رِحلةُ الحَجِّ (تعميم) 1445/11/9ه
يوسف العوض
الْخُطْبَةُ الْأُولَى
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ آيَاتِه : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَاب) .
عِبَادِ اللَّهِ : الْحَجُّ رِحْلَةٌ إِيمَانِيَّةٌ، وَتَرْبِيَةٌ رُوحِيَّةٌ، وَفِيه تَجْسِيدٌ عَمَلِي لِلْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ رَبِّ الْبَرِّيَّةِ، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ السَّامِيَةِ، وَتَطْهِيرٌ لِلنَّفْسِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَالْاثَامِ ، لِيَعُودَ الْمُسْلِمُ مِنْهَا بِنَفْسٍ سَوِيَّةٍ ،وَرُوْحٍ تَقِيَّةٍ نَقِيَّةٍ . وَالْحَجُّ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ، فَرَضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْعُمْرِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، إذَا كَانَ مُسْتَطِيعًا، فِي بَدَنِهِ وَمَالِهِ، عَلَى أَدَاءِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَنَفَقَاتِه، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مِنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) وَلِكَيْ يَفُوزَ الْمُسْلِمُ بِالْحَجِّ الْمَبْرُورِ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ نَفَقَاتُه مِنْ مَالٍ حَلَالٍ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طَيِّبٌ لَا يُقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يُقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا ) وَالْحَجّ رِحْلَةٌ تَهْفُو إلَيْهَا قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ، وَتَهِيمُ شَوْقًا إِلَيْهَا نُفُوسُ الْمُحِبِّينَ الْمُخْلِصِينَ، فَيَأْتُونَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ،لِيَجْسَدُوا مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامِ مَعْدُودَاتٍ، مِنِّيبِينَ إلَيْهِ، خَاشِعِينَ لِعَظَمَتِهِ، تَارِكِينَ الدُّنْيَا بِكُلِّ مَا فِيهَا وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، مُقْبِلِينَ عَلَى الْاخِرَةِ بِقُلُوبِهِمْ ،وَأَرْوَاحِهِمْ ،وَأَجْسَادِهِمْ، حَامِدَيْنَ اللَّهَ تَعَالَى، شَاكِرِين لأَنْعُمِهِ ، أَنْ وَفَّقَهُمْ لِأَدَاءِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ الْعَظِيمَة.
عِبَادَ اللَّهِ : وَالْحَجُّ فِيهِ مِنْ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ الْكَثِيرُ وَالْكَثِيرُ ؛ فَهُوَ يَغْرِسُ فِي نَفْسِ الْمُسْلَمِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَعَظَائِمَ الْخِصَالِ، وَطَهَارَةَ الْقَلْبِ، وَالْمُسَارَعَةَ إلَى الْخَيْرَاتِ، وَالْكَفَّ عَنْ الْجِدَالِ الْعَقِيمِ ، الَّذِي لَا طَائِلَ مِنْ وَرَائِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) وَفِي الْحَجِّ تَعْظِيمٌ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ ، وَاسْتِشْعَارٌ لِعَظَمَتِه فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ،أَمَّا يَوْمُ عَرَفَةَ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَيَّامِ اللَّهِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، وَاَلَّتِي بِدُونِهَا لَا يَصِحُّ الْحَجُّ ، فَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ : (أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى « الْحَجُّ عَرَفَةَ ) ، وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تَنْزِلُ الرَّحَمَاتُ وَالْبَرَكَاتُ، وَتُقْبَلُ فِيهِ الطَّاعَاتُ وَالدَّعَوَاتُ، وَهُوَ يَوْمُ يُعْتِقُ اللَّهُ فِيهِ رِقَابَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ :« مَا مِنْ يَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّ يُعْتِقُ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مَنْ يَؤُمُّ عَرَفَةَ وَأَنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاء ».
عِبَادَ اللَّهِ : وَهُنَاكَ مَكَاسِبُ عَظِيمَةٌ يَعُودُ بِهَا الْحَاجُّ مِنْ هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْإِيمَانِيَّةِ الْمُبَارَكَةِ؛ وَمِنْ أَعْظَمِ هَذِهِ الْمَكَاسِبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَهُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ ، يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ » وَأَمَّا الْمَكْسَبُ الثَّانِي فَجَسَّدُه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : « مِنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ » رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ ، أَيْ أنَّ الْحَاجَّ يَعُودُ مِنْ حَجَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمِنْ الْمَنَافِعِ الَّتِي يَجْنِيهَا الْحَاجُّ أَيْضًا الِالْتِقَاءُ بِهَذِه الْأَعْدَادِ الْغَفِيرَةِ مِنْ الْحَجِيجِ ،عَلَى اخْتِلَافِ أَوْطَانِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَثَقَافَاتِهِمْ ،وَعَادَاتِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ، وَهُنَا يَسْتَشْعِرُ الْمُسْلِمُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ وَالْإِخْوَةِ، فَالْكُلُّ جَاءُوا بِلِبَاسٍ وَاحِدٍ، وَوَقَفُوا عَلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَهُدَفُهُم وَاحِدٌ، وَهُوَ الْفَوْزُ بِالْحَجِّ الْمَبْرُورِ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
عِبَادَ اللَّهِ : وَمَنْ الْمَكَاسِبِ الْعَظِيمَةِ أَيْضًا لِهَذِهِ الرِّحْلَةِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالتَّرْبَوِيَّةِ : شُعُورُ الْمُسْلِم بِالْإِعْتِزَازِ لَأَنْتِمَائَهِ لِدَيْنٍ الْإِسْلَام ، فَحِينَمَا يَرَى هَذِهِ الْمَلَايِينَ ، مِنَ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوَبٍ ، لِيَجْتَمِعُوا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُبَارَكِ عَلَى قَوْلِ : « لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ ، لَا شَرِيكَ لَكَ »، وَهَذَا الْمُظْهَرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ نَجَدَهُ فِي غَيْرِ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهُنَا يَحِقُّ لِكُلِّ حَاجٍّ أَنْ يَفْخَرَ بِانْتِمَائَهِ لِهَذَا الدَّيْنِ الْعَظِيمِ ، وَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُبَارَكَةِ .
فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَفَّقَهُ اللَّهُ إلَى الْحَجِّ أَنَّ يَسْعَى جَاهِدًا إلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنَ هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْمُبَارَكَةِ ، حَتَّى يُقْبَلَ حَجُّهُ ،وَيَفُوزَ بِرِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، كَذَلِكَ عَلَيْهِ بَعْدَ عَوْدَتِهِ مِنَ الْحَجِّ أَنَّ يُبَدَّل سُلُوكَهُ إِلَى الْأَحْسَنِ، وَأنْ تَسْتَقِيمَ حَالُهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، فَهَذِهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ.
عِبَادَ اللَّهِ : أخيراً بيَنْت هَيْئَةُ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الِالْتِزَامَ بِاسْتِخْرَاج التَّصْرِيح لِلْحَجِّ هُوَ مِنْ طَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ فِي الْمَعْرُوفِ، وفي حَالَ عَدَمِ الِالْتِزَامِ بِاسْتِخْرَاجِ التَّصْرِيحِ سيُؤَثِّرُ عَلَى سَلَامَةِ الْحُجَّاجِ وَصِحَّتِهِم، وأَنَّ الْحَجَّ بِلَا تَصْرِيحٍ لَا يَقْتَصِرُ الضَّرَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ عَلَى الْحَاجِّ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْحَجَّاجِ الَّذِينَ الْتَزَمُوا بِالنِّظَام، وَمِنْ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا أَنْ الضَّرَرَ الْمُتَعَدِّي أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ الضَّرَرِ الْقَاصِر.
المرفقات
1715674881_الحج.docx