رسائل الزلزال

إبراهيم بن صالح العجلان
1434/06/08 - 2013/04/18 20:51PM
رسائل الزلزال 9 / 6 / 1434 هـ

الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ، وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ، وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ، فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ،أُوذي في سبيل ربِّه وقيل عنه ساحر ومجنون ، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم يبعثون ، أمَّا بعد... فاتقوا لله عباد الله حقَّ التقوى .
إخوة الإيمان :
تموج الأرض بالكوارث والمتغيرات ، ويَتفاجئ البشر بالغِيَرِ والمَثُلَاتِ .
يُقَلِّبُ الله عبادَه ويريهم من الآيات والكروب، ما يوجل القلوب ، ويعلقها بعلام الغيوب ، آيات كونية تضرب البشر هنا وهناك ، لعلهم يرجعون ويدَّكِرون ويتضرَّعون ( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا )
ومن الظواهر الكونية التي تستحق أن نقف معها وقفة تأمل وادِّكار ، والتي تهزُّ الأرض حيناً بعد حين ظاهرة الزلازل .
فكم نحن بحاجة أن أن نقف مع هذه الظاهرة وقفة إيمانية ، بعيداً عن التحليل المادي المجرَّد ، الذي لا يبني إيماناً ، ولا يزكي نفساً.
يا أهل الإيمان .. الزلزلة والزلزال آية من آيات الله في أرضه ، وقدر من أقدار الله في ملكه،يصيب بها من يشاء لحكمه،ويصرفها عن من يشاء (لا يسئل عما يفعل وهم يُسئلون ).
الزلازل والهزات الأرضية رسائل إنذار من الملك الجبار ، ( وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً ).
إنَّ ظاهرة الزلال لهي أعظم آية كونية ترتج لها النفوس ، وتنخلع لها القلوب ،
إنه منظر الأرض وهي تتصدع ، وتنشق ، وتتغير ، فما هي بالأرض التي عهدها الناس وقرُّوا فيها ، واستأنسوها ، ( والله جعل لكم الأرض بساطاً ) ، ( والأرض وضعها للأنام) ، ( ألم نجعل الرض مهاداً ).
هذه الأرض التي جعلها الله قراراً ، في مثل طرفة العين وانتباهتها يُغيِّر الله حالها من حال إلى حال ، فبينما الناس في دنياهم غافلون ، أو في لهوهم سادرون إذ أذن الله لجند من جنده أن يتحرك ، أذن للأرض الصلبة الساكنة أن تضطرب ، فإذا السقوف تجثو ، وإذا البنايات تتمايل ، وإذا الحيطان تتناثر .
ذهلت العقول ، زاغت الأبصار ، بلغت القلوب الحناجر .
اختلطت الأشلاء ، سالت الدماء ، أعضاء مقطعة ، وأجساد مبعثرة ، وجثث تحت الأنقاض تئن وتتوجع .
يخرج الناس مع رجفة الزلزلة مكلومين ، مشدوهين، نازحين، يسيرون ولكن إلى غير اتجاه، يقصدون لكن إلى غير وجهه، لا بيوتَ تنجيهم ، ولا أبراجَ تؤويهم (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ*لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ).
إنها صدمة سريعة خاطفة لا يمكن أن يعبر عنها اللسان ، أو يصورها البنان.
فكم في آية الزلزلة من عبرة وعظة نحن عنها غافلون ، كم في ظاهرة الزلازل من رسائل لبني البشر تخاطبهم بلسان الحال لا المقال :
ـ أولى تلك الرسائل تقول : ما أعظم قدرة الخالق سبحانه ، وما أشد بطشه ، تعالت عظمته ، وجلَّت قدرته ، إذا أراد بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دون الله من ولي ولا وال ، لا راد لقضائه المكروه ، ولا محيد عن أمره النافذ (إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون ) .
خرَّتْ لعظمة الله الجبالُ الراسيات، وتشققتْ من خشيتِه الصخورُ القاسياتْ .
فكم نحن بحاجة أن نراجع أنفسنا وتعظيمنا لمقام ربنا ، وخضوعنا له وإجلالنا مع هذه التغيرات المهولة.
كم نحن بحاجةٍ أن نستشعرَ عظمةَ اللِه وقد أُمْطِرنا بالشهوات ، والتفَّتْ حولنا الشبهات ، وتعلقنا بالماديات ، وتنافسنا في المظهريات .
ـ ومن رسائل الزلازل أنها يوم ترجف رجفتها كأنما تخاطب أهل الأرض بعجز المخلوق ، وضعفه ، وفقره ، وقلَّة حيلته ، وأن المخلوق مهما طغى وبغى، ومهما تجبر وتكبر ، ومهما أوتي من قوة وتقدم فليس بمعجز في الأرض ، يبقى هذا الإنسان مهما بلغ وكان ، فقيراً ذليلاً ما له من دون الله من ولي ولا نصير .
يبقى هذا الإنسان وإن اكتشف الذرة ، وصعد الفضاء ، وصنع الصواريخ العابرة للقارات ، ورصد أماكن الزلازل ودرجاتها يبقى ضعيفاً حائراً أمام هذا الجندي الإلهي ، فلا قوة عسكرية ، ولا ترسانة حربية ، ولا أجهزة تقدمية تقلل من حجم هذا الخسائر المادية ، فضلاً أن تدفعها أو تؤخِّرها .
ورسالة أخرى تعظنا بها هذه الزلازل :
فما نراه اليوم من دمار مهول ، ومشاهد مفجعة ما هو إلا جزء يسير ، ومشهد قصير من زلزال يوم عظيم .
إذا كان أهل الأرض فجعتهم حركةٌ قليلة ، وهزات يسيرة ، في ثواني معدودة ، وفي بقعة محدودة ، فكيف بنا يا أهل الإيمان إذا رُجَّت الأرض رجَّاً، وبُسَّت الجبال بسَّاً.
كيف حالنا إذا حملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة .
إنه زلزال لا موت فيه ، ولكن فيه الخوف المتناهي ، (إذا زلزلت الأرض زلزالها* وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان مالها ) .
زلزال يتمنى كثيرون لو أنهم بادوا قبله ولم يخلقوا (يوم يَنْظر الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُرَاباً).
إنه زلزالٌ وصفه الله العظيم بأنه عظيم،تذهل من هوله وشدَّته المراضع، وتشيب الولدان ، وتضع الحوامل ، (ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....

الخطبة الثانية

أما بعد فيا إخوة الإيمان ... حدثنا أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ . رواه البخاري في صحيحه .
وروى أحمد في مسنده بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بين يدي الساعة سنوات الزلازل ).
فحق على من عقل عن نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الأخبار، وسمع وشاهد مثل هذه الزلازل أن يسعى للآخرة حقَّ سعيها ، وأن يسابق عمره بالعمل الصالح الذي يقربه عند ربه زلفى .
فقد كان من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم وصالحي سلفكم أنهم كانوا يقبلون على ربهم مع إقبالهم إذا رأوا مثل هذه الكوارث .
انكسفت الشمس ضحى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ورآها الناس فخرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة فزعاً ، يجرُّ إزاره مسرعاً.
وحين حصل زلزال بالبصرة زمن ابن عباس ، صلى بالناس صلاة الزلزلة كهيئة صلاة الكسوف ، رواه ابن أبي شيبة وصححه ابن حجر .
وكان من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم وصحابته أنهم إذا رأو مثل هذه الآيات ارتفع صوت الوعظ ، بالبعد عن السيئات ، ومجافاة الذنب والخطيئات ،
رأى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم آية الكسوف فحذَّر أمته من عصيان الله، وانتهاك محارمه؛ فقال: يا أمَّة مُحمد، والله ما من أحد أغيرُ من الله أن يزني عبده، أو أن تزني أَمَته.
واهتزت الأرض في عهد عمر رضي الله عنه حتى شعر بها الناس ، فقال عمر :
(يا أهلَ المدينة، ما أسرع ما أحدثتم، والله لئن عادت لأخرجنَّ من بين أظهركم).
هذه بعض أخبار سلفكم مع هذه الكوارث فما خبرنا نحن؟ ما خبرنا نحن ، ونحن تتسابق إلينا الفضائيات في متابعة الحدث لحظة بلحظة.
إنَّ مما يؤسف له يا عبا دالله أنَّ مع كل كارثة نراها ونتابع أحداثها نرى أنَّ الصوت الأعلى هو التحليل المادي، فالأعاصير هي بسبب تيار هوائي ، والغبار بسبب منخفض جوي ، والطوفان سببه زيادة منسوب الماء ، والزلازل بسبب تشقق وتكسر في قشرة الأرض ، وهكذا كل ظاهرةٍ تفسَّر تفسيرًا ماديًّا صِرْفًا.
فأين أين مدبِّرها؟! أين مصرِّفها؟! أين خالقها؟! أين القهار موجدها؟!
أين قولَ العظيم الجبَّار: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا).
هذه التفسيرات الحسية القاصرة لا تُحرِّك القلوبَ إلى ربِّها، وإنَّما هي سبب من أسباب الغفلة، وقسوة القلب، وقلة الاتعاظ.
وليت الأمر ينتهي عند هذا،بل يتعدَّى إلى غمز ولمز وتنقص من يدعوا للتوبة فيها، أو أنها بسبب الظلم والعتوِّ والعلوِّ في الأرض.
تذكر أخبار الزلزال وصورته وآثاره ،والتي ترتج له القلوب ، ثم ماذا ؟ ثم بعد بضع دقائق ، ترى الفجور والمجون ، أفلام خليعة ، ورقصات مهيجة، فأي إعراض وغفلة أشد من هذا الرقاد ؟
إخوة الإيمان :
إنَّ التحذير من المعاصي وقت الكوارث لا يعني اتِّهام الناس بالتقصير، ورميهم بالفسق؛ فهل كان الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم حين رأى آية الكسوف، وحذر الناس من المعاصي متَّهمًا لأصحابه بالسوء ، أو حاكمًا عليهم بالانحراف؟.
هل مجتمعاتنا اليومَ خيرٌ من مجتمع محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم وصحابته الكرام؟
فما بال فئام من بني جلدتنا يأنفون من هذا الخطاب !
ما بال فئام من بني جلدتنا يشمئز من عبارة ( قل هو من عند أنفسكم ) وقد خوطب بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لا ندري والله لماذا يأْنَف هؤلاء أن يحذر الناس من المعاصي والمنكرات؟!
لماذا يَشْرَقون حين يطالب بإحياء شعيرة الاحتساب ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودورها في إصلاح المجتمع وحفظ أخلاق الناس وأعراضهم.
هل جهل هؤلاء أن استعلان المنكر واستعلاءه وحمايته والدفاع عنه سبب للعقوبات العامة ، ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة )
(أنَهْلِكُ وفينا الصالحون: قال: نعم، إذا كثر الخَبَث .
وفي الحديث : ( مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِى ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لاَ يُغَيِّرُوا إِلاَّ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ) رواه أبوداود.
وعند الترمذي وغيره وصححه الألباني : (سيكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف ، فقال رجل : يا رسول الله ومتى ذاك ؟ قال: إذا ظهرت القينات ، والمعارف وشربت الخمور )
فيا أيها الذين آمنوا: استدفعوا البلاءَ بكثرة الاستغفار؛ (...وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، واتقوا كوارث الدَّهر بالصلاح والإصلاح؛ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)
كونوا من أولي البقية الذين ينهوَن عن الفساد في الأرض.
ارجعوا إلى ربكم حقًّا وصدقًا، كما رجع خيار أمتكم، الذين جمعوا العملَ الصالح مع الخوف من الله في أزماتهم.
ونعوذ بالله أن نكونَ مِمَّن جمع الخطايا مع الأمن من مكر الله.
نسأل الله تعالى يجعلنا ممن يتعظ بالْمَثُلات، وأنْ يهديَنا سواء السبيل، وأن يحفظنا من طوارق الدهر وفواجع الزمان، إنَّه سميع قريب مجيب.
صلوا بعد ذلك على خير البرية ، وأزكى البشرية ....
المشاهدات 3408 | التعليقات 1

بارك الله فيك ونفع بعلمك