رؤية الله تعالى (1)
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1439/05/27 - 2018/02/13 13:24PM
رؤية الله تعالى (1)
30 / 5 /1439هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النِّسَاءِ: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الْأَحْزَابِ: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: إِذَا عَظُمَتْ سِيرَةُ شَخْصٍ، وَحَسُنَتْ صِفَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ، وَكَثُرَتْ مُنْجَزَاتُهُ؛ تَدَاوَلَ النَّاسُ سِيرَتَهُ، وَتَمَنَّوْا رُؤْيَتَهُ، وَاسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ. وَفِي التَّارِيخِ الْبَشَرِيِّ عُظَمَاءُ مِنْ قَادَةٍ وَعُلَمَاءَ وَأُدَبَاءَ وَشُعَرَاءَ وَأَسْخِيَاءَ وَشُجْعَانٍ، يَتَدَاوَلُ النَّاسُ قِصَصَهُمْ، وَيَتْلُونَ سِيَرَهُمْ، وَيَسْتَمْتِعُونَ بِأَخْبَارِهِمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ بَعْضَ مَا لَهُمْ. وَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهُمْ وَجَالَسُوهُمْ وَاسْتَمَعُوا لَهُمْ. هَذِهِ الْأُمْنِيَاتُ مِنْ بَشَرٍ فِي بَشَرٍ مِثْلِهِمْ، فَمَا الظَّنُّ بِرُؤْيَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؟ ثُمَّ مَا الظَّنُّ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؟!
هُنَا.. وَهُنَا فَقَطْ تَرْخُصُ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَكَمْ تَعَلَّقَتْ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ بِرُؤْيَةِ رَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. إِنَّهاَ لَيْسَتْ كَأَيِّ رُؤْيَةٍ مَهْمَا كَانَتْ.
إِنَّهَا -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ- رُؤْيَةُ مَنْ خَلَقَكَ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا، وَرُؤْيَةُ مَنْ هَدَاكَ لِمَا يُصْلِحُكَ وَلَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ لَضِعْتَ، وَرُؤْيَةُ مَنْ عَلَّمَكَ وَلَوْلَاهُ لَضَلَلْتَ، وَرُؤْيَةُ مَنْ عَلَّمَكَ أَنَّهُ رَبُّكَ وَخَالِقُكَ، وَأَرْسَلَ لَكَ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ كُتُبَهُ، وَفَصَّلَ لَكَ بِدَايَةَ الْخَلْقِ وَنِهَايَتَهُ، وَعَاقِبَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَصِيرَ الْمُكَذِّبِينَ.
إِنَّهَا رُؤْيَةُ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ فِي نَفْسِكَ وَوَالِدِيْكَ وَأَهْلِكَ وَوَلَدِكَ وَمَالِكَ، وَرُؤْيَةُ مَنْ دَفَعَ عَنْكَ الضُّرَّ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي، وَرُؤْيَةُ مَنْ لَهُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ نِعَمٌ مُتَجَدِّدَةٌ عَلَيْكَ، وَأَلْطَافٌ تُحِيطُ بِكَ. وَرُؤْيَةُ مَنْ تَحْتَاجُهُ فِي حَيَاتِكَ وَبَعْدَ مَمَاتِكَ، وَمَنْ أَنْتَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ فِي كُلِّ أُمُورِكَ، وَرُؤْيَةُ مَنْ كَانَ حَلِيمًا عَلَى جَهْلِكَ، وَصَبُورًا عَلَى أَذَاكَ، وَقَدْ أَمْهَلَكَ فِي مَعْصِيَتِكَ، وَفَتَحَ لَكَ أَبْوَابَ التَّوْبَةِ، وَدَلَّكَ عَلَى طُرُقِ الطَّاعَةِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُهْلِكَكَ وَيُعَذِّبَكَ، وَيُبَدِّلَ بِكَ غَيْرَكَ ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ [النِّسَاءِ: 133]، وَهُوَ ذُو الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ وَالْجَمَالِ، وَهُوَ الْجَمِيلُ الَّذِي خَلَقَ الْجَمَالَ، فَكُلُّ جَمَالٍ فِي خَلْقِهِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَمَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَالَ أَعْلَمُ خَلْقِهِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَمَنْ لَا يَشْتَاقُ إِلَى رُؤْيَتِهِ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ؟!
كَمْ تَعَفَّرَتِ الْجِبَاهُ عَلَى الْأَرْضِ لِنَيْلِ رُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَكَمْ سَخَتِ الْأَيْدِي بِالْبَذْلِ لِأَجْلِهَا، وَكَمْ لَهِجَتِ الْأَلْسُنُ دَاعِيَةً بِهَا، وَكَمْ خَشَعَتِ الْقُلُوبُ وَسَحَّتِ الْعُيُونُ عِنْدَ ذِكْرِهَا؟! يَسْهُو الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ، وَيَغْفُلُ الدَّاعِي فِي دُعَائِهِ، فَإِذَا ذُكِرَتْ رُؤْيَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي الدُّعَاءِ رَجَعَ الْخُشُوعُ، وَاهْتَزَّتِ الْقُلُوبُ، وَتَنَبَّهَتِ النُّفُوسُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ أَمْرٍ، وَأَعْظَمُ أُمْنِيَةٍ، وَأَعْظَمُ جَزَاءٍ، وَأَعْظَمُ فَوْزٍ.
هَذِهِ الرُّؤْيَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَعْرِيضًا وَتَصْرِيحًا، وَتَرْغِيبًا وَتَشْوِيقًا، وَتَوَاتَرَتْ بِهَا الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْأَئِمَّةُ. وَآيَاتُ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَدِلَّةِ رُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّ مِنْ لَوَازِمِ اللِّقَاءِ الرُّؤْيَةَ وَالْمُعَايَنَةَ ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الْكَهْفِ: 110]، ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: 5]، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾ [الْأَحْزَابِ: 44]، قَالَ الْإِمَامُ اللُّغَوِيُّ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ اللِّقَاءَ هَاهُنَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُعَايَنَةً وَنَظَرًا بِالْأَبْصَارِ». وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «وَأَجْمَعَ أَهْلُ اللِّسَانِ عَلَى أَنَّ اللِّقَاءَ مَتَّى نُسِبَ إِلَى الْحَيِّ السَّلِيمِ مِنَ الْعَمَى وَالْمَانِعِ؛ اقْتَضَى الْمُعَايَنَةَ وَالرُّؤْيَةَ».
وَفِي حَدِيثِ قِصَّةِ شُهَدَاءِ بِئْرِ مَعُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ «فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ، فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكُنَّا نَقْرَأُ: أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَذُكِرَتْ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ صَرَاحَةً فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى مُشَوِّقًا لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [الْقِيَامَةِ: 22- 23]، هَذِهِ الْوُجُوهُ الْمَوْصُوفَةُ بِالنُّضْرَةِ، وَهِيَ الْحُسْنُ وَالسُّرُورُ وَالنُّعُومَةُ قَدِ اسْتَنَارَتْ وَأَشْرَقَتْ بِمَا هِيَ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ تَنْظُرُ إِلَى رَبِّهَا سُبْحَانَهُ، فَيَكْتَمِلُ نَعِيمُهَا بِنَظَرِهَا إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «تَنْظُرُ إِلَى رَبِّهَا عَيَانًا بِلَا حِجَابٍ». وَقَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَنْضُرَ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ».
وَفِي آيَةٍ أُخْرَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يُونُسَ: 26]؛ فَالْحُسْنَى هِيَ الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالزِّيَادَةُ هِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَالْأُنْسُ بِقُرْبِهِ، وَسَمَاعُ كَلَامِهِ، وَالْفَوْزُ بِرِضَاهُ. وَفِي حَدِيثِ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ» وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 34- 35]، قَالَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «هُوَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ».
وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْكُفَّارِ ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [الْمُطَفِّفِينَ: 15]، قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «كَمَا حَجَبَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنْ تَوْحِيدِهِ حَجَبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَنْ رُؤْيَتِهِ». وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «لَمَّا حَجَبَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ تَجَلَّى لِأَوْلِيَائِهِ حَتَّى رَأَوْهُ». وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «فَلَمَّا حَجَبَهُمْ فِي السَّخَطِ، كَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي الرِّضَا».
وَمِنْ شَوْقِنَا لِرُؤْيَةِ رَبِّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّنَا نَدْعُو بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَارِدِ فِي سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنَا مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لَنَا، وَتَوَفَّنَا إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لَنَا، اللَّهُمَّ وَنَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَنَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَنَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَنَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَنَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَنَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَنَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَنَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ».
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 223].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: ادَّخَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَعِيمَ رُؤْيَةِ عِبَادِهِ لَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَمَنَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْهَا؛ لِضَعْفِهِمْ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى تَحَمُّلِ رُؤْيَتِهِ؛ وَلِذَا فَإِنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى عَيَانًا فَكَلَّمَهُ سُبْحَانَهُ مُبَاشَرَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ غُلَاةُ الصُّوفِيَّةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرَى عَيَانًا فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ طَلَبَ كَلِيمُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رُؤْيَتَهُ فَلَمْ يَرَهُ ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: 143].
وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ فِي مَعْرِضِ رَدِّهِ عَلَى مُنْكِرِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ كَلَامٌ عَظِيمٌ مَتِينٌ يَشْرَحُ فِيهِ لِمَ لَا يَسْتَطِيعُ أَهْلُ الدُّنْيَا رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَيَانًا، فَيَقُولُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «وَالْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ أَكْمَلُ الْمَوْجُودَاتِ وُجُودًا، وَأَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْعَدَمِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يُرَى، وَإِنَّمَا لَمْ نَرَهُ لِعَجْزِ أَبْصَارِنَا عَنْ رُؤْيَتِهِ، لَا لِأَجْلِ امْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ، كَمَا أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ أَحَقُّ بِأَنْ يُرَى مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَلِهَذَا مَثَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَةَ اللَّهِ بِهِ فَقَالَ: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» شَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرْئِيُّ مِثْلَ الْمَرْئِيِّ، وَمَعَ هَذَا فَإِذَا حَدَّقَ الْبَصَرُ فِي الشُّعَاعِ ضَعُفَ عَنْ رُؤْيَتِهِ، لَا لِامْتِنَاعٍ فِي ذَاتِ الْمَرْئِيِّ بَلْ لِعَجْزِ الرَّائِي، فَإِذَا كَانَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآدَمِيِّينَ وَقَوَّاهُمْ حَتَّى أَطَاقُوا رُؤْيَتَهُ، وَلِهَذَا لَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجَبَلِ خَرَّ مُوسَى صَعِقًا ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾. قِيلَ: أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ لَا يَرَاكَ حَيٌّ إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ، فَهَذَا لِلْعَجْزِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَخْلُوقِ، لَا لِامْتِنَاعٍ فِي ذَاتِ الْمَرْئِيِّ» انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَمَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَيَتَنَعَّمُونَ بِرُؤْيَتِهِ، بَلْ يَنْسَوْنَ كُلَّ نَعِيمٍ بِرُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ؛ كَمَا قَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَتَجَلَّى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا رَآهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ نَسُوا نَعِيمَ الْجَنَّةِ».
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُبَلِّغَنَا وَوَالِدِينَا وَأَهْلَنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَحْبَابَنَا ذَلِكُمُ الْمَوْقِفَ الْكَرِيمَ الْعَظِيمَ، وَالنَّعِيمَ الْكَبِيرَ الْمُقِيمَ، إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
الله-تعالى-1-2
الله-تعالى-1-2
الله-تعالى-1-مشكولة-2
الله-تعالى-1-مشكولة-2
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق