رسائل للصائمين
عبدالله اليابس
1438/09/07 - 2017/06/02 03:17AM
رسائل للصائمين الجمعة 7/9/1438هـ
الحمد لله الملك الجليل، المنزَّه عن النظير والعديل، المنعِمِ بقبول القليل، المتكرِّمِ بإعطاء الجزيل، تقدَّس عمَّا يقول أهل التعطيل، وتعالى عمَّا يعتقد أهل التمثيل, نصب للعقل على وجوده أوضح دليل، وهدى إلى وجوده أَبْيَن سبيل, وأمر ببناء بيت وجلَّ عن السكنى الجليل: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيل﴾، ثم حَماه لمَّا قصده أصحاب الفيل، فأرسل عليهم حجارة من سجيل.
أحمده كلما نُطِق بحمده وقيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنزَّه عن كل سوء قيل، وأصلي على محمد النبي النبيل, وعلى آله وأصحابه ومن سار على السبيل.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. وجاء رمضان .. وجاءت معه البركات والخيرات, جاء رمضان, وفتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب, وأغلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب, جاء رمضان وصفدت الشياطين.
رمضانُ أقبلَ يا أُولي الألبابِ *** فاستَقْبلوهُ بعدَ طولِ غيابِ
عامٌ مضى من عمْرِنا في غفْلةٍ *** فَتَنَبَّهوا فالعمرُ ظلُّ سَحابِ
نعم جاء رمضان .. وعن أي شيء أتحدث؟ هل أحدثكم عن أحكام الصيام الفقهية؟ أم عن آداب الصيام وأخلاقه؟ أم عن معاني الصيام الإيمانية وتوجيهاته الربانية؟ كل موضوع من هذه المواضيع خليق بأن يكون خطبة منفردة.. فاسمحوا لي إذاً أن أنثر بين أيديكم بعض الرسائل العامة والتي لا يربطها موضوع واحد سوى أنها رسائل للصائمين والصائمات.
الرسالة الأولى: إن أولى ما ينبغي أن يتنبه له المسلم في رمضان المحافظة على الفرائض, فيحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة في المسجد, فلا يتساهل في ذلك ولا يتوانى, ويتأكد الأمر بالنسبة للصلوات التي تكون في أوقات النوم والراحة؛ كصلاة الفجر والظهر, وهي فرصة للمتساهلين بصلاة الجماعة أن يعودوا لرشدهم ويُعَوِّدوا أنفسهم على المحافظة على صلاة الجماعة ابتداء من هذا الشهر, وتذكر أمر الله تعالى بصلاة الجماعة في أشد الحالات .. في المعركة .. حيث أمر بصلاة الخوف ولم يُسقط الجماعة عن المقاتلين, وروى أبو هريرةَ رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجلٌ أعمى فقال: يا رسولَ اللهِ! إنه ليس لي قائدٌ يقودُني إلى المسجدِ. فسأل رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أن يُرخِّصَ له فيُصلِّي في بيتِهِ. فرخَّصَ له. فلما ولَّى دعاهُ فقال: هل تسمعُ النداءَ بالصلاةِ؟ فقال: نعمْ. قال فأَجِبْ, فإذا كانت هذه الأوامر في حال المشقة فما بالك يا صحيح البدن وآمِنَ الحال؟
الرسالة الثانية: مع بداية الشهر سارع الناس بحمد الله إلى المساجد, وتسابقوا لقراءة كتاب الله بعد الصلوات وقبلَها, وامتلأت صفوف المصلين في صلاة التراويح والفجر, وماهي إلا أيام حتى بدأ الفتور يدب في النفوس, والضعف يستولي على العزائم, وماهكذا يا طالب الجنة تنال مطلوبك ..
المصابرة المصابرة .. والمجاهدة المجاهدة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.. نعم .. إن جاهدت نفسك اليوم فزت غدًا, وإنما الشهر أيام معدودات, فيفوزَ أقوام ويخيب آخرون, فاختر لنفسك أي الفريقين شئت.
حدد لنفسك عبادات ثابتة لا تتنازل عنها .. لا تتنازل عنها تحت أي ظرف كان.. فورد يومي من القرآن .. وورد يومي من صلاة النافلة .. وورد يومي من الأذكار والأوراد.. وصلاة التراويح يوميًا.. وهكذا.
وحدد لهذه العبادات أوقاتًا ثابتة في اليوم .. ولا تتركها حسب الفراغ.. فالقرآن بعد صلاة الفجر مثلاً.. وصلاة النافلة قبل الفجر.. والدعاء وقت الإفطار .. وهكذا .. وتذكر أن التخطيط السليم أساس لكل عمل ناجح.
الرسالة الثالثة: من أعظم المقاصد في تشريع الصيام حياة القلب وتحقيق التقوى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
فاحرص كل الحرص أيها الموفق على أن تستجلب في هذا الشهر كلَّ ما يحيي قلبَك ..
تجنب المعاصي والمنكرات .. اجتنب فضول المباحات .. استغلَّ الأوقات التي يغفل الناس عنها .. كالضحى والظهر وبين العشائين وفي جوف الليل .. اخلُ بنفسك مع الله تعالى.. أكثر من مناجاة الله تعالى وسؤاله ودعائه .. تدبر في كتاب الله .. احرص على عبادات السر .. وستلمس أثرها بإذن الله على نفسك وقلبك.
الرسالة الرابعة: لا تقتصر على العبادات اللازمة بل عليك بالعبادات التي يكون فيها النفع متعديًا, ففي العطاء لذة لا يعرفها البخلاء, أدخل السرور على الآخرين, أطعم جائعًا, اكس عاريًا, أغث ملهوفًا, فطر صائمًا, ادع إلى الله, روى ابن عمر رضي الله عنهما وصححه الألباني رحمه الله أن رجلًا جاء إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ: أيُّ الناسِ أحبُّ إلى اللهِ؟ وأيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أحبُّ الناسِ إلى اللهِ تعالى أنفعُهم للناسِ, وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ يُدخلُه على مسلمٍ, أو يكشفُ عنه كُربةً, أو يقضي عنه دَينًا, أو يطردُ عنه جوعًا, ولأن أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أن أعتكفَ في هذا المسجدِ ( يعني مسجدَ المدينةِ ) شهرًا.
أَتَى رَمَـضَانُ مَـزْرَعَـةُ العِـبَـادِ *** لِـتَـطْهِـيرِ القُلُوبِ مِنَ الفَـسَادِ
فَـأَدِّ حُـقُـوقَــهُ قَـوْلًا وَفِـعْـلَا *** وَ زَادَكَ فَـاتِّـخِــذْهُ لِلْــمَـعَـادِ
فَمَنْ زَرَعَ الـحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَا *** تَــأَوَّهَ نَادِمًــا يَـوْمَ الـحَـصَـادِ
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله تعالى لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على النبي الأمين, أما بعد:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. فمازال الحديث عن بعض الرسائل للصائمين والصائمات, ومع الرسالة الخامسة: رمضان كما قال الله تعالى: {أيامًا معدودات}, والعيد لا يأتي فجأة وإنما يعلم الجميع أنه بعد رمضان, ومن أنفس أيام السنة كلها وأكثرها بركة في الخير أيام العشر الأخيرة من رمضان, فلا ينبغي للمسلم أن يضيع تلك العشر بالدوران في الأسواق والمجمعات بحثًا عن مستلزمات العيد له ولأهل بيته, المفترض أن يستعد الواحد منا للعيد قبل رمضان, فإن فاته ذلك فلا أقل من أن يستعد له قبل العشر الأواخر, فالله الله بالمبادرة والمسارعة, والاستعداد للعشر الأواخر من الآن.
الرسالة السادسة والأخيرة: كما أن الصالحين وأهل الخير يفرحون برمضان ويعدونه موسمًا من مواسم الطاعات والقربات والإقبال على الله, فإن هناك فئة من أتباع الشيطان تفرح بهذا الموسم العظيم فتُعِدُّ له عدتها من الشر والفساد.
كانوا في السابق يتنافسون في طرح فتن الشهوات, ثم انزلق بهم الخط إلى الاستهزاء بالمتدينين بحجة نقد الظواهر الاجتماعية, ثم مال بهم الطريق وانحرف إلى الاستهزاء ببعض أحكام الشريعة فيها بحجة الخلاف الفقهي, وآخر ما آل إليه الأمر طرح الشبهات وتشكيك الناس في دينهم جهاراً نهاراً.
أعز ما على الإنسان دينه, ولذلك ينبغي أن يحرص عمن يأخذه, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر), وقال محمد بن سيرين ومالك بن أنس وغيرهما رحمهم الله: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم". أرأيت لو أصيب شخص بمرض عضال, هل يذهب لأي طبيب لعلاجه ويأخذ بقوله مباشرة؟ أم يحرصُ على السؤال عن الطبيب الجيد الذي يثق بعلمه وأمانته؟ فما بال حرص الناس على أبدانهم أشد من حرصهم على أديانهم؟
الشبهات خطافة, وعلم أغلب الناس قليل, ولذلك نهى الله تعالى عن الاستماع لمن يخوض في آيات الله وأحكام الشريعة منتقدًا لها ومشككًا فيها, {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}, قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: "المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة، والدعوةِ إليها، ومدحِ أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله، فأمر الله رسوله أصلاً وأمته تبعًا، إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل".
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (قال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيرادًا بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربُها؛ فلا ينضُح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقرُّ فيها؛ فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أَشرَبتَ قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات).
إن إيراد الشبهات على القلب والاستماع إليها يوصل الإنسان إلى درجة من الحيرة والقلق, فيعيش مضطربًا قلقًا, ولا راحة إلا بالإيمان الصادق, والفطرة السوية, كان الفخر الرازي من الفلاسفة المتكلمين, فلما كان آخر حياته قال" ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور" وقال:
نهاية إقدام العقول عقال *** وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا *** وحاصل دنيانا أذىً ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فالله الله في أديانكم .. لا تجعلوها كلأً مباحًا لكل ناعق ومخادع ومُلَبِّس.
فاللهم فقهنا في ديننا, وعلمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علمًا يا ذا الجلال والإكرام, اللهم ثبتنا على دينك حتى نلقاك يا رب العالمين.
اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
الحمد لله الملك الجليل، المنزَّه عن النظير والعديل، المنعِمِ بقبول القليل، المتكرِّمِ بإعطاء الجزيل، تقدَّس عمَّا يقول أهل التعطيل، وتعالى عمَّا يعتقد أهل التمثيل, نصب للعقل على وجوده أوضح دليل، وهدى إلى وجوده أَبْيَن سبيل, وأمر ببناء بيت وجلَّ عن السكنى الجليل: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيل﴾، ثم حَماه لمَّا قصده أصحاب الفيل، فأرسل عليهم حجارة من سجيل.
أحمده كلما نُطِق بحمده وقيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنزَّه عن كل سوء قيل، وأصلي على محمد النبي النبيل, وعلى آله وأصحابه ومن سار على السبيل.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. وجاء رمضان .. وجاءت معه البركات والخيرات, جاء رمضان, وفتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب, وأغلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب, جاء رمضان وصفدت الشياطين.
رمضانُ أقبلَ يا أُولي الألبابِ *** فاستَقْبلوهُ بعدَ طولِ غيابِ
عامٌ مضى من عمْرِنا في غفْلةٍ *** فَتَنَبَّهوا فالعمرُ ظلُّ سَحابِ
نعم جاء رمضان .. وعن أي شيء أتحدث؟ هل أحدثكم عن أحكام الصيام الفقهية؟ أم عن آداب الصيام وأخلاقه؟ أم عن معاني الصيام الإيمانية وتوجيهاته الربانية؟ كل موضوع من هذه المواضيع خليق بأن يكون خطبة منفردة.. فاسمحوا لي إذاً أن أنثر بين أيديكم بعض الرسائل العامة والتي لا يربطها موضوع واحد سوى أنها رسائل للصائمين والصائمات.
الرسالة الأولى: إن أولى ما ينبغي أن يتنبه له المسلم في رمضان المحافظة على الفرائض, فيحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة في المسجد, فلا يتساهل في ذلك ولا يتوانى, ويتأكد الأمر بالنسبة للصلوات التي تكون في أوقات النوم والراحة؛ كصلاة الفجر والظهر, وهي فرصة للمتساهلين بصلاة الجماعة أن يعودوا لرشدهم ويُعَوِّدوا أنفسهم على المحافظة على صلاة الجماعة ابتداء من هذا الشهر, وتذكر أمر الله تعالى بصلاة الجماعة في أشد الحالات .. في المعركة .. حيث أمر بصلاة الخوف ولم يُسقط الجماعة عن المقاتلين, وروى أبو هريرةَ رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجلٌ أعمى فقال: يا رسولَ اللهِ! إنه ليس لي قائدٌ يقودُني إلى المسجدِ. فسأل رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أن يُرخِّصَ له فيُصلِّي في بيتِهِ. فرخَّصَ له. فلما ولَّى دعاهُ فقال: هل تسمعُ النداءَ بالصلاةِ؟ فقال: نعمْ. قال فأَجِبْ, فإذا كانت هذه الأوامر في حال المشقة فما بالك يا صحيح البدن وآمِنَ الحال؟
الرسالة الثانية: مع بداية الشهر سارع الناس بحمد الله إلى المساجد, وتسابقوا لقراءة كتاب الله بعد الصلوات وقبلَها, وامتلأت صفوف المصلين في صلاة التراويح والفجر, وماهي إلا أيام حتى بدأ الفتور يدب في النفوس, والضعف يستولي على العزائم, وماهكذا يا طالب الجنة تنال مطلوبك ..
المصابرة المصابرة .. والمجاهدة المجاهدة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.. نعم .. إن جاهدت نفسك اليوم فزت غدًا, وإنما الشهر أيام معدودات, فيفوزَ أقوام ويخيب آخرون, فاختر لنفسك أي الفريقين شئت.
حدد لنفسك عبادات ثابتة لا تتنازل عنها .. لا تتنازل عنها تحت أي ظرف كان.. فورد يومي من القرآن .. وورد يومي من صلاة النافلة .. وورد يومي من الأذكار والأوراد.. وصلاة التراويح يوميًا.. وهكذا.
وحدد لهذه العبادات أوقاتًا ثابتة في اليوم .. ولا تتركها حسب الفراغ.. فالقرآن بعد صلاة الفجر مثلاً.. وصلاة النافلة قبل الفجر.. والدعاء وقت الإفطار .. وهكذا .. وتذكر أن التخطيط السليم أساس لكل عمل ناجح.
الرسالة الثالثة: من أعظم المقاصد في تشريع الصيام حياة القلب وتحقيق التقوى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
فاحرص كل الحرص أيها الموفق على أن تستجلب في هذا الشهر كلَّ ما يحيي قلبَك ..
تجنب المعاصي والمنكرات .. اجتنب فضول المباحات .. استغلَّ الأوقات التي يغفل الناس عنها .. كالضحى والظهر وبين العشائين وفي جوف الليل .. اخلُ بنفسك مع الله تعالى.. أكثر من مناجاة الله تعالى وسؤاله ودعائه .. تدبر في كتاب الله .. احرص على عبادات السر .. وستلمس أثرها بإذن الله على نفسك وقلبك.
الرسالة الرابعة: لا تقتصر على العبادات اللازمة بل عليك بالعبادات التي يكون فيها النفع متعديًا, ففي العطاء لذة لا يعرفها البخلاء, أدخل السرور على الآخرين, أطعم جائعًا, اكس عاريًا, أغث ملهوفًا, فطر صائمًا, ادع إلى الله, روى ابن عمر رضي الله عنهما وصححه الألباني رحمه الله أن رجلًا جاء إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ: أيُّ الناسِ أحبُّ إلى اللهِ؟ وأيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أحبُّ الناسِ إلى اللهِ تعالى أنفعُهم للناسِ, وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ يُدخلُه على مسلمٍ, أو يكشفُ عنه كُربةً, أو يقضي عنه دَينًا, أو يطردُ عنه جوعًا, ولأن أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أن أعتكفَ في هذا المسجدِ ( يعني مسجدَ المدينةِ ) شهرًا.
أَتَى رَمَـضَانُ مَـزْرَعَـةُ العِـبَـادِ *** لِـتَـطْهِـيرِ القُلُوبِ مِنَ الفَـسَادِ
فَـأَدِّ حُـقُـوقَــهُ قَـوْلًا وَفِـعْـلَا *** وَ زَادَكَ فَـاتِّـخِــذْهُ لِلْــمَـعَـادِ
فَمَنْ زَرَعَ الـحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَا *** تَــأَوَّهَ نَادِمًــا يَـوْمَ الـحَـصَـادِ
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله تعالى لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على النبي الأمين, أما بعد:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. فمازال الحديث عن بعض الرسائل للصائمين والصائمات, ومع الرسالة الخامسة: رمضان كما قال الله تعالى: {أيامًا معدودات}, والعيد لا يأتي فجأة وإنما يعلم الجميع أنه بعد رمضان, ومن أنفس أيام السنة كلها وأكثرها بركة في الخير أيام العشر الأخيرة من رمضان, فلا ينبغي للمسلم أن يضيع تلك العشر بالدوران في الأسواق والمجمعات بحثًا عن مستلزمات العيد له ولأهل بيته, المفترض أن يستعد الواحد منا للعيد قبل رمضان, فإن فاته ذلك فلا أقل من أن يستعد له قبل العشر الأواخر, فالله الله بالمبادرة والمسارعة, والاستعداد للعشر الأواخر من الآن.
الرسالة السادسة والأخيرة: كما أن الصالحين وأهل الخير يفرحون برمضان ويعدونه موسمًا من مواسم الطاعات والقربات والإقبال على الله, فإن هناك فئة من أتباع الشيطان تفرح بهذا الموسم العظيم فتُعِدُّ له عدتها من الشر والفساد.
كانوا في السابق يتنافسون في طرح فتن الشهوات, ثم انزلق بهم الخط إلى الاستهزاء بالمتدينين بحجة نقد الظواهر الاجتماعية, ثم مال بهم الطريق وانحرف إلى الاستهزاء ببعض أحكام الشريعة فيها بحجة الخلاف الفقهي, وآخر ما آل إليه الأمر طرح الشبهات وتشكيك الناس في دينهم جهاراً نهاراً.
أعز ما على الإنسان دينه, ولذلك ينبغي أن يحرص عمن يأخذه, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر), وقال محمد بن سيرين ومالك بن أنس وغيرهما رحمهم الله: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم". أرأيت لو أصيب شخص بمرض عضال, هل يذهب لأي طبيب لعلاجه ويأخذ بقوله مباشرة؟ أم يحرصُ على السؤال عن الطبيب الجيد الذي يثق بعلمه وأمانته؟ فما بال حرص الناس على أبدانهم أشد من حرصهم على أديانهم؟
الشبهات خطافة, وعلم أغلب الناس قليل, ولذلك نهى الله تعالى عن الاستماع لمن يخوض في آيات الله وأحكام الشريعة منتقدًا لها ومشككًا فيها, {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}, قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: "المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة، والدعوةِ إليها، ومدحِ أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله، فأمر الله رسوله أصلاً وأمته تبعًا، إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل".
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (قال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيرادًا بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربُها؛ فلا ينضُح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقرُّ فيها؛ فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أَشرَبتَ قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات).
إن إيراد الشبهات على القلب والاستماع إليها يوصل الإنسان إلى درجة من الحيرة والقلق, فيعيش مضطربًا قلقًا, ولا راحة إلا بالإيمان الصادق, والفطرة السوية, كان الفخر الرازي من الفلاسفة المتكلمين, فلما كان آخر حياته قال" ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور" وقال:
نهاية إقدام العقول عقال *** وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا *** وحاصل دنيانا أذىً ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فالله الله في أديانكم .. لا تجعلوها كلأً مباحًا لكل ناعق ومخادع ومُلَبِّس.
فاللهم فقهنا في ديننا, وعلمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علمًا يا ذا الجلال والإكرام, اللهم ثبتنا على دينك حتى نلقاك يا رب العالمين.
اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق