رجب الميقات والنفوس المدربة .. أ.شريف عبدالعزيز عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
من أفضل ما يُرزق به المرء في هذه الحياة الدنيا أن يعرف إجابة أهم الأسئلة الوجودية التي حارت البشرية منذ قيامها في الإجابة عليها حتى استضاءت بنور الوحي، ألا وهو السؤال: لماذا خلقنا الله؟ ما هي الغاية التي من أجلها خُلقنا وسُخر كل ما في الكون لخدمتنا؟ لماذا نحن موجودون في هذه الحياة الدنيا؟
فقد اتفقت جميع الرسالات من لدن آدم -عليه السلام- إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن تحقيق العبودية هي الغاية الكبرى التي من أجل خلق الله -تعالى- البشر وهيأ له كل ما في الكون لتيسير أداء تلكم الغاية الكبرى. قال -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[ النحل: 36]، وقال العظيم (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات:56]، ويقول سبحانه وبحمده: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الملك:2].
فلا تقرُّ حياة الناس ولا تستقيم دنياهم ولا تصلح آخرتهم، ولا تسعد قلوبهم ولا يدركون شيئاً من الطمأنينة والانشراح في هذه الدنيا إلا إذا حققوا هذه الغاية. فعبادة الله -جل وعلا- هي مشروع حياة، ليست مشروع حياة فردي، بل هو مشروع حياة للناس كافة، فالله -تعالى- بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق، بالهدى الذي هو العلم النافع، ودين الحق الذي هو العمل الصالح.
ولأن العبادة هي أعظم موضوع وأهم مطلوب فقد وضع الله -عز وجل- لها ضوابط وشروطاً، وقسّمها لأركان وفرائض وواجبات، وجعل فيها مستحبات ومندوبات، وجعل لها وسائل وسبلاً وأدوات، وجعل فيها أسراراً وغايات ساميات، وجعل منها عبودية القلوب والأجساد، لأن العبودية هي في الأصل عبودية القلوب؛ لأنه إذا لم تدن هذه القلوب وتذل وتخضع لله -تعالى- فلا فائدة في أن يقوم الإنسان ويقعد ويذهب ويجيء ويفعل ويترك لأنه عمل لا روح له، فروح العبادة هو عبودية القلب لله -تعالى-.
ومن رحمة الله -جل وعلا- بعباده أن يسّر لهم من الشرائع والسبل والأدوات والمواسم ما يهيئ به القلب للقيام بواجب العبودية، تكون بمثابة الاستعداد والتجهيز للقلب والنفس والجسد للقيام بواجب العبادة على الوجه الأمثل كما أمر الشارع وبما يضمن تحقيق أثر هذه العبادة في صلاح حياة العبد وآخراه. وشهر الله المحرم؛ رجب فاتحة هذه المواسم التعبدية.
التعريف بشهر رجب
شهر رجب هو الشهر السابع من شهور السنة الهجرية وهو أحد الأشهر الحرم التي قال الله -عز وجل- فيها: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[التوبة:36]. قال الإمام القرطبي: "خَصّ الله -تعالى- الأشهر الحرم بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها، وإن كان منهيًا عنه في كل الزمان، وعلى هذا أكثر أهل التأويل، أي: لا تظلموا في الأربعة أشهر الحرم أنفسكم"، وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب في حجته فقال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حُرُم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان".
قال الحافظ ابن كثير: " فإنما أضافه -أي رجب - إلى مُضر ليُبين صحة قولهم في رجب إنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم، فبَيَّنَ -صلى الله عليه وسلم- أنه رجب مضر لا رجب ربيعة".
رجب في اللغة مأخوذ من رجبَ الرجلَ رجَبا، ورَجَبَه يرجُبُه رجبًا ورُجُوبًا، ورجَّبه وترَجَّبَه وأرجبَهَ كلهُّ: هابه وعظَّمه، فهو مَرجُوبٌ، ورجب: شهر سموه بذلك لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه، ولا يستحلِّون القتال فيه، والترجيب التعظيم.
وذكر بعض العلماء أن لشهر رجب أربعة عشر اسمًا: شهر الله، رجب، رجب مضر، منصل الأسنة، الصم، منفس، مطهر، مقيم، هرم، مقشقش، مبرئ، فرد، الأصب، مُعلَّى، وزاد بعضهم: رجم، منصل الآل وهي الحربة، منزع الأسنة. وكثرة الأسماء تدل على شدة الاهتمام وعظم القدر عند العرب قبل الإسلام، وستبقى آثار هذا التعظيم في النفوس بعد الإسلام مما قاد البعض للوقوع في البدع والمخالفات العبادية ظناً منهم أن لها أصلاً في الإسلام.
تعظيم أهل الجاهلية لشهر رجب
كان أهل الجاهلية يسمون شهر رجب مُنصّل الأسنّة كما جاء عن أبي رجاء العطاردي قال: "كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة (كوم من تراب) ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا مُنصّل الأسنة فلا ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه وألقيناه في شهر رجب"(رواه البخاري).
وقال البيهقي: "كان أهل الجاهلية يعظّمون هذه الأشهر الحرم وخاصة شهرَ رجب فكانوا لا يقاتلون فيه. كما كان أهل الجاهلية يتحرون الذبح في رجب ويعدون الذبائح لذلك ويبالغون في هذا الأمر حتى أن الواحد منهم كان يتخير أفضل دوابه وأسمنها لذلك الشهر".
رجب في الإسلام ليس له ميزة عن غيره من شهور على مستوى التعبد، فلا عبادات مخصوصة في الأشهر الحرم عامة وفي رجب خاصة، وخصوصية الأشهر الحرم في التأكيد على اجتناب المحرمات، أما مضاعفة الحسنات والسيئات فمحل خلاف بين أهل العلم كبير، والراجح مضاعفة الكيف لا الكمّ والله أعلم.
البدع المشتهرة في شهر رجب
تعظيم العرب قديماً لشهر رجب وبقاء حرمته في الإسلام كواحد من الأشهر الحرم فتح الباب على مصراعيه لوقوع بعض المسلمين في بدع تعبدية خاصة في شهر رجب، من أهمها:
1 – بدعة الاحتفال بالإسراء والمعراج: حيث يحتفل بعض المسلمين بالإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، على اعتبار أنه -صلى الله عليه وسلم- أُسرِيَ به في هذه الليلة، والواقع أنه لم يثبت كون هذه الليلة هي التي أُسرِيَ به -صلى الله عليه وسلم- فيها، فقيل إنه -صلى الله عليه وسلم- أُسرِيَ به في ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر، وقيل: ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول.
قال ابن رجب: "وروي بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في سابع وعشرين من رجب، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره"، وعزاه ابن حجر لبعض القُصًّاص.
وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأتِ في الأحاديث الصحيحة تعيينها، لا في رجب ولا غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها، ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات، ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم يحتفلوا بها، ولم يخصوها بشيء، ولو كان الاحتفال بها مشروعًا لبينه الرسول -صلى الله عليه وسلم- للأمة إما بالقول وإما بالفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر، ولنقله الصحابة إلينا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها".
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "الاحتفال بذكر الإسراء والمعراج أمر باطل، وشيء مبتدع، وهو تشبه باليهود والنصارى في تعظيم أيام لم يعظمها الشرع، وصاحب المقام الأسمى رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- هو الذي شرع الشرائع، وهو الذي وضّح ما يحل وما يحرم، ثم إن خلفاءه الراشدين وأئمة الهدى من الصحابة والتابعين لم يعرف عن أحد منهم أنه احتفل بهذه الذكرى".
2 – الصوم في رجب: فلم يصح في فضل الصوم في رجب بخصوصه شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه – على الرغم من اشتهار الأمر - وإنما يشرع فيه من الصيام ما يشرع في غيره من الشهور، من صيام الاثنين والخميس والأيام الثلاثة البيض وصيام يوم وإفطار يوم، والصيام من سرر الشهر، وسرر الشهر قال بعض العلماء أنه أول الشهر وقال البعض أنه أوسط الشهر وقيل أيضا أنه آخر الشهر. ودخل أبو بكر -رضي الله عنه- فرأى أهله قد اشتروا كيزانا للماء واستعدوا للصوم فقال: " ما هذا؟ فقالوا: رجب. فقال: أتريدون أن تشبهوه برمضان؟ وكسر تلك الكيزان". وقد كان عمر -رضي الله عنه- ينهى عن صيام رجب لما فيه من التشبه بالجاهلية كما ورد عن خرشة بن الحر قال: رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول: كلوا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية".
قال الإمام ابن القيم: "ولم يصم -صلى الله عليه وسلم- الثلاثة الأشهر سردا (أي رجب وشعبان ورمضان) كما يفعله بعض الناس ولا صام رجبا قط ولا استحب صيامه". وقال الحافظ ابن حجر في تبين العجب بما ورد في فضل رجب: "لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معيّن ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة ".
3 – الذبح في رجب: ويُطلق عليها العتيرة، والعتيرة: هي ذبيحة كانت تذبح للأصنام في العشر الأول من رجب فيصب من دمها على رأسها، وهي من أفعال أهل الجاهلية، وكان بعضهم إذا طلب أمرًا نذر لئن ظفر به ليذبحن من غنمه في رجب كذا وكذا. فلما جاء الإسلام أبطل العادة الجاهلية.
وقد اختلف أهل العلم في حكم العتيرة إذا كانت خالية من شرك الجاهلية، بحيث يكون الذبح خالصاً لله -عز وجل- إلى عدة أقوال:
الأول: الاستحباب وهو قول الشافعية وابن سيرين من التابعين والدليل على ذلك ما رواه مخنف بن سليم قال: كنا وقوفًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفات فسمعته يقول: "يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية".
الثاني: الإباحة واستدلوا بما رواه يحيى بن زرارة بن كريم بن الحارث بن عمرو الباهلي قال: سمعت أبي يذكر أنه سمع جده الحارث بن عمرو لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع... فقال رجل من الناس: يا رسول الله العتائر والفرائع؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من شاء عتر ومن شاء لم يعتر، ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع، وفي الغنم أضحيتها"، وقبض أصابعه إلا واحدة.
الثالث: المنع والبطلان، لأن العرب كانت تفعل ذلك في الجاهلية، وفعله بعض أهل الإسلام، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهما، ثم نهى عنهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا فرع ولا عتيرة". فانتهى الناس عنهما لنهيه إياهم عنها، ومعلوم أن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل، والدليل على أن الفعل كان قبل النهي حديث نبيشة: "اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا الله -عز وجل- وأطعموا".
ورواية أبي هريرة -رضي الله عنه- وقد تأخر إسلامه للعام السابع من الهجرة دليل على نسخ حديث النهي لأحاديث الإباحة.
4 – صلاة الرغائب: وهي بدعة منكرة يصليها البعض في ليلة أول جمعة في شهر رجب بكيفية مخصوصة ورد فيها حديث موضوع باطل. قال النووي: "هي بدعة قبيحة منكرة أشد إنكار، مشتملة على منكرات، فيتعين تركها والإعراض عنها، وإنكارها على فاعلها". وقال ابن النحاس: "وهي بدعة، الحديث الوارد فيها موضوع باتفاق المحدثين". وقال ابن تيمية: "وأما صلاة الرغائب: فلا أصل لها، بل هي محدثة، فلا تستحب، لا جماعة ولا فرادى؛ فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام أو يوم الجمعة بصيام، والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء، ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلًا".
5 - العُمرة في رجب: دلت الأحاديث على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعتمر في رجب كما ورد عن مجاهد قال: "دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة -رضي الله عنها- فسئل: كم اعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أربعا إحداهن في رجب. فكرهنا أن نرد عليه قال: وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين (أي صوت السواك) في الحجرة فقال عروة: يا أماه يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقول؟ قال: يقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر أربع عمرات إحداهنّ في رجب. قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهد (أي حاضر معه)، وما اعتمر في رجب قط"(متفق عليه). وجاء عند مسلم: وابن عمر يسمع فما قال لا ولا نعم.
قال النووي: سكوت ابن عمر على إنكار عائشة يدل على أنه كان اشتبه عليه أو نسي أوشك.
ولهذا كان من البدع المحدثة في مثل هذا الشهر تخصيص رجب بالعمرة واعتقاد أن العمرة في رجب فيها فضل معيّن ولم يرد في ذلك نص إلى جانب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يثبت عنه أنه اعتمر في رجب.
حكم القتال في رجب والأشهر الحرم
القتال في الأشهر الحرم له حالان:
الأولى: أن يكون قتال دفع، بمعنى أن يبتدئ المعتدون القتال في الأشهر الحرم، فيجوز للمسلمين قتال هؤلاء المعتدين باتفاق العلماء. قال ابن مفلح -رحمه الله-: "وَيَجُوزُ القتال في الشهر الحرام دفعا، إجماعا".
الثانية: أن يكون قتال ابتداء، بمعنى أن يبتدئ المسلمون القتال في الأشهر الحرم: فذهب جمهور العلماء إلى أن تحريم بدء القتال في الأشهر الحرم: منسوخ، وذهب آخرون إلى أنه غير منسوخ؛ لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ)[المائدة: 2]، ولما رواه أحمد عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى - أَوْ يُغْزَوْا - فَإِذَا حَضَرَ ذَاكَ، أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ".
قال ابن كثير -رحمه الله-: "اختلف العلماء على تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام: هل هو منسوخ أو محكم؟ على قولين: أحدهما – وهو الأشهر -: أنه منسوخ، لأنه -تعالى- قال: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، وأمر بقتال المشركين، وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمراً عاماً، فلو كان محرماً في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها، ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاصر أهل الطائف في شهر حرام – وهو ذو القعدة – كما ثبت في الصحيحين "أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ فِي شَوَّالَ، فَلَمَّا كَسَرَهُمْ وَاسْتَفَاءَ أَمْوَالَهُمْ، وَرَجَعَ فَلُّهم، فَلَجَئُوا إِلَى الطَّائِفِ -عَمد إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرَهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَفْتَتِحْهَا" فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام.
والقول الآخر: أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام، وأنه لم ينسخ تحريم الحرام لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ)، وَقَالَ: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) الْآيَةَ
وأما قوله -تعالى- (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) فيحتمل أنه منقطع عما قبله، وأنه حكم مستأنف، ويكون من باب التهييج والتحضيض، أي يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم، فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير ما يفعلون.
وإلى القول الثاني ذهب ابن القيم -رحمه الله-، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "القول الراجح من أقوال العلماء: أنه لا يجوز القتال فيها، إلا ما كان دفاعاً، أو كان قد انعقدت أسبابه من قبل، بمعنى: أنه لا يجوز أن نبدأ قتال الكفار في هذه الأشهر الحرم، إلا إذا كان دفاعاً، بمعنى أنهم هم الذين بدءونا في القتال، أو كان ذلك امتداداً لقتال سابق على هذه الأشهر".
رجب الميقات والنفوس المدربة
وشهر الله المحرم؛ رجب هو فاتحة السباق السنوي للتعبد والتبتل والشهر الذي يدرب فيه العبد قلبه وبدنه ونفسه على معالى الأمور في الطاعات والعبادات السامقة.
وإن كان من فقه الاستعداد للحج: الإحرام من الميقات الذي يبعد عن الحرم بمسافات بعيدة قد تبلغ عدة مئات من الكيلو مترات في بعض المواقيت أراده الله بهذا البعد حتى يهيئ المحرم قلبه قبل أن يدخل على المناسك، فيستعد لهذا النوع الخاص من العبادة والتي يحتاج فيها العبد لانخلاعه من كل علائق الدنيا وشهواتها من زينة ومتع ولهو ويخشوشن في سمته وطريقة حياته، فإن من فقه الاستعداد لشهر رمضان: التحضير والاستعداد لأعمال وطاعات رمضان من شهر رجب الذي يعتبر بمثابة الميقات الزماني لشهر رمضان. فالشكوى العامة التي نراها كل عام في شهر رمضان من انقطاع الناس من مواصلة قيام رمضان والتهجد وختم القرآن وانخفاض عدد المصلين في المساجد خاصة في العشر الأواسط من الشهر، كل ذلك إنما يعود في الأساس لعدم الاستعداد والتهيؤ لشهر رمضان وأعماله التعبدية العالية. والاستعداد من شهر رجب يحفظ العبد من الوقوع في مهاوي الملل والانقطاع وضعف الهمة.
لذلك كان السلف -رضوان الله عليهم- يعدّون رجب شهر البذر، وشعبان شهر السقيا، ورمضان شهر الحصاد، فتراهم يشرعون في أعمال رمضان ويتدربون عليها من شهر رجب، فهذا الموسم التعبدي الكبير يحتاج إلى شيء من التهيئة، فالتهيئة نوعان: تهيئة قلبية بالاستعداد، وهذا ما كان عليه سلف الأمة، لما كانوا كما قال المعلى بن الفضل: كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان. هذه تهيئة قلبية. وهناك تهيئة عملية، وهي أن يتمرن الإنسان على العمل الصالح قبل مجيء الشهر، حتى إذا جاء الشهر يكون قد مَرِن جسمُه وتدرب بدنه على القيام بالطاعات، ولهذا كان السلف يكثرون من قراءة القرآن في هذا الشهر، وكان بعضهم يغلق حوانيته حتى يتفرغ لقراءة القرآن في شهر شعبان، حتى إذا جاء رمضان وقد تهيأت نفسه ونشطت للأعمال الصالحة بأنواعها وألوانها.
التدريب على أعمال رمضان عند السلف كان يبدأ من أول رجب، فكنت تراهم يعكفون على المصاحف، ويكثرون صيام التطوع وقيام الليل قبل رمضان بشهرين، حتى إذا ما ألفوا الطاعة ولانت لها نفوسهم واستعذبتها قلوبهم دخل رمضان وهم كذلك، فإذا بالطاعة ما أيسرها، وبالقلب ما أرقه قبل أن يبدأ رمضان.
فالدخول على المناسك بقلب قاس كالدخول على الصلاة بعقل شاتٍّ وقلب مشغول، كالشروع في الصيام والنفس مثقلة بالذنوب والعقل ممتلئ بالهموم والوقت غاض بالشواغل، فلا العبادة استحلاها، ولا هو بعدها اعتدل حاله، وانتهى عن غيه.
فتهيئوا عباد الله لرمضان بختمة تختمونها، ونوافل كثيرة تتنفلونها، وأيام تصومونها، ورقائق ومواعظ تسمعونها، وصدقات وخفايا تقدمونها، وقبل ذلك توبة شاملة من كل الذنوب والخطايا والأوزار (وثيابك فطهر). وعندما تلين الجوارح قبل المواسم تنطلق بلا توقف، فترى الكرامات والعطايا الربانية، ويفوق النتاج إدراك عقول الكسالى والبطالين، وعثمان -رضي الله عنه- ما ختم القرآن مصليا به في ليلة إلا عندما درب نفسه عليه قبل ذلك مئات الليالي بين حر صيف وبرد شتاء. فالنفوس المدربة تأتي بالعجائب فدربوا أنفسكم لموسم الرغائب، ورجب هلال هذا الموسم لمن يفهم.