَّهُ عَلِي فِي هَذَا اَلْحِصْنِ فِي هَذِهِ اَلْمَرَّةِ مِنْ مَعَانِي اَلْقُرْآنِ ، وَمِنْ أُصُولِ اَلْعَلَمِ ؛ بِأَشْيَاءَ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ اَلْعُلَمَاءِ يَتَمَنَّوْنَهَا ، وَنَدِمْتُ عَلَى تَضْيِيعِ أَكْثَرِ أَوْقَاتِي فِي غَيْرِ مَعَانِي اَلْقُرْآنِ "! وَالسُّؤَالُ اَلْأَهَمُّ بَعْدَ هَذَا : لِمَاذَا يَنْتَظِرُ أَحَدُنَا تِلْكَ اَللَّحَظَاتِ لِيَبُثَّ حَسَرَاتِهِ ، وَيُعَبِّرَ عَنْ نَدَمِهِ ؟ وَلِمَاذَا لَا يَجْعَلُ لَهُ مَشْرُوعًا كَبِيرًا يَسْتَهْلِكُ أَكْثَرَ أَوْقَاتِ اَلْعُمُرِ ، وَتَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مَشَارِيعُ صَغِيرَةٌ تَخْدِمُ اَلْمَشْرُوعَ اَلْكَبِيرَ ؟ فَإِنَّ زَمَانَ اَلنَّشَاطِ وَالْقُوَّةِ اَلْبَدَنِيَّةِ وَالذِّهْنِيَّةِ لَا يَتَهَيَّأُ كُلُّ وَقْتٍ . . وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ تَقَطُّعِ اَلْعُمُرِ بِغَيْرِ طَائِلٍ ، وَخَتْمِهِ بِحَسَرَاتِ اَلْبَطَّالِينَ ! ورَحِمَ اَللَّهُ اَلشَّافِعِيَّ إِذْ يَقُولُ :
إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنَمَهَا * * * فَعُقْبَى كُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ