رجل دولة ومجتمع وأمّة! الشيخ أحمد بن عبد المحسن العسَّاف
الفريق العلمي
تدهشني سير عظماء العرب كثيرًا، ففيهم أهل رأي وبصيرة وحكمة، وما أكثر من يحمل سمة رجل الدّولة منهم، سواء في الأقدمين أو المعاصرين، ومن أسفٍ أن تغيب نماذجهم عن أحفادهم، ويصيبنا الهوس بسير الآخرين، والاقتباس من آرائهم فقط، وفي أسلافنا طراز رفيع من المستحقين للتّبجيل والاقتداء.
ومن الشّخصيّات العربيّة الباهرة، التّابعي الجليل الأحنف بن قيس التّميمي -رحمه الله-، ويكفيه فخرًا حيازته على إعجاب وتزكية الخليفة الشّامخ، وشيخ السّياسة الكبير، عمر بن الخطّاب -رضوان الله عليه-، ثمّ حظوته بتقريب ومشاورة من معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وهو المعروف بدهائه وبعد نظره.
ومكمن سر إعجاب الفاروق بالأحنف يعود إلى حرصه على تحقيق المصالح العامّة وتقديمها على مصالحه الخاصّة، وحبّه للخير العميم، وأمّا سبب تقريب معاوية له فصدق قوله، وعمق رأيه. ونال الأحنف رضا قومه وتسويدهم له بحلمه، وفاز بأعجاب معاصريه ومن بعدهم بنصحه ورفقه، وبلغ مرتبة عالية مع أنّه لم يرث مجدًا، ولم يكن حسن الهيئة؛ فما من خصلة تذم في جسد رجل إلّا وهي فيه، لكنّه إذا تكلم جلّى عن نفسه، وبدا سيّدًا وقورًا.
يختصر الأحنف آفات النّاس قائلًا: آفة الملوك سوء السّيرة، وآفة الوزراء خبث السّريرة، وآفة الجند مخالفة القادة، وآفة الرّعية مخالفة السّادة، وآفة الرّؤساء ضعف السّياسة، وآفة العلماء حبّ الرّياسة، وآفة القضاة شدّة الطّمع، وآفة العدول قلّة الورع، وآفة القوي استضعاف الخصم، وآفة الجريء إضاعة الحزم، وآفة المنعم قبح المنّ، وآفة المذنب حسن الظّن.
ويرى أبو بحر أنّ التّغافل من عادات الملوك، ويشفع للمساجين عند الأمراء؛ فإن كانوا حبسوا في باطل فالحقّ يسعهم، وإن حبسوا بحقّ فالعفو يشملهم، ويوصي بالعفو فهو أقرب للتّقوى، ويعتبر أنّ رأس سياسة الوالي خصال ثلاث: الّلين للنّاس، والاستماع منهم، والنّظر في أمورهم.
ولا ينفع عنده أمر السّلطان إلّا بالوزراء والأعوان، ولا ينفع الوزراء والأعوان إلّا بالمودة والنّصيحة، ولا تنفع المودة والنّصيحة إلّا بالرّأي والعفّة، وليس شيء أهلك للوالي من صاحب يحسِن القول ولا يحسِن العمل! وينقل عن علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- صنيعه الزّاهد وقوله: يجب على أئمّة الحقّ أن يعدّوا أنفسهم من ضعفة النّاس لئلّا يطغي الفقير فقره.
وله سياسة مع المال، يوضحها قوله وطريقته، فمن مقوله: خذوا العطاء ما كان نحلة، فإذا كان أثمان دينكم فدعوه! وفي حوار طويل مع معاوية، سأله عن خبره في جميع أمره؛ سواء ما ظهر منه أو ما خفي، فأجاب أبو بحر وأحسن الجواب، فلمّا فرغ سأله معاوية عن حاجته فأجاب: أن تتقي الله في الرّعيّة، وتعدل بينهم في السّويّة، ثمّ نهض دون أن يطلب لنفسه درهمًا أو دينارًا.
وعندما سُأل: ما بلغ من حزمك؟ أجاب: لا ألي ما كفيت، ولا أضيّع ما وليت، وقيل له: ما أصبرك! فأوضح للسّائل أنّ الجزع شرّ الحالين، حيث يباعد المطلوب، ويورث الحسرة، ويبقي على صاحبه عارًا. ويرى أنّ السّيد في قومه هو الذّليل في نفسه، الأحمق في ماله، المعنّي بأمر قومه، النّاظر للعامّة، ولتوافر هذه الخلال فيه؛ كان يغضب لغضبه مئة ألف فارس دون أن يسألوه لم غضب؟!
ومن درر نصائحه: يا بني، يكفيك من شرف الصّدق أنّ الصّدوق يُقبل قوله في عدوّه، ومن دناءة الكذب أنّ الكذّاب لا يقبل قوله لا في صديقه ولا في عدوّه! ويجزم أنّ الثّقة لا ينم ولا يبلّغ الكلام أو ينقله على سبيل الإفساد والتّحريش. ومن قواعده الخلقيّة: لا تعمل في السّر شيئًا تستحي منه في العلانيّة، ولأنّه من أكابر أهل المروءات؛ أجاب في غير مناسبة عن تعريف المروءة بأنّها العفّة، والحرفة، وكتمان السّر، وطلاقة الوجه، والتّودد إلى النّاس، والسّخاء.
والتّجربة جعلته يقول: ما عرضت الإنصاف قطّ على رجل فقبله إلّا هبته، ولا أباه إلّا طمعت فيه! ويزجر عن مصاحبة من يزري بالوعي حين يترك فينا خلاصة باذخة: إنّي لأجالس الأحمق فأتبين ذلك في عقلي، فحري بنا حماية عقولنا من وسائل، وقنوات، وأناس. وهو إمام في التّوازن والوسطيّة، ولذا فما أقبح القطيعة عنده بعد الصّلة، والجفاء بعد الّلطف، والعداوة بعد المودّة.
ومن سيرته العمليّة نراه يغلِب نفسه، ولا يتبع هواه، ويكرم جلساءه ولو كانوا بالمئات، ويخضع للحقّ وإن كان عليه، ولا يجهل، ولا يحرص، ويحذّر نفسه وقومه من حميّة الأوغاد؛ ويجلّيها بأنّها شأن من يرون العفو مغرمًا، والبخل مغنمًا، والتّواهب ضيمًا، والتّواهب هو التّنازل عن الحقوق للوصول إلى نقطة تراض بين طرفين أو أكثر.
ويبغض المتلونين، وتنقل عنه نصائح ثمينة في تربية الأولاد، والتّعامل مع الزّوجة، والتّصرف مع الحمقى والسّفهاء، وله علاقة وثيقة بالمصحف الشّريف، وهو صاحب قيام ليل وصيام نهار حتى مع اشتداد الحر، وتقدّم العمر، ويلتزم بمحاسبة نفسه على تقصيرها، وعلى أقوالها وأفعالها فوق ذلك.
كانت هذه جولة سريعة في كتاب عنوانه: حلم الأحنف: سيرة وأخلاق، تأليف الأديب والباحث السّوري محمّد خير رمضان يوسف، وأصدرت دار ابن حزم الطّبعة الأولى منه عام 1421-2000م، ويقع في (100) صفحة من القطع المتوسط، ويتكوّن من مقدّمة وثلاثة فصول، وفهرسان للمراجع والموضوعات، ومع صغر حجمه فهو غزير الفائدة كأغلب مؤلفات الأستاذ محمّد خير.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
ahmalassaf@
السّبت 18 من شهرِ صفر عام 1440
27 من شهر أكتوبر عام 2018م