رجب الشهر الحرام 30-60-1442

الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ؛ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ الْخَلْقَ فَأَحْصَاهُمْ، وَرَزَقَهُمْ فَكَفَاهُمْ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَفْضَلُ خَلْقِهِ، وَخَاتَمُ رُسُلِهِ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ؛ مَنْ أَطَاعَهُ رَشَدَ وَاهْتَدَى، وَمَنْ عَصَاهُ ضَلَّ وَغَوَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: اتَّقُوا اللهَ وأطيعُوه؛ فالتقوَى وصيَّةُ الله للأولِين والآخِرِين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)

أَيُّهَا المُسْلِمونَ: خَالِقَ الشَّيْءِ وَوَاضِعَهُ هُوَ المُسْتَحِقُّ لِأَنْ يَضَعَ فِيهِ أَوْ فِي بَعْضِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا يَشَاءُ، وَأَنْ يَشْرَعَ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا يَشَاءُ؛ (أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ).

ومِنْ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِتَعْظِيمِهَا، وَمُرَاعَاةِ حُرْمَتِهَا، وَالْإِمْسَاكِ عَنْ ظُلْمِ النَّفْسِ فِيهَا: الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّـهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّـهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)

وغدًا -يا عبادَ الله- يُطِلُّ علينا شَهْرٌ عَظيمٌ: (شهرُ رَجَب) وهُوَ مِنَ الأشْهُرِ الحُرُم، يقَعُ وَسطَ العَام، هوَ شَهْرُ البَذْرِ لِرَمَضَان، وما بَعْدَهُ شَهْرُ السَّقي، ورَمَضانُ شَهْرُ الجَنيِ والحَصَاد.

عن أَبِي بَكْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ».

وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِي هذهِ الأشْهُر؛ لِيَأْمَنَ الْحُجَّاجُ وَالزُّوَّارُ.

أيُّها المؤمنون: وَتَحْرِيمُ الأَشْهُرِ الحُرُمِ يَقْتَضِي تَعْظِيمَهَا، وَأَنْ لَا تَكُونَ مِثْلَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَشْهُرِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ المَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ كَوْنِهَا أَشْهُرًا حُرُمًا، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ: رَدُّ الْعُدْوَانِ، وَهُوَ جِهَادُ الدَّفْعِ، فَيَحِلُّ فِيهَا.

وَمِنْ تَعظِيمِهَا: تَحْرِيمُ الظُّلْمِ فِيهِا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَالظُّلْمُ ظُلْمَانِ: ظُلْمُ النَّفْسِ بِالمَعَاصِي، وَظُلْمُ الْغَيْرِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَآيَةُ تَعْظِيمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ عَلَى اجْتِنَابِ الظُّلْمِ (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).

وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ المَعَاصِيَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ [وَرَجَبٌ مِنْهَا] أَشَدُّ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا، سَوَاءً كَانَتِ المَعَاصِي مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ اللَّـهِ تَعَالَى، أو بِحُقُوقِ النَّاسِ.

وَالتَّقْصِيرُ فِي الْفَرَائِضِ ظُلْمٌ وَمَعْصِيَةٌ؛ فَمَنْ كَانَ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا؛ فَلْيَتَّقِ اللهَ وَلَا يُؤَخِّرْهَا، وَمَنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فَلْيُحَافِظْ عَلَيْهَا.. وَهَكَذَا كُلُّ طاعةٍ؛ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَأْتِيَ بِها عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَيَجْتَهِدَ فِي أَنْ لَا يَبْخَسَ مِنْها شَيْئًا فِي هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ وَنَهَى عَنْ ظُلْمِ النَّفْسِ فِيهِ.

وَمَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ خِيفَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيغَالِ فِي المَعَاصِي، وَالِانْتِقَالِ مِنْ لمَمِهَا وَصَغَائِرِهَا إِلَى كَبَائِرِهَا.. وَلِلْأَسَفِ! فَإِنَّ رَجَبًا يَمُرُّ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ كَمَا يَمُرُّ غَيْرُهُ مِنَ الشُّهُورِ، لَا يَسْتَشْعِرُونَ حُرْمَتَهُ، وَلَا يَسْتَحْضِرُونَ عَظَمَتَهُ، وَلَا يُرَاعُونَ حَقَّ اللَّـهِ تَعَالَى فِيهِ.

أَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّـهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه r.. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه. فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.. أما بعد:

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مِنَ الْخَطَأ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ خَلْطُهُمْ بَيْنَ تَعْظِيمِ حُرْمَةِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ تَخْصِيصِهِ بِعَمَلٍ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ؛ فَكُلُّ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ -وَمِنْهَا رَجَبٌ- لَا يُشْرَعُ تَخْصِيصُهَا بِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ، إِلَّا مَا دَلَّ عَليهِ الدّلِيلُ؛ كَالاجْتِهَادِ بِالْعَمَلِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ وَصَومِ عَاشُورَاءَ وَعُمُومِ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ، والْعُمْرَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.

أمَّا تَخْصِيصُ رَجَبٍ بِإِحْيَاءِ لَيَالٍ مِنْهُ، أَوِ الِاحْتِفَالِ بِهَا، أَوْ صِيَامِ أَيَّامٍ مِنْهُ، أَوْ تَخْصِيصِهِ بِصَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ ذَبِيحَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ أَيِّ عَمَلٍ صَالِحٍ لَا يَعْمَلُهُ إِلَّا لِأَنَّهُ فِي رَجَبٍ؛ فَهذا غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَالِابْتِدَاعُ فِي دِينِ اللَّـهِ؛ مِنَ الظُّلْمِ المَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).

فاتَّقوا الله عبادَ الله، وعَظِّموا ما عَظَّمَ اللهُ ورسُولُه، وعليكم بالسُّنّةِ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمورِ، فإن كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا). اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين.. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفقه وولي عهده لما تحب وترضى، وهيِّئ لهم البِطانةَ الصالحةَ التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه، يا ذا الجلال والإكرام..  اللهم أمِّن حدودَنا، وانصُر جُنودَنا، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على العدوِّ يا قويُّ يا عظيم يا عزيز.

اللهمَّ انصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهمَّ أصلح أحوال المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.

اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنى والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.