رحلة فلوية

الخطيب المفوه
1433/02/19 - 2012/01/13 07:39AM
رحلة فلوية

خطبة ألقيت في جامع أبي عبيدة بحي الشفا

ألقاها : د / سعد بن عبدالعزيز الدريهم .



بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله ، نحمدُه ونستعينه ونستغفره ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله ؛ فلا مضلَّ له ، ومن يضللْ ؛ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعدُ : فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد e، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها ، وكلَّ محـدثةٍ بدعــةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
في خضم هذا الأسبوع وفي معتركه أيها الجمع الكريم ، ينهي الطلاب من الأبناء والبنات اختباراتِ منتصف العام الدراسي ، نسأل الله لهم التوفيق والنجاح والتفوقَ فيها ، وسيعقب ذلك إجازةُ منتصف العام ، وهي فرصة يتخفف فيها الطلاب والطالبات من مئونة الدرس وضغط الانتظام في حلقاته ، وهي فرصة استجمام وراحة ، كما أنها فرصة لمشاركة الأولياء أبناءهم ؛ لذا هم يهتبلونها ؛ فتجدهم يجعلون إجازاتهم أو بعضاً منها موافقة لإجازة الأبناء ، وهذا من حسن التدبير وإدراك المسؤولية ، ومن فعل ذلك فهو ولا ريب يؤسس لدى الأبناء روح التلاحم الأسري ، ويعزز من دفئه في النفوس.
والناس أيها الجمع الكريم ، تتعدد وُجْهَاتُهم في هذه الإجازة رغم قصرها ، لكن ثمة طابَعٌ عام يغلب على الناس في هذه الإجازة ، وهو انتجاع الفلاة أو بعبارتنا الدارجة « البر » ؛ للاستمتاع بسحر الطبيعة والبعدِ عن ضوضاء المدن وصخبها ، ويرغِّب في ذلك لطافةُ جو هذه الأيام ، حيث لا حرٌ ولا بردٌ ، كما أنها الفرصةُ الوحيدة في العام ، وفي غيرَ ذلك تكون الأجواء مكفهرة حراً وبرداً ؛ لذا سننبعث في حديثنا هذا الأسبوع من هذا المنطلق ، وهو حديث لطيف يعزز ما عندكم من علم؛ وإن كان ما عندكم ربما فاق ما أقول ، والله المستعان ..
أيها الأحبة في الله ، طلعة البر تكون في بدايتها هماً يتلوه العزم ، فإن كان ثمة همٌ وعزم ولم تتردد فامض في طريقك ، وإن ترددت فاستخر الله ، ثم امض ؛ فإن كان خيراً فسترى تسهيل الله لك ، وإن كان شراً ؛ فسترى ما يجعلك تنصرف عنه ، وهذا مفهوم الاستخارة ، وليكن بعد ذلك توزيع المهام ؛ لتكون النفوس على جانب من الرضا ؛ إلا إن تبرع أحدٌ بكل ما يلزم فهذا شأن آخر ؛ ولكي تتجنبوا الخلل في الإعداد لتكن بين أيديكم قائمة بالأغراض ، وهناك في الشبكة العنكبوتية أُوجدت قوائم ما عليك إلا النظرُ فيها وطباعتُها ، وفيها دقة وإحاطة بكل شيء صغيرٍ وكبير ، وهذا من فضل الله سبحانه وتيسيره ، كما أن في تلك المواقع من النت إرشاداً لأجمل المواقع والطرق المؤدية إليها ، كما أنها تذكر ما يميز تلك لمواقع وما يكدرها ؛ فاستفيدوا منها وأفيدوا ..
وعندما يقع منك العزم وتوجهت للمضي ومغادرة البيت ؛ توجه إلى بيتك وودِّعه بكلمات الحفظ ، وقل : أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعُه ؛ فو الله الذي لا إله إلا هو ، إن لهذه الكلماتِ أثراً عجيباً في حفظ البيوت من السَرَقِ والحَرَقِ ، وما قالها أحد ففجع في بيته ، ولو قالها كلُّ أحد لما سمعنا بأخبار السرقات والحوادث المحرقة ، والله نسأل أن يحفظنا بحفظه وأن يكلأنا برعايته إنه جواد كريم .. وإذا انطلقت احرص على المشي بتؤدة وعليك بالرفق في كل أمرك ؛ فأنت خرجت لترتاح؛ فتجنب كلَّ ما يكدر ، وكن سمحاً في كل شأنك ، فهي من مظان الرحمة ومرتجياتها، وسل الله التوفيقَ والسلامة ، وتذكر أن دعواتك في سفرك مستجابة ؛ فتجنب الدعاء إلا الدعاءَ بخير ..
وأنت أيها المحب ، عندما تتخير مكان رحلتك الخلوية ، عليك أن تختار مكان وسطاً ليس بالبعيد أو القريب من المدن ؛ لأنك ربما احتجت إلى أمر من أمور الدنيا؛ فلا يكون عليك شاقاً في ذهابك وإيابك ، وهذا من حسن الرعاية والتدبير ، وإذا حططت رحالك تذكر حديث الحفظ والوقاية من شياطين الإنس والجن والهوام ؛ لا تنس قول حبيبك محمد r الذي : « من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحلمن مكانه» الحديث رواه مسلم . وتجنب في مكانك الذي نزلت الأودية ومجاري السيول ، وبعد أن تطمئن أيها الموفق ، في مكانك الذي انتجعت ؛ لتكن الصلاة من أولوياتكم ؛ فهناك مؤذن يؤذن للصلاة في وقتها ، وإمام يتولى جمعكم ؛ فإن كنتم دون مسافة القصر صلوا صلاتكم في وقتها دون قصر ، وإن كنتم فوق مسافة القصر وهي مقدَّرة بثمانين كيلواً ؛ فلكم أن تجمعوا وتقصروا ، وهي رخصة مَنَّ الله بها عليكم ؛ فاقبلوها ، والحق سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه كما قال النبي r ..
ومن فعل الأسباب أيها الأحبة ، وهي أسباب مباركة خاصة ليلاً ، أن تجعلوا منكم من يكلؤكم ويتولى حراستَكم ، ولو بالمناوبة ، كما أن هذا الحرس يتولى إيقاظكم لصلاة الفجر عند الاستغراق في النوم ، وهنا أمر ينبغي ألا يفوتكم ، وأظنكم على علم به ودراية ؛ خاصة لمن أدمنوا الخروج للبريات ، وهو أن أجمل أوقات البر هو ما بعد صلاة الفجر ، فأجواؤها رائعة ، وهواؤها يستفيد منه اليقظان، كما أن جِلْسَة النار والتحلّقَ حولها من متع الحياة التي لا تنسى مع القهوة والقدوع وبعدها الحليب ، والحديث خلال ذلك يسري في النفس لذةً سريان السم في اللديغ، فهو وربي حديث لا يُنسى ،
يا مـا حلا الفنجـال مـع سيحة البـال
فــي مـجلسن ما فيــه نفس(ن) ثقيـله
هـذا ولــد عـم وهـــذا ولـد خال
وهــذا رفيـــق مـا لـقـيـــنـا مـثـيلـه
ومن فاتته هذه الجِلْسة وقبلها صلاة الفجر ؛ فكأنه لم يخرج للبر ، ولم يستمتع برحيقه الرائق اللذيذ ..
وهنا أيها الأحبة ملحظ مهم ، وهو أن مراعاة الجار تكون وأنت في البر كذلك فلا تؤذي جارك ولا تزعجه ، وإن احتاج إلى معونة ؛ فابذلها له وتعاهده بمعروفك ورفدك ؛ وإن كان لجارك نسوة فاحفظهن بغض الطرف عنهن ، وتجنب المرور من حولهن إلا اضطراراً ، كما أن حفظ محارمك واجب لا يُتخفف منه لا حضراً ولا سفراً ؛ فتعاهدهن وراعهن وتخولهن بخيرك ما استطعت ، وجنبهن أماكن الاختلاط، ولا تجعلهن نهباً لنزق البر ورعونته ..
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه ، أحمده سبحانه وأشكره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسله ، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد : فيا أيها الأحبة في الله ، لتكن بين يديك وأنت في البر قاعدة ذهبية ، أن من استمتع بالمباحات لا يثرب عليه ، ولا ينكر ؛ فدع الأهل والأولاد والبنات يأخذون راحتهم ما داموا في حيز الحلال ، ولم يدخلوا لجة الحرام ؛ وليس هذا مجال الإلزام بالفضائل المندوب إليها ، بل اجعلهم على سجيتهم ، ولا يكن منك أمر ولا نهي في دخولك وخروجك ؛ لأن هذا يذهب بهجة الاستجمام ، ويحسسهم بشيء من قيود الحياة التي فروا منها ، كما أن جعلك أهلَ بيتك على سجيتهم يعرفك بطبائعهم وسجاياهم، وبذا تتعرف على شخصياتهم؛ فيسهل عليك بعد ذلك التعامل معها . كما أن التعامل مع الأطفال في البرية يجب أن يكون على قدر من السماحة ، اجعلهم على شيء من الخشونة ؛ فدعهم يتعاملون مع التراب انغماساً فيه ، وتفاهم مع أمهم أنها إن رأتهم على شيء من التبذل واتساخ الثياب والوجه، ألا تنهرهم ؛ لأن هذا سيعرفه على منحى آخر للحياة ، ويعزز فيه جانب التجربة .
كما أن من عظيم فائدة طَلَعَات البر أيها الجمع الكريم ، قتل الروتين ؛ فإذا كانت الرحلة عائلية ؛ فمن قتل الروتين أن يتولى الرجال طبخَ الغداء أو العشاء عن النساء، كما يتولون إعداد ما يحتاجون إليه من قهوة وشاي ، وهذا أمر لمن جرَّبه له نكهة تضفي البهجةَ على النفوس ، كما أنها تعطينا مجالاً للتندر والضحك وقضاءِ الوقت في التعرف على منفعة ربما نحتاج إليها ، كما أنها توقفك على ما تعمله المرأة وتعانيه في بيتها من طبخ ونفخ ، ومدار طلعة البر عموماً تدور حول البساطة ؛ فمادمت بسيطاً ؛ فأنت ستجد المتعة والأنس في البر ، وإن لم تكن طيب النفس بسيطاً فلن تستفيد ؛ لذا دع عنك رحلات البر ، وعليك بالقرار في بيتك لئلا تؤذي الطبيعة بخبث أنفاسك ..
وهنا معلم مهم لا بد أن نعرج عليه هنا ، وهو النظافة ؛ فأنت إذا فرغت من نزهتك حاول ما استطعت أن تجعل المكان نظيفاً كما أتيت إليه ، بل أحسن ؛ فاجعل المخلفات في أكياس القمامة ؛ فاحملها أو ادفنها ، وإذا كان هناك من يأتي لأخذها فاجعلها في مكان بارز ، واعلم أن مكانك بعد انقضاء رحلتك هو عنوانُك ؛ فاختر لنفسك العنوان المناسب ..
وهنا أمر يبدو أن التنبيه عليه قد فاتني ، لكن لا زالت الحاجة تستدعيه، وهو من السنن الواردة عن النبي r ، وهو أن الإنسان إذا ترك فراشه وأراد العود عليه أن ينفضه كله ، أو ينفضه بلحافه ؛ لأنه لا يدري ما خلفه عليه ؛ وهذا عام في الحضر والبر، ولكنه في البر يتعين لوجود الهوام ؛ قال النبي r: « إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره ، فإنه لا يدري ما خلفه عليه» رواه البخاري.
وهنا أيها الجمع الكريم حان الختام ، لكن لا بد قبل أن نسدل الستار أن نلفت الأنظار إلى أن رحلتك البرية إن نويت بها خيراً وتخففاً من أعباء الدنيا ، واستعداداً لمواصلة المسير ، وكذلك نويت بها اقتداء بنبيك محمد r فأنت مأجور غيرُ مأزور ، وعلى خير عريض من الله الكبير ؛ فقد ورد عن النبي r أنه كان يبدوا إلى السِلاع ، والسلاعُ هي منابع الماءِ من أعلىالوادي إلى أسفله . قال أهل العلم في تفسير ذلك : أنه كان يخرج للبر أو البادية للترفيه عن النفس والتفكر في عظيم مخلوقات الله ؛ فلا تنس نصيبك من الآخرة وأنت في متع الدنيا ، وقل : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ..
المرفقات

رحلة فلوية.doc

رحلة فلوية.doc

المشاهدات 3107 | التعليقات 3

جزاكم الله خير الجزاء


وأنت جزاك الله خيرا أخي شبيب ورفع قدرك

كم منالأخوة الذين مروا ولم يدعوا ، وأبخل الناس من بخل بالدعاء


جزاك الله خيرا

كذلك يضاف عليها دعاء السفر إذا كان مسافرا