رسالة إلى معلم
إبراهيم بن صالح العجلان
إخوة الإيمان :
تقضت أيام الإجازة بحلوها ومرها، وخيرها وشرها، وعافيتها وبلائها، وها نحن نستقبل غداً عاماً دراسياً جديداً، فما أجمل الحديث عن التعليمِ في وقته ، فالحديث عنه حديث عن بناءِ الأمة، وتشييد حضارتها، فبالتعليم تُصاغُ العقول، وتُصان السلوك، وينضج الفكر، وترفع الأُميَّة .
أَمَا إنَّ حديثنا عن التعليم فلن يكون عن فضله وأجره، ولا عن أهميته في تقدم الأمم وبنائها وصلاحها، ولا عن كيفية استقبال العام الدراسي ، وإنما سيكون حديثنا مع شمعة التربية وفرسان التعليم .... مع من كفونا هذا الثغر العظيم ، فتقلدوا مهمة صناعة الأجيال ، وصياغة العقول ،وسقاية الغراس.
فيا من تقلدوا أعلى وسام يكفيكم شرفاً أن رسالة التعليم حملها الأنبياء والعلماء والمصلحون، فدربكم شريف وكريم، وثوابكم كبير وعظيم.
يا كل معلم حديثنا لك هو حديث مجتمع وليس فرد ، فبين يديك فلذة كبد كل والد ووالده، فأنت أنت ساكن في كل قلب، فرسالتنا لك هي رسالة ملؤُها المحبة،وعنوانُها التواصي على الحق، نهديها لك يا فارس التعليم، وأَمين التربية.
فأرع لنا أخي المعلم السمع، واستجمع معنا القلب إلى لاءات سبع، علَّها تساعد في تصحيح السيرة ، وإصلاح المسيرة.
اللاء الأولى: لا تغفل عن النية.
أخي المعلم، وظيفتك سامية ، وعملك صالح ، ورسالتك حسنات في ديوانك في حياتك وبعد مماتك ، فمن العمل الباقي لك بعد رحيلك علم نافع علمته لغيرِك.
تجديد النية لله في التعليم أخي المعلم تشحذ همتك نحو البذل ، وتغرس فيك الحرص على الاتقان ، والصبر على لأواء العمل .
الإخلاص لله في التعليم عمل مبرور قمن أن تفتح لصاحبه أبواب التوفيق والقبول.
ومن الإخلاص أن لا تنتظر الشكر إلا من خالقك ، فإن لم تقدَّر في عمل ، أو لم تعطَ حقك في تقييم، أو ترقيه، فلا يحملك ذلك على قلة الإخلاص والتسيب في العمل، فما عندى الله خير وأبقى.
اللاء الثانية: لا تضيع الرعية .
فأنت راع في مدرستك وقاعتك ، ومؤتمن على قولك وتوجيهك، فكلماتك التي تهديها لطلابك هي بناء وغراس، فاكس لكلماتك أصدقها وأحسنها، وانتقِ لعباراتك ألطفها وأطيبها، وتيقن أن الكلمة الطيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
فأمتك بحاجة إلى بناء جيل قوي في إيمانه وعلمه وتفكيره وهمَّته، وأنت أحد من يصنع هذا الجيل، فالحمل ثقيل ، والأمانة عظيمة، وإن رأيت من طلابك انحرافاً أو تقصيراً أو بعداً فلا تلقي اللائمة على غيرك، من فساد زمان أو إعلام ، أو تقصير في بيت، فهنا يأتي دورك لتقوم المعوج، وتجبر المنكسر، فاستعن بالله ولا تعجز، (ولئن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النَّعَم )، ( ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله).
اللاء الثالثة: لا للعسْكرة.
أيُّها المعلم المبارك، لا تجعل علاقتَك مع طلابك علاقة عسكريَّة، علاقة قائمة على الأمر والنَّهي، والطَّلب والكفّ، فالطالب لا يعرف من استاده إلاَّ لغة اللوم والعَتْب، والتَّبكيت ، هذا الفقْر في المشاعر، والجفاء في الأحاسيس يُحْدِث صدمات انعكاسيَّة بين الطالب والمعلم،والغالب أن نفسية المراهق تأنف مثل هذا التوجيه، فانزل إلى مستوى طلابك، وعاملهم بما يحبون،واكسب قلوبهم، برفقك وابتسامتك.
اللاء الرابعة: لا تقارِن.
خطأ تربوي أخي المعلم إذا قصَّر طالب في أمرٍ ما أن يُوبَّخ بسلسلةٍ من المقارنات: انظر إلى فلان، لماذا لا تكن مثل فلان؟! فلانٌ أفضل منك.
هذا الانتِقاد يُحدث إحباطًا في الوجدان، وشعورًا بالدونيَّة، فيكون له أثرُه في ضعف شخصيَّته، وفَقْد الثقة بنفسِه، فضلاً عما يسبِّبهُ هذا الأسلوبُ من تفجُّر الغيرة المحبوسة في القلب تُجاه مَن يُقارن به.
تخيَّل أيُّها المعلم الكريم ، لو استُخدِم معك هذا الأسلوب، ألا تُحدث لك هذه المقارنةُ توتُّرًا في ضميرك؟! فكذلك من هو بين يديك، يَحمل بين جنبيْه نفسًا كنفسك، تغضب وترضى، تحب وتكره.
فاقْلع شجرة المقارنات من ترْبَة تربيتِك، وازْرَع مكانَها بذرة الأمل، واسقِها بالتَّشجيع، وتعاهدْها بالحثِّ على الكِفاح.
اللاء الخامسة: لا تكن يتيمَ المعاملة.
تذكَّر - أخي المبارك - أنَّ الخلق متفاوتون في عقولهم، وتفكيرهم، ودمائهم، وأمزِجتهم؛ فطبيعي أن يوجد هذا الاختلاف بين الطلاب ؛ فمِنهم الذكي النجيب، ومنهم مَن هو دون ذلك، منهم سريع الاستجابة، ومنهم البطيء، منهم الهادئ، ومنهم المستعجل.
فنوِّع معاملتك، وعدِّد أسلوبك بما يتناسب مع طبع الطالب وعقله، وهذا التنويع في التوجيه والتربية أسلوبٌ نبويٌّ، فقد كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ينوِّع أساليبَه في التوجيه بما يناسبُ حال المنصوح.
ومن تنوُّع المعاملة أن تدرك - أيُّها المعلم الكريم - أنَّ الطالب منذ زهراته حتَّى يشُبَّ، يمرُّ بمراحلَ عدَّة، ولكل مرحلةٍ ما يناسبها في التربية والتوجيه.
فلا يكن التعامل مع الطالب وهو على أعتاب مرحلة الثانوية معاملةَ المبتدأ في التعلُّم والتعليم.
الضرب مثلاً مع الصغير يُصلحه ويؤدِّبه، ومع المراهق قد يَبني معه جسرًا من الجفاء والنّفرة، فلكل مرحلةٍ أسلوبُها وطريقتها.
ومن وحْي السنَّة النبويَّة الدالِّ على هذا: ((مُروا أولادَكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع)).
التحكم في المشاعر حين مقابلة الجمهور ـ ومنهم الطلاب ـ هو سر النجاح، فوطن نفسك أخي المعلم على التغاضي، فتسعة أعشار الخلق في التغافل قالها الإمام أحمد.
فالمتوقع من طلابك الخطأ، والمنتظر منهم التقصير، ربما سمعت كلمة تستفز، أو ضحكة في غير محلها، فازرع في نفسك رحابة الصدر، واحتواء الموقف بما يناسبه، وبما لايفسد عليه دورك التربوي والتعليمي(وإنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم)
لا تفسر كل خطأ رايته بأنه عمل عدواني وجرأة على مقامك، فهذا نوع من الانتصار للنفس.
نعم .. بعض الأخطاء يحتاج فيها إلى المواجهة والتصريح والتوضيح، لكن أخطاء ليست بالقليلة يكفي فيها الإشارة والنظرة وتصل رسالتك، وبعض الأخطاء إعراضك عنها وتغافلك هو العلاج لها، وليكن حالك كما قال علي بن أبي طالب:
( أُغَمِّضُ عَيْنِي فيْ أُمُوْرٍ كَثِيْرَةٍ ** وَإِنِّي عَلَى تَرْكِ الْغُمُوْضِ قَدِيْرُ )
( وَمَا عَنْ عَمًى أُغُضِي وَلَكِنْ لَرُبَّمَا ** تَعَامَى وَأَغْضَى المَرْءُ وَهْوَ بَصِيْرُ )
( وَأَسْكُتُ عَنْ أَشْيَاءَ لو شِئْتُ قُلْتُها ** وليس علينا في المقالِ أميرُ )
( أُصَبِّرُ نَفْسِي بِاجْتِهَادِي وَطَاقَتِي ** وإِني بِأَخْلاَقِ الجَمِيْعِ خَبِيْرُ )
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....
أما بعد، فيا أخي المعلم واللاء السابعة تخاطبك فتقول: لا تستعجل الربح قبل رأس المال.
اعلم رعاك الله أن رأس مال التلميذ هو ما يتلقاه عنك من خلق واقتداء، وأما ما يأخذه عنك بعد ذلك من العلم والمعرفة فهو ربح وفائدة، ورأس المال مقدم على الربح.
تيقن أخي المعلم، أن المعلم كبير في عيون طلابه، فأخلاقك وتعاملك ورفقك رسائل صامته تفعل فعلها في نفوس الطلاب ما لا تفعله عشرات المواعظ والتوجيه المباشر.
فابتعد أخي المعلم عن مواطن الريب، فأنت أمام طلابك مراقب بالمرآة المكبرة، فالصغيرة من أعمالك كبيرة في أعينهم، والخافتة من أقوالك جهيرة في أسماعهم.
ومن صور الاقتداء أن لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله ، عار عليك إذا فعلت عظيم.
لا تربي الآخرين على الفضائل ، وقد هدَّمت أسوارها ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ).
وأخيراً ... يا معلمينا ... إنكم عاملون ، فمسؤلون عن أعمالكم فمجزيون، من الله ومن الأمة ومن الجيل الذي تقومون عليه كيلاً بكيل ، ووزناً بوزن، فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ولأمتكم وللمستقبل ، ولكم من الله الثواب وتلأجر ( إن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً ).
المرفقات
رسالة إلى معلم 22.docx
رسالة إلى معلم 22.docx
المشاهدات 2831 | التعليقات 3
ماشاء الله ، بارك الله فيك أستاذ ابراهيم ، وصايا إصلاحيّة راقية ، و تجديدٌ في أسلوبِ الوعظ والتذكير ، فقد صيغت الخطبة في نموذج حسابي تقسيمي رائع تستقبله العقول بالانتباه والرعاية . . . جزاك الله الجنّة ولا حرمك من لذّة النظر إلى وجهه الكريم .
ما شاء ولا قوة إلا بالله تجديد في أسلوب الطرح ووعذوبة في الكتابة ووحدة موضوعية مركزة
وأضيف إلى أن المعلم هو رأس عمود التعليم وذروة سنامه، وما ينفع سلامة منهج وما يغني ذكاء طالب إذا كان المعلم لا يحمل كفاءة ولا يملك أهلية فيومها سيكون ضرره أكثر من نفعه.
شكرنا الخالص لشيخنا المبارك ولكل المشاركين
ابو عبدالله التميمي
جزاك الله خير الجزاء ونفع بك .
تعديل التعليق