رؤيتي في التربية وعواصف المتغيّرات د. عبد المجيد البيانوني (رؤية رائعة)

رؤيتي في التربية وعواصف المتغيّرات
د. عبد المجيد البيانوني


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وبعد ؛

فاللهُمّ ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد على ما أنعمت، ولك الشكر على ما أوليت، سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك..


رؤية خبرة ومعاناة..

لا بدّ من القول أوّلاً : إنّ هذه الرؤية لم تكن لي من أوّل يوم، وليست وليدة علم ومعرفة، بمقدار ما هي ثمرة خبرة في الحياة متراكمة، ومعاناة يوميّة، ومعايشة لأسرتي قريبة، تجاوز عمرها ثلاثة عقود من عمري.. فمن حقّها على الناظر أن يعترف بجدّيّتها ووزنها، لينتفع بها، وأن يرى أنّها واقع كان.. لا توصيف نظريّ لما ينبغي أن يكون.. وعرضها بهذه الصورة يعين روّاد الخير على أن لا يبدءوا من نقطة الصفر..


من المهمّ دائماً ونحن نتعَامل مع أطفالنا أن تكونَ أعيننا مشدودة إلى الأمامِ.. إلى المستقبل.. فما نريد لهم أن يكونوا عليه من القيم والمعَاني فلنطبعْه في أنفسهم منذ الصغر، وما لم نرْضه له فلنبتعِد عنه.. وقد روي في الأثر : " صغار قوم كبار قوم آخرين ".

وأنا أعلم أنّ الحديث عن النفس ثقيل ممجوج، ولكنّ طبيعة هذه المقالة تفرض ذلك، فليعذرني القارئ الكريم، وليتحمّل من ثقل حديثي لما يرجو من نفع مأمول، وإلاّ فليحتسب أجره على الله.. وها أنا ذا أوجز رؤيتي في التربية في النقاط التالية :


لا بدّ أوّلاً وآخراً من التوكّل على الله تعالى وحده، واستمداد العون والتوفيق منه سبحانه، والتبرّؤ من الحول والقوّة.. ومن يتوكّل على الله فهو حسبه.. إنّ الله بالغ أمره.. ولقد لمست في حياتي بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّني في كلّ موقف أغفل فيه عن هذه الحقيقة المطلقة أوكل إلى نفسي، ويحالفني الإخفاق، وأمنى بالخسارة، وكنت أظنّ أنّ النجاح مؤكّد إلى درجة البداهة.. فلابدّ لنا من عون الله وتوفيقه :

إذا لم يكُن عون من الله للفتَى... فَأوّلُ مَا يقضي عليه اجتهاده

أولادنا إن صحّ التعبير حقل تجاربنا التربويّة : فما ينفع مع طفل ويجدي قد يكون مفعوله عكسيّاً مع طفل آخر، وما يستجيب له طفل من أوّل مرّة، قد لا يستجيب له طفل آخر إلاّ بعد مرّات ومرّات.. وربّما عجّلت الطبيعة النفسيـّة لبعض الأطفال باستعمال آخر الدواء، ولم يحتج إليه طفل آخر على مدى مراحل حياته التربويّة.. وربّما مرّ طفل بمرحلة المراهقة مرور الكرام، وأحدثت في طفل آخر هزّات عنيفة، زلزلت كيانه، وأقلقت من حوله، وتركت آثارها في شخصيّته مدّة طويلة.. فليس الأولاد إذن في مختبر التربية سواء.. ذلك لأنّهم مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، كما جاء في الحَدِيثِ الصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : « النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، خِيَارُهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِى الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا، وَالأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ » .


لا إكراه على ما أريد..

ولكنّني أحاول التدليل على فكرتي بالحوار، والإقناع بها ما استطعت، فإن لم أقدر على الإقناع بما أريد.. فلا خير في الإكراه عليه، ولا جدوى من فرضه.. وليس لي أن أتحمّس له بهذه الصورة.. ونحن نستطيع أنّ نعوّد أطفالنا على فنّ الحوار الراقي، وحسن الاستقبال للآراء ومناقشتها، والإقناع بما نريد منذ نعومة أظفارهم.. فالطفل بفطرته طُلَعة، يحبّ تعليل الأمور وتفسيرها، ومعرفة خفاياها وأسرارها، ولا يحقّ لنا أن ننتقص هذه الفطرة ونهملها، أو نكبتها ونعطّلها..


لا هوادة في الثوابت، ولا مساومة عليها..

إذ إنّ ثوابت الدين والحياة لا يختلف فيها اثنان من العقلاء، وعندما يحاول الناشئ الخروج عليها وتجاوزها فهذا يعني بداية انحراف خطير، لا يقف به الأمر عند حدّ، فخير لنا وله أن نقطع عليه خطّ الانحراف من أوّله، من أن نتساهل معه، ونحن نعلم أنّ العاقبة غير حميدة..


لكلّ سنّ متطلّباته، وميوله ورغباته..

فعلينا أن نتفهّمها جيّداً، ونحسن التعامل معها، بتلبية ما ينبغي تلبيته، وتهذيب ما ينبغي تهذيبه، وتوجيه ما ينبغي توجيهه.. وكثير من الآباء يقيس ميول أطفاله ورغباتهم بميوله ورغباته، ويحاكمهم بمنطقه ونضجه، وينسى يوم كان مثلهم، له اهتماماته الطفوليّة، التي لها في نفسه الأولويّة.. والحقّ أنّ الإنسان لا يستطيع أن ينفكّ كثيراً عن شخصيّته ونظرته للأمور في تعامله مع الآخرين، ولذا فهو يحتاج إلى مراقبة دقيقة لنفسه في تعامله مع أطفاله، وحبّذا لو جعل من شريك حياته عيناً له على مواقفه، ليناقش مواقفه، وينصحه ويسدّده.. وأحمد الله تعالى أن هيّأ لي زوجة عاقلة ناصحة، قامت في حياتي بهذا الدور خير قيام..


القراءة الصحيحة للاتّجاهات والميول، والأفكار والمؤثّرات، وتقدير المشاعر والرغبات..

فكثير منها متطلّبات فطريّة، ترتبط بالمرحلة العمريّة التي يمرّ بها الطفل، وتنقضي بانقضائها، فلا ينبغي أن ينظر إليها بشيء من الريبة والاتّهام، أو التهويل والتضخيم.. فما يثير الطفل ويدفعه غير ما يثير الناشئ ويرغّبه، وما يثير المراهق ويقلقه غير ما يثير الشابّ ويحمّسه، ومشاعر الفتيات واهتماماتهنّ تختلف، قليلاً أو كثيراً عن مشاعر الفتيان.. وكلّ ذلك ممّا يحتاج إلى تقدير واهتمام..


تقدير الواقع، والتحفيز على النهوض..

فالفروق الفرديّة بين الأطفال حقيقة لا مرية فيها، وإمكاناتُ الأطفال متفاوتةٌ، وقد تتفتّحُ مواهب الإنسان في سنّ، ولا تتفتّحُ قبله، ومن حكمة المربّي أن يحسن التعامل مع ذلك، ولا يتجاهله، ويتحلّى بالصبر وطول النفَس، ولا يُكلّف ما لا يُستطاع.. والتحفيز على النهوض يثير الهمم الكامنة، والعزائم الخاملة، ويفجّر في الإنسان طاقات الإبداع والعطاء..


الاحتكام إلى العقل، وإيقاظ الضمير..

فمن أهمّ ما ينبغي على المربّي أن يعتني به في تربيته أن يدفع الطفل والناشئ إلى إعمال عقله في كلّ شأن، وألاّ يتّكل على عقل غيره، فيكون خاملاً كَلاًّ.. فإعمال العقل والاحتكام إليه، وإيقاظ الضمير، ونباهته وقوّة إحساسه، خيرُ ما يعين المربّي على غرس ما يريد غرسَه من القيم والفضائل، وينمّي في نفسه حاسّة نقد الذَات، ومحاسبة النفس، وتقويم الأعمال، وألاّ ينساق مع أهوائه في تبرير مواقفه ورغباته..


شاور.. ولا تستأثر..

من خلال اطّلاعي على حياة كثير من الآباء والأسر فقد رأيت أكثر الآباء لا تعرف الشورى مع أبنائهم إلى حياتهم سبيلاً، فضلاً عن أطفالهم.. ويبقى الطفل في نظرهم طفلاً، ولو أصبح شابّاً ورجلاً.. وقد أخذت -بحمد الله تعالى- بالشورى في علاقتي بأولادي في كلّ ما تسعه الشورى، وتحسن به الشورى.. وقد رأيت من بركاتها ما لا يحصى.. ويكفي أنّها تهيّئ الطفل أو الناشئ إلى أن يسمع الرأي الآخر، كما سُمع رأيه، وأن يتقبّل الاستجابة له، وأن يتربّى على أن يشاور، ولا ينفرد برأيه.. كما أنّ من بركاتها أنّها تكشف اتّجاه الطفل ورغباته وميوله، بعيداً عن التكهّن أو اللبس..


البدائل أمام المربّي كثيرة، والخيارات في الأساليب والوسائل مفتوحة..

ومن أكبر مظاهر الإخفاق والعجز أن يقف المربّي مكتوف الأيدي في معالجة بعض السلبيّات والمواقف، وما ذلك إلاّ لقصوره التربويّ وضعف وعيه وثقافته.. وعلى المربّي أن يبدع في أساليبه ويجدّد، ليشعر الطفل أو الناشئ بالتجدّد في حياته، ولا يحسّ بالسأم والملل..


دعه يجرّب.. دعه يكتشف.. امنحه الثقة والحرّيّة ليبدع..

إنّه مبدأٌ مهمّ للغاية، قلّ من الآباء من يجازف بنظره في الأخذ به.. لأنّه يظنّ أنّ الأمور بذلك تفلت من يده، ويفقده سلطته.. والأمر في الحقيقة على خلاف ذلك تماماً.. فما يتعلّمه الطفل أو الناشئ بمعاناته وتجربته وأخطائه يمنحه خبرة في الحياة لا تقدّر بثمن، وتجعله يقدّر خبرة من هو أكبر منه، فيرجع إليه حبّاً وطوعاً.. ولا يمكنُ إعداد أبنائنا لتحمّل مسؤوليّات الحياة ما لم نمنحهم حرّيّة العمل بملاحظتنا وإشرافنا..


التفاهم مع الشريك حول منهج التربية وأسلوبها، وتوزّع المواقف فيها ضرورة لا بدّ منها.. وإلاّ.. فالإخفاق وسوء النتائج حظّ الجميع..

وأكثر ما نرى من نماذج الإخفاق التربويّ مردّه إلى تناقض الوالدين في أساليبهما، فكان الأولاد هم الضحيّةَ الظاهرة.. عدا عمّا يورّث هذا التناقض من ضعف الاحترام للوالدين كليهما، والتمرّد عليهما..


عاطفة الأبوّة والأمومة سلاح فعّال قلّما ينتبه إليه الآباء والأمّهات..

ومن انتبه إليه قد لا يحسن استعماله.. فأكثر الأمّهات خاصّة يمنحن العواطف لأولادهنّ بغير حساب، ممّا يجنح بهم نحو الشطط وعدم البرّ، كما أنّ كثيراً من الآباء من تضمر عاطفة الأبوّة في علاقته بأولاده، وكأنّها مفقودة من شخصيّته واعتباره، ممّا يورث الجفاء والقطيعة النفسيّة بينهم وبين أولادهم.. مع أنّ العاطفة السويّة المتّزنة للأبوّة والأمومة نعمة من الله، ليتمكّن الوالدان من القيام بمسؤوليّة الرعاية على خير وجه، وهذا ما يتطلب أن تكون بأحسن أحوالها، وتوضع مواضعها سلباً أو إيجاباً..


التربية سلوك تفاعليّ، يقوم على التلقّي والاستجابة، أو ردّة الفعل التي تحتاج إلى الملاحظة و التقويم.. فما نتّخذه من الأساليب اجتهاد قد يجانبه الصواب، وقد يأتي بعكس ما نتوقّع ونريد، فكان لابدّ من ملاحظة ردّة فعل المتلقّي، وقياس مدى تفاعله واستجابته..


الشفافيّة في العلاقة، واتّخاذ الرسائل غير المباشرة..

وخيرها " السلوك القدوة ".. والشفافيّة في العلاقة تفرض شفافيّة الطرف الآخر، فهي لا تثمر إلاّ في مثل هذا المناخ، ومن منّا لا يريد أن يعامل بشفافيّة.؟ والسلوك القدوة يختصر كثيراً من المراحل، ويغني عن كثير من الكلام.. ولكنّه يحتاج إلى الصبر وطول النفس..


ألوّح بالحزم وأتقن رسائله.. ولا ألجأ إليه إلاّ لضرورة..

فلابدّ للنفس من الترغيب والترهيب، والحزم واللين، ووضع كلّ أمر موضعه، ومن أمن العقوبة أساء الأدب، ولابدّ من الإشارة إلى أنّ الحزم النفسيّ المعنويّ أهمّ وأجدى من الحزم الحسّيّ..


التقويم المستمرّ، والمراجعة الدائمة للمنهج والأساليب، وتلك من المرونة التي ينبغي أن يتحلّى بها المربّي..

والتقويم المستمرّ للمنهج والأساليب يكفل للمربّي الإيجابيّةَ والفاعليّة، وأن يطوّر نفسه، ويبدعَ في عمله، ولا يبقى مرتهناً لما اعتاد عليه من أساليب قد تكون فقدت مفعولها، وتجاوزها الزمن..


إذا أردنا النجاح والتميّز، فعلينا أن نرتقي بأنفسنا وأساليبنا، علماً وفكراً، وسلوكاً وعملاً..

فلا يكفي التقويم المستمرّ، وتطوير النفس، بل لابدّ من الرقيّ النفسيّ والسلوكيّ، وأن يكون المُربّي قادراً على العطاء المتجدّد، ولا يقف عطاؤه عند مرحلة لا يتجاوزها..

المرونة في التعامل مع المتغيّرات، والتكيّف معها بما لا يخلّ بالثوابت، ويتجاوز الحدود.. والناس بين الثوابت والمتغيّرات على مواقف شتّى ؛ من الإفراط أو التفريط، والجمود أو التسيّب، والاعتدال أو الجموح، وقلّ من أوتي فقهاً أصيلاً، ووقف موقفاً عدلاً متّزناً، بعيداً عن الأهواء الجامحة، والأوهام الخادعة..

وأخيراً : لا بدّ من فهم عواصف المتغيّرات التي نعيشها، والتي لم تكد تهدأ منها عاتية حتّى تأتيَ أخواتها، ونُبتلى بما هو أشدّ منها.. ولكلّ عاتية صرعى وقتلى، وانتهاك لثغور وحرمات، ودوّامة من المآسي والأزمات.. والله المستعان، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.


المصدر: لجينيات
المشاهدات 1295 | التعليقات 0