ربوبية الله تعالى
عمر الزبيدي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فاتقوا الله – أيها المسلمون- واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ماكسبت وهم لايظلمون.
معاشر المسلمين: ربنا عز وجل أعظمُ موجود، والعلم به ومعرفته أعظمُ مطلوب، فالإيمان بالله سبحانه، وتعظيمُه وقدره حق قدره يظفر به من عرف الله حقاً، لأجل ذلك كثر في القرآن الأدلةُ على ربوبية الله تعالى وعلى ألوهيته وعلى أسمائه وصفاته، بل القرآن كله متضمن للتوحيد.
في آيات القرآن حديث مستفيض عن عظمة الله، ينتفع بها المؤمنون، فتحيي قلوبهم، وتزيد إيمانهم، من استمعه بقلب حاضر، وقصد صالح، انتفع به أيما انتفاع، يدل على ذلك قولُ الله تعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ ألْقى السَّمْعَ وهْوَ شَهِيدٌ﴾ فتأملوا – رحمكم الله- في عظمة ربكم وفي تفرده بالربوبية؛ من الخلق والرِزق والإحياء والإماتة والنفعِ والضر من خلال ماذكر الله في كتابه، وبث من خلوقاته، ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.
له الملك كله، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وهو تعالى المتفردُ بتدبير الكون كله كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ وقد دعا سبحانه عباده إلى النظر في الكون ليروا فيه عظمة الخالق عز وجل ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ فانظروا إلى بديع ماصنع وعظيم ما خلق ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ وفصَّل سبحانه في تعداد آياته، وحثَّ على النظر فيها، والاعتبار بها كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ. وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ خلق فأبدع، وصنع فأتقن، فالسماوات خلق مهول رفعها بغير عمد ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ والأرض سطحها ودحاها ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾ ثبتها بالجبال الراسيات وجعلها مهاداً ووطاءً، ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ومن عظيم حكمته، وواسع رحمته، أن جعل آياتِه ظاهرةً بينة، تدل عليه وترشد القلوب إليه، ولذلك عاب سبحانه على أهل الغفلة حين لم ينتفعوا ويعتبروا بآياته، قال عز وجل: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ وعلى العكس من أولئك أهلُ العقول السوية الذين امتدحهم ربهم بتفكرهم في خلق السماوات والأرض وما فيهما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
فتفكروا – رحمكم الله – في بديع خلق الله وعظيم صنعه، فله في كل شيء آية تدل على وحدانيته، وله في كل حركة وسكون شاهد يدل على حكمته، ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكن ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فإن الإيمانَ بربوبية الله تعالى وتفرده سبحانه بالخلق والأمر والتدبير وحده يعود على المؤمن بآثار ومنافع عظيمة، فمن عَظُم إيمانه بأن الأمر لله وحده رضي بقضائه، واستسلم لحكمه، وصبر على أقداره، من عظم إيمانه بأن النفع والضر والعسر واليسر كلَّه بيد الله وحده عظم رجاؤه بالله وزال تعلقه بكل أحد سواه، من حسنت معرفته بعظمة الله وأنه على كل شيء قدير عرف ضعف نفسه وقلة حوله فتواضع لله وخضع، وذلَّ لمولاه وانكسر، وعزَّت نفسه أن تذل لغير الله، أو تستكين لمخلوق عداه، وبذلك ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنَ عمه عبدَالله بنِ عباس في وصيته العظيمة له، وفيها: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك" ، فمتى استقر هذا المعنى في قلب المؤمن زالت عنه المخاوفُ والأوهام واطمأن قلبه وتيقن أن الأمر كلَّه لله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن كما قال عز وجل: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
إن هذا المعنى – أيها الإخوة – هو الذي جعل من امرأة ضعيفة وحيدة في وادٍ خالٍ بين جبال موحِشة، جعل منها امرأة قوية واثقة بالله مطمئنة إلى حفظه ورحمته، تلكم هي أم أسماعيل لما تركها زوجها إبراهيمُ - عليه السلام – في مكة وكانت خالية موحشة، فلما قَفَّى منطلقًا، تبعتْه فقالتْ: يا إبراهيم، إلى من تتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! وهو لا يجيبها ولا يلتفت إليها، حتى قالتْ: آلله أمرَك بهذا؟ قال: نعم، قالتْ: إذًا لا يضيِّعنا.
فما أعظم نعمة العقيدة وما أجلَّ آثارها، حين تكون راسخة في قلب المؤمن فإنه يعيش هادئ البال مطمئن القلب منشرح الصدر راضياً بالله رباً مستسلماً لأمره، مشفقاً من عذابه، راجياً لرحمته وفضله. (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
ثم صلوا عباد الله وسلموا على نبيكم الخاتم، فمن صلى عليه واحدة صلى الله عليه عشرا
المرفقات
1727000926_ربوبية الله عز وجل.pdf