رجلان تحابا في الله
أمير محمد محمد المدري
رجلان تحابَّا في الله
الحمد لله الذي ظهر لأوليائه بنعوتِ جلاله، وأنار قلوبَ أصفيائه بمشاهدة صفات كماله، وتحبب إلى عباده بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله، أحمده سبحانه حمدَ عبدٍ أخلص لله في أقواله وأفعاله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معين في تدبيره وأفعاله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبي أنعم الله على جميع أهل الأرض ببعثه وإرساله، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى جميع أصحابه وآله وسلم تسليماً كثيراً. أما بعدُ:
فيا أيها الناس، اتقوا اللهَ تعالى فإنَّ تقواه عليها المعوَّل، واشكروه على ما أولاكم من الإنعام والخير الكثير وخَوَّل، وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والصدرُ الأوَّل.
عباد الله:
لقاؤنا يتجدد وإياكم مع الأصناف السبعة السعداء، الذين يظلهم يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله.
واليوم مع الصنف الرابع من هؤلاء السعداء: رجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وافترقا عليه.
نعم.. رجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وافترقا عليه.
عباد الله:
إن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عُرى الإيمان، وبه تقع الألفة والمحبة، ولذلك ويشعر العاصي لله بكراهة الناس له وبغضهم لما هو عليه من معصية الله، فيُقلع ويتوب إن كان عاقلاً وأراد الله له الخير والهداية.
وحب المؤمن للخير وأهله دليل صادق على طيب نفسه، وطُهر قلبه، وأنه عند الله بمنزلة عالية، والمؤمن يحب أخاه المؤمن القريب والبعيد لا فرق بين أخيه المؤمن الذي من صلب أبيه ولا بين أخيه المؤمن من أنحاء الأرض الذي لا تربطه به إلا أواصر الدين وأخوة الإيمان، فيسرّ له في النعماء ويحزن عليه في البأساء، ويتولاه لإيمانه من دون آبائه وإخوانه وسائر أقربائه، ويؤثره على نفسه، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، وما ذلك إلا للمحبة الصادقة في ذات الله تبارك وتعالى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله أُناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله، قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور، ولا يخافون إذا خاف الناس». وقرأ هذه الآية: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62]. [صحيح الترغيب والترهيب/ 3026].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» [رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني].
قال الإمام الشافعي:
أُحب الصالحين ولست منهم
لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي
ولو كنا سواءً في البضاعة
فرد عليه الإمام أحمد:
تحب الصالحين وأنت منهم
رفيق القوم يلحق بالجماعة
وتكره من بضاعته المعاصي
حماك الله من تلك البضاعة
رجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وافترقا عليه:
والمؤمن يبغض العاصي ويصارحه بسبب بغضه له، وأنه من أجل الله، ويبغضه لفعله وارتكابه المعصية لا لشخصه وذاته، وهذه نقطة مهمة يجدر بكل مسلم معرفتها، فمتى أقلع العاصي عن معاصيه فينبغي أن تتوثق أواصر المحبة والأخوة الإيمانية. ومما يجب على المؤمن نحو العاصي والمحاد لله ورسوله الإنكار عليه بالحكمة والموعظة الحسنة أو القلب ومناوأته ولو كان من أقرب الناس وألصقهم به. قال تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: 4].
وروى الغزالي في «الأحياء» قول ابن عمر رضي الله عنهما: «والله لو أنفقت أموالي في سبيل الله، وصمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه.. ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة ولا أبغض أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار».
من هذا المنطلق: جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الولاء والبراء عقيدة.
رجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وافترقا عليه:
والمتحابون في الله على منابر من نور لأنهم يجتمعون في الدنيا على الأمر الذي يحبه الله ويرضاه، فتنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة، وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمن عنده.
والمرء يُحشر ويكون مع من أحب يوم القيامة فلينظر من يخالل ومن يحب، وليختر من يقربه إلى الله ويعينه على طاعة الله حتى يكون من الفائزين ومن السعداء في الآخرة.
ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: «ما أعددت لها؟» قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، قال: «أنت مع من أحببت». قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببت». قال أنس: فأنا أُحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم.
ونحن نُشهد الله أننا نحب رسول الله وأبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا، وجميع أصحاب الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وكل التابعين لنهجه المنير ونتضرع إلى الله بفضله لا بأعمالنا أن يحشرنا معهم جميعاً بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين.
ولله در القائل:
أتحب أعداء الحبيب وتدّعي
حُباً له، ما ذاك في الإمكان
إن المحبة أن توافق من
تحب على محبته بلا نقصانِ
تأملوا عباد الله إلى تعاملنا اليوم ومحبتنا لبعضنا بعضاً، فأكثر الحب ليس لله وإنما هو لغرض دنيوي لمال، لحسب، لنسب، لدنيا، وكل هذا الحب لمصلحة، وما إن تنتهي أيام قلائل من المحبة التي ليست مبنية على التقوى والإيمان حتى تصبح وبالاً على صاحبيها، لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.
قال الله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ [التوبة: 109].
رجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وافترقا عليه:
المتحابون في الله تدوم صحبتهم وتبقى مودتهم لبعضهم بعضاً أحياء وأمواتاً، قال تعالى: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67].
ومن أحب أحداً فليقل له: إني أحبك في الله، ويبرهن على صدق ما يقول بحسن المعاملة والإحسان إليه حتى يصدقه ويكافئه بمثل ما يصنع معه. وفى الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه».
وفى الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهما من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: «يا معاذ والله إني لأحبك ثم أوصيك يا معاذ: لا تدعنّ أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».
وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر رجل به فقال: يا رسول الله إني لأحب هذا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أأعلمته؟» قال: لا، قال: «أعلمه» فلحقه فقال: إني أحبك في الله. فقال: أحبك الله الذي أحببتني له. [رواه ابو داوود وصححه الألباني في صحيح الجامع 279].
اللهم اجعلنا من المتحابين فيك واجعل محبتنا جميعها لك وفيك برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يُقربنا إليك.
رجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وافترقا عليه:
محبة صادقة خالصة، محبة نشأت لله فتدوم لوجه الله، ومن أحبك لشيء أبغضك عند فقده، ومن لقيك بشيء فارقك عند فقده، فمن أحبك لدنياك كرهك لفقرك، ومن أحبك لوظيفتك فارقك لعزلك، ومن أحبك لمنصبك فارقك عند تغير أحوالك، إذاً فانظر من تحب، وانظر أولئك الذين جمعت أرقامهم وأسماءهم في دليل هاتفك، أسألك: هل تستطيع أن تخرج عشرة من هؤلاء تُعدُّهم للنوائب؟ هل تستطيع أن تجمع من مجموع من عرفت وخالطت وجالست وصادقت وخاللت وتعرفت.. هل تستطيع أن تخرج من هؤلاء خمسة أو عشرة؟
سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها ♦♦♦ صديقٌ صدوقٌ صادق الوعد مخلصا
رجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وافترقا عليه:
هذان رجلان لم تجمعهما مصالح الدنيا ومكاسبها، ولم تجمعهما عصبية بغيضة، إنما اجتمعا في طاعة الله وفيما يرضي الله، ولإعلاء كلمة لا اله إلا الله ، هذا سبب اجتماعهما، لهذا فإن الله سبحانه يجزيهما خير الجزاء على هذا الحب فيه، ويحبهما سبحانه ويثني عليهما، أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته - أي: على طريقه ـ ملكًا، فلما أتى عليه قال الملك: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه نعمة تربها؟ [أي: هل تريد أن تحافظ على أمر دنيوي بينك وبينه بهذه الزيارة] قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه».
هكذا يجزي الله الصادقين المخلصين في أعمالهم وحبهم، إذا والوا ففي الله، وإذا عادوا ففي الله، وهذا المقياس في الحب والبغض أوثق عرى الإيمان، إذا ضيعه المسلم أصيب بخلل في إيمانه، يقول صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله» [حسن، أخرجه الطيالسي في مسنده، رقم (378)، والطبراني في الكبير (10357)، والحاكم (2/480) وصححه].
رجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وافترقا عليه:
وهؤلاء من الأصناف الثلاثة الذين قال عنهم صلى الله عليه وسلم فيما أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كُنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان - ثم ذكر منها: - أن يحب المرء لا يحبه إلا لله »، فإذا أحببت رجلاً لله، لا لتجارة ولا لمنفعة ولا لمكسب، فأبشر ثم أبشر، فأنت من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين الرجلين من الصحابة ويجعلهم إخواناً.
جـاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد: قـد علمت الأنصار أنى من أكثرها مالاً، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولى امرأتان فانظـر أعجبهما إليك، فأطلقها حتى إذا حَلَّتْ تزوجْتَها. فقال عبد الرحمـن: بارك الله لك في أهلك. دلوني على السوق، فلم يرجـع يومئذٍ حتى أفْضَلَ شيئاً من سَمْنٍ وأقطٍ، فلم يَلْبث إلا يسيراً حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه وَضَرٌ من صُفرةٍ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَهْيَمْ؟» قال: تزوجتُ امرأةً من الأنصار قال: «ما سقت إليها؟» قال: وزن نواة من ذهب أو نواةٍ من ذهب فقال: «أولم ولو بشـاة».
وقد نتحسر الآن على زمن سعد بن الربيع ونقول أين أمثال سعد بن الربيع الذي شاطر أخاه ماله وزوجه؟! والجواب: ضاعوا. وذهبوا يوم أن ذهبوا أمثال عبد الرحمن بن عوف.
فإذا كان السؤال: من الآن الذي يعطي عطاء سعد؟! فإن الجواب: وأين الآن من يتعفف بعفة عبد الرحمن بن عوف؟!
قال أبو الحسن رحمه الله: تزودوا من الإخوان فإنهم ذخر في الدنيا وفي الآخرة. قالوا: يا أبا الحسن، أما في الدنيا فصدقت، وأما في الآخرة فمتى؟! قال: أما سمعتم الله يقول: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67].
فمن خالل أخاه في ذات الله تعالى كان خليلاً له في الآخرة، وكان مشفعاً مقبولاً فيه، إذا رضي الله وأذن له وكان من أهل الشفاعة.
فالمتحابون يناديهم الله تعالى: «أين المتحابون في جلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي فيقوم نُزَّاع القبائل فيجتمعون حتى يظلهم الله في ظله قيل: من هم نُزَّاع القبائل؟ قال: قوم لم يجتمعوا على حسب، ولا على سبب، ولا على نسب، وإنما جمعهم الحب في الله». [رواه مسلم رقم (2566) في البر والصلة، باب في فضل الحب في الله، والموطأ (2/952) في الشعر، باب ما جاء في المتحابين في الله].
هذا من شعب، وذاك من شعب، وهذا من قبيلة وذاك من قبيلة، جمعهم الحب في الله، فيناديهم الله تعالى، فيقومون يتخطون الناس حتى يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله. ونحن في هذا المسجد نسأل الله أن يجعلنا ممن تحابوا من أجله ونسأل الله كما جمعنا هنا على طاعته أن يجمعنا يوم القيامة في دار كرامته ورحمته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام. «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» [رواه مسلم رقم «2638» في البر والصلة].
قال الخطابي: فالخَيِّر يحنو إلى الأخيار والشرير يحنو إلى الأشرار هذا هو معنى ما تعارف من الأرواح ائتلف وما تنافـر وتناكر من الأرواح اختلف، لذا لا يحب المؤمن إلا من هو على شاكلته من أهل الإيمـان والإخلاص ولا يبغض المؤمن إلا منافـق خبيث القلب، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96].
أي يجعل الله محبته في قلوب عباده المؤمنـين، وهذه لا ينالها مؤمن على ظهر الأرض إلا إذا أحبـه الله ابتداءً. كما في الصحيحين من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً، فأحبه قال: فيحبه جبريل، ثم يُنادى في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء. قال ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إني أُبغض فلاناً فأبغضه فقال: فيبغضه جبريل ثم يُنَادى في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه. قال: فيبغضونه. ثم توضع له البغضاء في الأرض» [رواه البخاري رقم «3209» في بدء الخلق، باب ذكر الملائكـة صلوات الله عليهم].
ومن أسباب الألفة والمحبة: العفو، قال تعالى: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]، فمن عفا عن مظلمة، أورثه الله عزاً في الدنيا والآخرة.
والعفو هو: أن تعفو عمن ظلمك، كما عفا صلى الله عليه وسلم عمن ظلمه وقال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». يذكر ابن كثير وغيره، من المؤرخين أنه كان لابن الزبير مزرعة في المدينة، ولمعاوية مزرعة بجانب مزرعة ابن الزبير، فدخل عمال معاوية مزرعة ابن الزبير، فغضب وكتب رسالة إلى معاوية... فرد عليه معاوية رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم.. من معاوية بن أبي سفيان إلى ابن حواري الرسول وابن ذات النطاقين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فو الله الذي لا إله إلا هو لو كانت الدنيا بيني وبينك لهانت علي، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ عمالي إلى عمالك، ومزرعتي إلى مزرعتك. فقرأها ابن الزبير، فبكى، حتى بلها بالدموع، وذهب إلى دمشق، فقبل رأس معاوية، وقال: لا أعدمك الله عقلاً أحلك من قريش هذا المحل.
فانظر كيف صنع العفو.. وكيف قلب العدو صديقاً، وبدل البغض بالحب؟!
ومن أسباب الألفة: الدعاء بظهر الغيب، وأجمل الدعاء دعاء غائب لغائب.
يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لابن الشافعي بعد ما توفى الشافعي: «أبوك من السبعة الذين أدعو الله لهم وقت السحر».
هذه هي الأخوة الصادقة، والمحبة في الله وهذه هي حقيقتها، فإن الحب في الله لا تُبنى إلا على أواصـر العقيدة وأواصر الإيمـان، تلكم الأواصر التي لا تنفك عراها أبداً.
هذا وصلوا - رحمكم الله - على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك فقال في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].