ربِّ اجعَلْ هَذا البَلدَ آمِناً (حسب التعميم)
يوسف العوض
الخطبة الأولى
أيُّها المُؤمنونَ : الْأَمْنُ وَالِاسْتِقْرَارُ مِنْ ضَرُورياتِ الْحَيَاةِ، تَصْلُحُ بِهِمَا الْأَحْوَالُ، وَيَنْمُو الْعُمْرَانُ، وَتُقَامُ الشَّعَائِرُ، وتتحققُ العبوديةُ لله تعالى، وَالْإِنْسَانُ لَا يَجِدُ هَنَاءً فِي عَيْشِهِ، وَطُمَأْنِينَةً فِي نَفْسِهِ إِلَّا بِأَمْنٍ وَاسْتِقْرَارٍ؛ فَالْخَوْفُ يُنَغِّصُ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ، وَالِاضْطِرَابُ وَالتَّشْرِيدُ يَسْلُبُهُ مُقَوِّمَاتِ عَيْشِهِ، وَلِأَهَمِّيَّةِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ المُؤْمِنِينَ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ، فَهُمْ آمِنُونَ مِنْ فَقْدِ نَعِيمِهَا، وَآمِنُونَ مِنْ كُلِّ مُكَدِّرٍ فِيهَا ، قال تعالى :" إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ،ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ " وَهُمْ مُسْتَقِرُّونَ فِيهَا، لَا يَخْشَوْنَ خُرُوجًا مِنْهَا، وَلَا اضْطِرَابًا فِيهَا، وَنَعِيمُهُمْ فِيهَا مُسْتَقِرٌّ فَلَا يَخَافُونَ نَقْصَهُ وَلَا انْقِطَاعَهُ قال تعالى : "خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا".
أيُّها المُؤمنونَ : وَحِينَ أَذِنَ اللهُ تَعَالَى بِإِسْكَانِ الْبَشَرِ الْأَرْضَ، بَسَطَ لَهُمْ فِيهَا الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ وَسَخَّرَ لهم مَا عَلَيْهَا ، قال تعالى لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَهْبَطَهُ الْأَرْضَ: "وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" وَمِنْ البلاغة القرآنية فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ قُدِّمَ فِيهَا الِاسْتِقْرَارُ عَلَى المَتَاعِ، وَالمَتَاعُ هُوَ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ النَّاسُ مِنَ المَآكِلِ وَالمَشَارِبِ وَالمَرَاكِبِ وَالمَلَابِسِ وَالمَسَاكِنِ، وَكُلُّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا بِلَا اسْتِقْرَارٍ، فَكَانَ الِاسْتِقْرَارُالرُّكْنَ الْأَهَمَّ لِلْعَيْشِ فِي الْأَرْضِ، وَفَقْدُهُ يُؤَدِّي إِلَى فَقْدِ كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي لَا اسْتِقْرَارَ فِيهَا يُفَارِقُهَا أَهْلُهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَلَوْ عَظُمَتْ خَيْرَاتُهَا، وَتَفَجَّرَتْ ثَرَوَاتُهَا، فَلَا قِيمَةَ لَهَا بِلَا اسْتِقْرَارٍ، وَالْأَرْضُ المُسْتَقِرَّةُ يُبَارَكُ فِي رِزْقِ أَهْلِهَا، وَيَهْنَئُونَ بِعَيْشِهِمْ فِيهَا، وَلَا يفارقونها إِلَى غَيْرِهَا، فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَهُمْ يَجِدُونَ الِاسْتِقْرَارَ.
أيُّها المُؤمنونَ : وَبِالْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ تَعْمُرُ الْأَرْضُ، وَيُقَامُ فِيهَا دِينُ اللَّـهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي تُسَبِّبُ الْخَوْفَ وَالِاضْطِرَابَ، وَتَسْلُبُ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ؛ تَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الْعِبَادَةِ، وَتُمَكِّنُ لِلْكُفْرِ وَأَهْلِهِ فِي الْأَرْضِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ" ولذلك حثّنَا النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الإقبالِ على العملِ الصَّالحِ حالَ الاضطرابِ والفتنِ فقالَ : "بَادِرُوا بِالأعْمَال فتناً كقطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ ، يُصْبحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً ، وَيُمْسِي مُؤمِناً ويُصبحُ كَافِراً ، يَبيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا " رواه مسلم ، فأرشدَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في زمنِ الفتنةِ وعدمِ الاستقرارِ إلى الانشغالِ بعبادةِ اللهِ جلَّ وعلا والإقبالِ على طاعتِه ، لأن الفتنَ والاضطراباتِ وعدمَ الاستقرارِ تشغلُ العبدَ عمّا خُلقَ له من عبادةِ اللهِ والتقربِ إليه ، فَالْأَمْنُ وَالِاسْتِقْرَارُ لَا يُجَازِفُ بِهِمَا إِلَّا مَجْنُونٌ، وَلَا يَسْتَهِينُ بِأَمْرِهِمَا إِلَّا أَحْمَقُ مَخْذُولٌ، وَلَا يَسْعَى لِتَجْرِيبِ ضِدِّهِمَا إِلَّا جَاهِلٌ مَغْرُورٌ.
أيُّها المُؤمنونَ : وَإِذَا كَانَ الْأَمْنُ وَالِاسْتِقْرَارُ بِهَذِهِ الْأَهَمِّيَّةِ الْكَبِيرَةِ كَانَ لِزَامًا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الْحِفَاظُ عَلَيْهِمَا، وَالسَّعْيُ فِي تَقْوِيَتِهِمَا، وَاجْتِنَابُ مَا يُؤَدِّي لِفَقْدِهِمَا، بل واستخدامُ القوةِ إنْ لزمَ ذلك لأجلِ استعادةِ الأمنِ والاستقرارِ في حياةِ الشعوبِ في حال فقدهِما، قالَ تعالى " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ".
الخطبة الثانية
أيُّها المُؤمنونَ : وَمِنْ أَهَمِّ مُقَوِّمَاتِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ تحقيق التوحيد والعبودية لله تعالى ومحاربة الشرك قال تعالى : "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" والظلم المقصود به في الآية الشرك كما بينه النّبي صلّى اللهُ عليه وسلّم في قولِ اللهِ تعالى :"وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ".
أيُّها المُؤمنونَ : وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ لُزُومُ الْجَمَاعَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ شَقِّ عَصَا المُسْلِمِينَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمَّا أَخْبَرَ عَنْ زَمَنِ الْفِتَنِ، وَكَثْرَةِ دُعَاةِ جَهَنَّمَ، سَأَلَهُ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَمَّا يَفْعَلُ إِنْ أَدْرَكَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
أيُّها المُؤمنونَ : وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ ترك الذنوب والمعاصي ولزوم أحكام الله وشرعه، فعلى قدر مخالفة أوامر الله يختل الأمن وتحدث الفتن والاضطرابات، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ".
المرفقات
1663670199_الامن.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق