ذكرهم بأيام الله
أحمد عبدالعزيز الشاوي
الحمد لله الذي نزل الكتاب وهو يتولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال في كتابه وثم ننجي رسلنا والذين آمنوا و وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله فتقوى الله خير وأبقى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى .
وبعدما تصدأ القلوب وتتراكم الذنوب وتعرض النفوس عن ذكر الله حينها يأتي يوم من أيام الله ليمنحنا منحة ربانية ورحمة من الرحيم الرحمن
في غمرة الشعور باليأس والقنوط ومع تتابع النكبات على المسلمين ومع خفوت صوت الحق وارتفاع رايات الباطل يأتي يوم من أيام الله ليقول لليائسين ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ..
أيام ويشرق يوم من ايام الله .. إنه اليوم العاشر من محرم ..هو يوم من أيام الإيمان ومناسبة تستحق الشكر والعرفان بما شرع الله لا بما يهوى البشر
يوم من ايام الله يذكر الأمة أنه لا تقف أمام قوة الله أية قوة ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون.
نتفيأ هذه الأيام ظلال يوم مبارك نتذكر فيه كيف نجت القلة المؤمنة وهلكت الكثرة الفاجرة لأن القليل الذي معه الله كثير والكثير بغير الله ضعيف مهان جقير ولو كان معه الملايين
يقبل شهر الله المحرم فيدعو المسلمين للصيام حيث يقول صلى الله عليه وسلم : «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم». ويأتي في المحرم يوم عاشوراء يذكرنا بانتصار نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، ولقد حبا الله هذا اليوم فضلا فضاعف فيه أجر الصيام، ثم كان للناس فيه طرائق فأدخلوا فيه وأحدثوا وزادوا إما رغبة في الخير أو مجاراة للناس وإما اتباعا للهوى وزهدا في السنة.
جاء في فضل عاشوراء أنه يوم نجي الله فيه نبيه موسى عليه الصلاة والسلام والمؤمنين معه وأغرق فيه فرعون وحزبه فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا: هذا يوم عظيم أنجي الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم» فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه وجاء في فضل صيامه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام عاشوراء فقال: «يكفر السنة الماضية» وفي حديث آخر: «من صام عاشوراء غفر الله له سنة» .
قال البيهقي: وهذا فيمن صادف صومه وله سيئات يحتاج إلى ما يكفرها فإن صادف صومه وقد كفرت سيئاته بغيره انقلبت زيادة في درجاته .
ويصور ابن عباس حرص النبي و على صيامه فيقول: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء وهذا الشهر يعني شهر رمضان، ولما عرف من فضله فقد كان للسلف حرص كبير على إدراكه حتى كان بعضهم يصومه في السفر خشية فواته .
يوم عاشوراء يذكرنا بالتميز في سلوكنا ومظاهرنا وفي عباداتنا وأن تكون لنا نحن المسلمين شخصيتنا المتفردة والمبنية على الشعور بالعزة الإيمانية وأن مخالفة الكفار من أبرز مظاهر تحقيق البراء من الكافرين والذي لا يتم الإيمان إلا به وقد شدد الشارع الحكيم على المتشبهين بهم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من تشبه بقوم فهو منهم».
حينما علم صلى الله عليه وسلم أن اليهود تصوم عاشوراء خالفهم فأمر بصوم التاسع معه. وقال: «خالفوا اليهود وصوموا التاسع مع العاشر». فمن صام العاشر وحده فنعما هو وإن تصوموا معه التاسع فهو خير لكم وأقرب لسنة نبيكم
والإسلام منهج وسط في الاتباع فحاديه دائما الحق المجرد ففعل المشركين لحق لا يسوغ ترك هذا الحق بدعوى مخالفتهم كما أن فعلهم لباطل لا يسوغ متابعتهم فيه بدعوى موافقتهم لتأليف قلوبهم ومقياس قبول الأحوال هو توافقها مع الشرع وميزان المخالفة ما كان من خصائص ملتهم وشعائر دينهم. فهنيئا لمن صام التاسع مع العاشر ليحظى بشرف الاتباع ويتميز بالبعد عن مشابهة يهود.. فسارعوا إلى منحة ربكم ولاتغتروا بشبهات البطالين ضعفاء الهمم الذين ينأون عن الطاعة وينهون عنها ويوردون الشبهات لتوهين العزائم وتبرير الهزائم
يأتي يوم عاشوراء ليؤكد أن نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم وأتباعه أولى بنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام من المغضوب عليهم فقال : نحن أحق وأولى بموسى منكم» وهكذا تتوحد المشاعر وترتبط القلوب مع طول العهد الزماني والتباعد المكاني فيكون المؤمنون حزبا واحدا هو حزب الله عز وجل، فهم أمة واحدة من وراء الأجيال والقرون ومن وراء المكان والأوطان
هكذا يجب أن تكون مشاعر المسلمين مع إخوانهم آلاما وآمالا أفراحا وأحزانا وبذلك تتحقق الأخوة وتظهر العزة.
يأتي عاشوراء ليبين حقيقة الشكر لله وأنه يكون بالعبادة والعمل الصالح (اعملوا آل داود شكرا ) وأن أساس الشكر قائم على الخضوع للمنعم، وحبه، والاعتراف بنعمته والثناء عليه بها، وألا تصرف النعمة فيما يكرهه المنعم
يأتي صيام عاشوراء ليذكرنا بسنة الفرح بهلاك الظالمين والمفسدين والمناوئين لدين الله ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ) ، وفي الحديث ( والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب )
يأتي عاشوراء ليذكرنا وسيلة من وسائل التربية الجادة فهذه الربيع بنت معوذ تذكر أنهم كانوا يصومون صبيانهم يوم عاشوراء فإذا ماجاعوا صنعوا لهم لعبة من العهن يتسلون بها حتى يتموا صومهم .. وهكذا بلغ بالصحابة الحرص على تعويد صغارهم الصيام أن احتالوا عليهم في تمرينهم عليه حتى يتموه ، وذلك لكون تعويد الصغير على فعل الخير مكمن قوة في استقامته عليه في الكبر لأنه يصير هيئة راسخة في نفسه تعسر زعزعتها، واليوم لدينا من وسائل التلهية المباحة بقدر ما لدينا من أصناف الطعام وأشكاله وإذا اقتنع المربي بواجبه لم تعيه الحيلة. ولن يعدم الوسيلة وأستغفر الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية
أما بعد: يوم عاشوراء يذكرنا ما جرى لنبي الله موسى عليه السلام من مواقف وأحداث في طريق دعوته، وما واجه من تحديات وعقبات انتهت بانتصار المؤمنين وهزيمة الطغاة والمفسدين بعدما بلغ الكرب بالمؤمنين نهايته فالبحر أمامهم والعدو خلفهم فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون.
إنها ملحمة من ملاحم الدعوة تؤكد أن نور الله غالب مهما حاول المجرمون طمس معالمه وأن الصراع مهما امتد أجله والفتن مهما استحكمت حلقاتها فإن العاقبة للمتقين لكن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة واستعانة بالله صادقة (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ).
في عاشوراء انتهى إمهال الله للمجرمين وعندما ينتهي الإمهال تحين ولو بين جيوشهم الآجال
عاشوراء يعلمنا أن الفرج يأتي في أوج الشدة وعظم البلاء وحينما تبلغ القلوب الحناجر فهنا يتنزل النصر ويأتي الفرج فلاتيأسوا فمع ظلام الظلم ترقبوا فجر الفرج
علمنا عاشوراء معنى التوكل الحقيقي على الله فهو يعني فعل الأسباب مع تفويض الأمر للخالق المدبر وحسن الظن به ، فالله قادر على أن يجعل البحر يبسا بقول ( كن ) لكنه أمر موسى فقال ( اضرب بصاك البحر ) والله قادر على أن يهلك فرعون وهو في قصره لكنه سبحانه أراد أن يجعل نهايته وهو في لحظة شعوره بالقدرة والغلبة والانتصار فكان موسى وقومه بين يديه وعلى مد بصره فكان الدرس العظيم لكل مظلوم بأن الله يمهل ولايهمل وهو سميع الدعاء وأنه كتب وحكم بأنه ليس بغافل عما يعمل الظالمون وأنه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته وكان حقا علينا نصر المؤمنين
علمنا عاشوراء الفرق بين الاستسلام للضعف وسوء الظن بالله والخوف والهلع ..بين الضعفاء الذين ينبهرون بقوة الأعداء ويخافون من البشر ويقولون ( إنا لمدركون ) وإن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، ونخشى أن تصيبنا دائرة .. وبين الاستبشار رغم الظروف وحسن الظن بالله ودفع الهلع ونشر الإيجابية والتفاؤل .. يجسدها أصحاب القلوب العامرة باليقين والثقة برب العالمين والمتوكلة على القوة التي لاتقهر قائلين ( كلا إن معي ربي سيهدين ) ومرددين ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) فهؤلاء هم من سينقلبون بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله .. فانشروا الطمأنينة في الناس وظنوا بربكم خيرا وأبشروا وأملوا مايسركم
أيها المسلمون: إن يوم عاشوراء مناسبة للذكر والشكر وسبب من أسباب التأمل في قصص القرآن وزيادة الإيمان وأنى هذا مما يفعله مجوس هذه الأمة من ممارسات سخيفة ومآتم جنونية تستخف فيها العقول وتهدر فيها كرامة المسلم، وتشوه فيها سمعة الإسلام. ويجتمع فيها البكاء والعويل وتسيل فيها الدماء ويختاط فيها الرجال والنساء وكانت سببا في الفحشاء .
إننا نشهد الله على حب الحسين وسائر آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ونشهد الله على حبهم وموالاتهم بل ونصلي عليهم في صلواتنا كيف لا وقد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. ولاننازع في فضلهم ومناقبهم ونتبرأ ممن آذاهم وسبهم وقتلهم وما وقع من قتله فأمر منكر شنيع محزن لكل مسلم وقد انتقم الله عز وجل ممن قتله فأهانهم في الدنيا وجعلهم عبرة . لكن الذي ينبغي عند ذكر مصيبة الحسين وأمثالها هو الصبر والرضا بقضاء الله وقدره وأنه تعالى يختار لعبده ما هو خير ثم احتساب أجرها عند الله تعالى.
أما لو نطق عاشوراء لقال: إن العاقبة للمتقين، وإنه لا يفلح الظالمون .
اللهم كما أنجيت موسى وقومه فأنج المسلمين المستضعفين في كل مكان من فراعنة هذا الزمان يارحيم يارحمن