ذنوب الخلوات

علي القرني
1437/01/15 - 2015/10/28 19:40PM
الخطبة الأولى: ذنوب الخلوات
الحمد لله السميع العليم، يعلم السر وأخفى وهو بكل شيء عليم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والصلاة والسلام على سيد الأتقياء، وإمام الصالحين الأولياء، خير الرسل والأنبياء
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}1.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}2.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}3، أما بعد: فلا يزال الإنسان في هذه الحياة الدنيا بين الخطأ والصواب، والحسنة والسيئة - إلا من عصم الله - حتى يلقى ربه، فيجد ما عمل حاضراً {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}4. تعرض الأعمال على الله فلا تخفى منها خافية، هناك وفي تلك الساعة يتذكر الإنسان ما قدمت يداه، وينظر ما عملت يمينه ويسراه، ، وتبلى السرائر، ويفاجئ كل عامل بما أسرَّ وأعلن، يذكِّره الله - تعالى - بكل صغيرة وكبيرة {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ}5، حينئذٍ تظهر الحقائق، فيبرز للناس رجال على هيئة أهل الدين والصلاح، لم يكن يرى منهم إلا كل خير، ولهم أعمال كجبال تهامة؛ لكنها تذهب كلها يوم القيامة هباء منثوراً؛ بعد التعب والنصب، والجد في العبادة والاجتهاد في الدنيا، فما سبب ذلك وعلته؟
يبينها المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه - إذ يقول في الحديث الذي رواه ابن ماجه - رحمه الله - عن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:((لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً؛ فيجعلها الله - عز وجل - هباءً منثوراً))، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم!! قال: ((أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها))6.وما أهم أن نتأمل هذا الحديث العظيم الذي يكاد قلب السامع له أن ينفطر خوفاً أن يكون ممن اتصف بشيء مما فيه، حين يأتي يوم القيامة وهو فرح بما قدم من الصالحات، مطمئن بما عنده من القربات، واثق بما بذل من جهود وأعطى من هبات!!
وإذا كان صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبان - رضي الله عنه - يخاف أن يكون منهم، ويحذر أن يكون من جملتهم؛ فماذا سنقول نحن والتقصير قد ملأ حياتنا، ومنسوب الإيمان قد قلَّ في قلوبنا - إلا من رحم الله -؟ يقول ثوبان - رضي الله عنه - : صفهم لنا، جلهم لنا، فيجيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بما لم يكن في الحسبان، ويخبر - بأبي هو وأمي - أنهم من المسلمين، ولهم من الأعمال الجبارة ما لهم؛ من قيام الليل، وصدقة، وصيام؛ لكنهم جعلوا الله - عز وجل - أهون الناظرين إليهم عندما راقبوا الناس، فعملوا في الظاهر ما يخالف الباطن، ونسوا أو تناسوا أن الله بكل شيء عليم، وأنه {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}7.
وما أهم أن يتذكر كل واحد منا ذلك، وأن يربي نفسه على الخوف من الله في السر والعلن {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}8،
وقال - تعالى -: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}10. إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ســـاعة ولا أن مـا تخفيه عنه يغيب
وإن مكر الله - تعالى - لا يأمنه إلا الخاسرون الذين يمكثون على معصية الله، وارتكاب محارمه؛ حتى يفجأهم بأمره الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} ولو تأملنا في أغلب من كان هذا حاله، وسألنا عن سببه تغيره؛ لوجدنا ذنوب الخلوات هي من كانت تنخر في دينه، حتى هزل عمله وضعف - وإن كان الناس يرونه حسناً -؛ ويلقاه يوم القيامة هباء منثوراً - نعوذ بالله من هذه الحال، ومن أحوال أهل النار -، وقد أجمع العارفون بالله بأن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وأن عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات يقول ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -:"وإن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة
لا يطلع عليها الناس؛ إما من جهة عمل سيء ونحو ذلك؛ فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت"12، وفي هذا الباب يمكن أن يدخل حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - إذ يقول: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق:((أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً أو أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب رزقه وأجله، وعمله وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل
النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها))13. ويفسر ذلك حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - الذي يقول فيه الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة))14، وأما لا يبدو للناس فلا يعمله إلا الله الذي يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء
يـا من يرى مد البعوض جناحهـا في ظلمة الليـل البهيـم الأليـل

ويرى منــاط عروقها في نحرهـا والمخ من تلـك العظـام النحـل
ويرى خرير الدم فـي أوداجـهـا متنقلاً من مفصـل فـي مفصل

ويرى وصــول غذا الجنين ببطنها في ظلمة الأحشـا بغيـر تمقــل

ويرى مكان الـوطء من أقدامهـا في سيــرها وحثيثهـا المستعجل
ويرى ويسمع حس مــا هو دونها فـي قـاع بحـر مظلـم متهـول
أمنن علــــيَّ بتوبة تمحو بهـا مـا كان مني فـي الزمـان الأول
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.






الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين؛ أما بعد: إن مراقبة الله في السر والعلن مما يكسب القلب نوراً وضياءً، وما تُرفَعُ به الدرجات في الدنيا والآخرة .الصحابي الجليل سعد بن معاذ استشهد وهو في ريعان الشباب حيث نزل من السماء سبعون ألف ملك يشيعونه فأي سريرة أخفاها سعد جعلت سبعين ألف ملك ينزلون يشيعون جنازتهإن من الفقه إن لسعد أعمال وسرائر جعلت ذكره يشيع حتى في السموات فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى لايغلبه أحد في الخير لا تنافسه الملائكة في إنهم يكرمون سعد أكثر منه فنزل صلى الله عليه وسلم ودفنه وقال إن عرش الرحمن اهتز لصعود روح سعد وهذا يدل أن الملأ الاعلى يحتفون بأرواح الصالحين وربما رجل في الدنيا لا يعرفه أحد ولم يظهر على الشاشات ولم يعتلي المناصب ويجهله جيرانه وربما يموت ولايدري أحد أنه مات ولا يحمل جنازته إلا قليل وترى الناس لايذكرونه وبعد أيام ينسونه وربما يكون عنده من الأعمال عند الله ما يحتفي به أهل السماء ويرفع مقامه ويمد له في قبره مد البصر ويرى من رحمة الله ما لايراه غيره فالأمور كلها سرائر مودعة في القلوب وأعمال صالحة يتقرب بها إلى علام الغيوب فالله الله في التوبة والعودة إلى الله مما كان في الخلوات، وما أخفيناه عن الناس مما لا يخفى على السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.ولنملأ الخلوات - التي كانت لا تخلو من الهفوات - بالطاعات، والقرب من رب الأرض والسموات ،اللهم اغفر لنا أجمعين، ، وارحمنا يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وصل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين .....





المشاهدات 2348 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا