رَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ
مبارك العشوان 1
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أمَّا بَعْدُ: فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ؛ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ).
عِبَادَ اللهِ: المَحَبَّةُ فِي اللهِ نِعْمَةٌ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ؛ وَعَمَلٌ مِنْ أَفَضَلِ الأَعْمَالِ؛ وَجَزَاؤُهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَعْظَمِ الجَزَاءِ؛ فَفِي هَذَا الحَدِيثِ: يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ.
وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: ( إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِـلَّ إِلَّا ظِــلِّي ) [ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ] وَيَقُولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ )[ أخرجه أحمد ومالك وصححه الألباني ]
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ، مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ ) [رَوَاهُ مُسْلِمٌ ]
المَحَبَّةُ فِي اللهِ - رَحِمَكُمُ اللهُ - هِيَ مَا كَانَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَا لِأُمُورٍ أُخْرَى؛ وَقَدْ دَلَّتِ الأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ عَلَى هَذَا؛ وَهُوَ وَاضِحٌ وَصَرِيحٌ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ) [ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]
وَيقولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: ( مَنْ أحَبَّ فِي اللهِ، وَأَبْغَضَ فِي اللهِ، وَوَالَى فِي اللهِ، وَعَادَى فِي اللهِ؛ فَإنَّمَا يَنَالُ وَلَايَةَ اللهِ بِذَلكَ، وَلَنْ يَجِدَ عَبْدٌ طَعْمَ الإِيمَانِ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصَومُهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ، وَقَدْ صَارَتْ عَامَّةُ مُــؤَاخَاِة النَّاسِ عَلَى أمْرِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَى أَهْلِهِ شَيْئًا )
عِبَادَ اللهِ: وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الحَدِيثِ: ( رَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ )
يَقُولُ ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُرِيدُ: أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا عَلَى التَّحَابِّ فِي اللهِ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا المَوْتُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ غَيْبَةُ أَحَدِهِمَا عَنِ الآخَرِ؛ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا عَلَى التَّحَابِّ فِي اللهِ؛ فَإِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُهُمَا عَمَّا كَانَ عَلِيهِ مِمَّا تُوْجِبُ مَحَبَّتُهُ فِي اللهِ فَارَقَهُ الآخَرُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَيَدُورُ تَحابُبُهُمَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ وُجُودًا وَعَدَمًا. اهـ
جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ المُتَحَابِّينَ فِيهِ، وَأَظَلَّنَا فِي ظِلِّهِ يَومَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ؛ وَبَارَكَ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيِ وَالذَّكَرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلُّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لِلهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ؛ أَمَّا بَعْدُ:
فَلْتَعْلَمُوا - وَفَّقَكُمُ اللهُ - أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِالحَثِّ عَلَى مَا يُقَوِّي المَحَبَّةَ بَينَ المُؤْمِنِينَ، وَبِالتَّحْذِيرِ مِمَّا يُوقِعُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ وَالفُرْقَةَ بَيْنَهُمْ.
فَأَمَرَ الشَّرْعُ بِأَدَاءِ الحُقُوقِ؛ كإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَبَذْلِ النَّصِيحَةِ، وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ، وعِيَادَةِ المَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الجِنَائزِ، وَنَصْرِ المَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ المُقْسِمِ، وَالعَفْوِ وَالتَّسَامُحِ، وَالإِصْلَاحِ بَينَ النَّاسِ، وبَذْلِ الهَدِيَّةِ، وَقَبُولِهَا وَالمُكَافَأَةِ عَلَيْهَا.
وَحَذَّرَ الشَّرْعُ مِمَّا يُوقِعُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ وَالفُرْقَةَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ( لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ) [ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]
وَحَذَّرَ مِنَ الكِبْرِ، وَالتَّعَالِي عَلَى النَّاسِ، وَاحْتِقَارِهِمْ، وكَثْرَةِ المِرَاءِ وَالجِدَالِ، وَمِنَ الغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَسُوءِ الظَّنِّ وَالتَّجَسُسِ، وَإِفْشَاءِ الأَسْرَارِ... وَنَحْوِ ذَلِكَ.
أَلَا فَلْنُخْلِصْ مَحَبَّتَنَا لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا؛ وَلْنَحْرِصْ عَلَى كُلِّ مَا يُقَوِّيهَا، وَلْنَحْذَرْ كُلَّ مَا يُفْسِدُهَا.
لِنُخْلِصْ مَحَبَّتَنَا لِلَّهِ؛ تَدُومُ لَنَا دُنْيًا وَأُخْرَى، وَنَنَالُ بِهَا مِنْ رَبِّنَا الجَزَاءَ الأَوْفَى.
قَالَ تَعَالَى: { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف 67] قَالَ ابنُ عَبَاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ رَضِيَ اللهُ عَنَهْمْ: صَارَتْ كُلُّ خُلةٍ عداوةً يَوْمَ القِيَامَةٍ إِلَّا المُتَّقِينَ.
لِنُخْلِصْ مَحَبَّتَنَا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ بِمَحَبَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا وَمَحَبَّةِ أَوْلِيَائِهِ، نُحِبُّ رَسُلَ اللهِ عَلَيهِمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ وَنُحِبُّ الصَّحَابَةَ الكِرَامَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، وَنُحِبُّ العُلَمَاءَ، وَنُحِبُّ الصَّالِحِينَ، وَنُحِبُّ كُلَّ مَنْ أَطَاعَ اللهَ وَرَسُوْلَهُ، وَاسْتَقَامَ عَلَى دِينِهِ.
وَلْيُبْشِرْ مَنْ كَانَ عَلَى هَذَا؛ فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ: ( وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟ قَالَ: حُبَّ اللهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ) قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا، بَعْدَ الإِسْلَامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْمَعَنَا مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أَوْلَئِكَ رَفِيقًا.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.