دِينٌ ودُنْيَا
يوسف العوض
الْحَمْدُ لله رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ طِينٍ لَاَزِبٍ نَحْمَدُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَمْدَ الطَّامِعِ فِي الْمَزِيدِ وَالطَّالِبِ وَنَعَوذُ بِهِ مِنْ شَرِّ الْعوَاقبِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَه إلّا اللَّه الْقَوِيُّ الْغَالِبُ وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّه وَرَسُولُ الْمَلِكِ الْوَاهِبِ يا رَبُّ صَلِّ عَلَى الْحَبيبِ الْمُصْطَفَى أَهِلِ الْفَضَائِلِ وَالْمَوَاهِبِ وَعَلَى الصَّحْبِ والآل وَمِنْ تَبِعَهُم عَدَدَ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ عجَائبَ وَغرَائب ...
( يا أَيّهَا النَّاس اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)..
عِبَادُ اللَّهِ: لِقَدْ أَخَبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالْجِدِّ وَالْاِجْتِهَادِ، وَعَدَمِ الْكَسَلِ، فَقَالَ: ( اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاِسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ ) .
وَلِهَذَا كُنْ قَوِيّاً وابْحَثْ عَنْ عَمَلٍ تَجَدُّ فِيهِ مَنْفَعَةً لَكَ فِي أَمَرِ دِينِكَ أوَ دُنْيَاَكَ، فِي طَلَب الْعِلْمِ، وَالحِفْظِ والْقِرَاءةِ وَفِي الْمُذَاكَرَةِ وَالجِدِ والدَّرَّاسَةِ ، وَإِيَّاكَ أَنْ تستهينَ بِنَفْسِكَ، مَا دُمْتَ مُسْتَعِينَا بِاللَّهِ، وَبَاذِلَا لِلْأَسْبَابِ،لِأَنَّ الَّذِينَ نَجَحُوا فِي حَيَاتِهِمْ وَتَمَيَّزُوا عَنْ غَيْرهِمْ بَشَرٌ مِثْلُكَ ؛ والَّذِي حَفِظَ الْقُرْآنَ بَشَرٌ مِثْلُكَ وَالَّذِي نَالَ الشَّهَادَةَ الْعُلْيَا فِي الدِّرَاسَةِ بَشَرٌ مِثْلُكَ، وَكُلُّ شَخْصٍ مُتَفَوِّقٍ وَنَاجِحٍ فِي حَيَاتِهِ، إِنَّمَا هُوَ بَشَرٌ مِثْلُكَ، لَا فَرْقَ بَيْنكَ وَبَيْنهُ إلا فِي الطُّمُوحِ، وَالْحِرْصِ وَالْهِمِّةِ الْعَالِيَةِ، وَعَدِمِ الْيَأْسِ ، وَلِذَلِكَ أَجَمَعَ عُقَلَاَءُ بَنِيِ آدَمَ عَلَى أَنّ :" مِنْ أَتْعَبَ نَفْسهُ فِي الْبِدَايَةِ, ذَاقَ طَعْمَ الرَّاحَةِ فِي النِّهَايَةِ " أَيٌّ: أَنَّ الرَّاحَةَ لَا تَأَتِي إلا بَعْدَ التَّعَبِ وَالْجِدِّ والْاِجْتِهَادِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي أُمُورِ الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا .
فلَوْ نَظَرْنَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مثَلاً : إِلَى الطَّالِبِ الْمُتَفَوِّقِ النَّاجِحِ, وَالطَّالِبِ الْفاشِلِ أَوْ الضَّعِيفِ، ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَى سيرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا, لِرَأَيْتَ الْأَوَّلَ مُجْتَهِدًا فِي دَرَاسَتِهِ بِخِلَاَفِ الطَّالِبِ الضَّعِيفِ الَّذِي لَا يَهْتَمُ ، ثُمَّ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى حَالِ هَذَيْنِ الطَّالِبِينَ بَعْدَ عِدَّةِ سنوَاتٍ لِرَأَيْتَ الْفَرْقَ الشَّاسِعَ بَيْنهُمَا, وَقَدْ تَرى الْأَوَّلَ قَدْ تَخَرَّجَ وَنَالَ مَا يُرِيدُ، وَالثَّانِي قَدْ تَأَخَّرَ فِي دِرَاسَتِهِ، وَرُبَّما يَئِسَ مِنهَا وَتَرَكَهَا، وَبِقِيَ عَاطِلَا فِي بِيتِ أهْلِهِ, أَوْ يَسْرَحُ مَعَ الْعَاطِلِينَ فِي الشَّوَارعِ بِلَا فَائِدَةٍ أَوْ طُمُوحٍ !! وَإِيَّاكَ يَا عَبْدَ اللهِ أَنْ تَلْتَفِتَ إِلَى مَا يُقَالُ: مِنْ أَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ مُظْلِمٌ وَغَيْرُ مَضْمُونٍ, وَأَنّكَ تُتْعِبَ نَفْسَكَ بِلَا فَائِدَةٍ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَاَمِ قَدْ ضَرَّ بَشَرَا كَثِيرًا, وَلَمْ يَجْلِبْ لِلشَّبَابِ إلا الْيَأْسَ، وَتَضْيِيعَ الْمَصَالِحِ، بَلْ يَجِبْ عَليَّكَ أَنَّ تَعَلمَ عِلْمَ الْيَقِينِ بِأَنَّ مُسْتَقْبَلكَ بِيد اللَّه، وَلَيْسَ بَيْدِ الْبَشَرِ, وَأَنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِ الْعِبَادِ وَأَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكَونَ مُظْلِمَا أَمَامَ مَنِ اِتَّقَى اللَّهَ، وَتَوَكَّلَ عَلَيهِ، وَبَذَلَ الْأَسْبَابَ الْمُبَاحَةَ فِي ذَلِكَ, قَال تَعَالَى:( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّه يَجْعَلُ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) وَقَال تُعَالَى:( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّه يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه فَهُوَ حَسْبهُ) -أَيٌّ: كَافِّيُّهُ- فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ مِثْلَ هَذِهِ النُّصُوصِ وَيَعْمَلُ بمقتضاها يَسْتَحِيلُ أَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ, حَتَّى وَلَوْ وَقَفَ أهْلُ الْأَرْضِ كُلُهُمْ فِي طَرِيقِهِ.
عِبَادَ اللهِ: وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا أيضاً: صِحَّةُ الْإِنْسَانِ وَعَافِيَتُهُ فَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهِدٌ وَمُجَرَّبٌ, فَفَرْقٌ بَيْنَ مِنْ يُسْرِفُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَبَيْنَ مِنْ يَقْتَصِدُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ الْأَوَّلَ غَالِبًا يَتَضَرَّرُ بِسَبَبِ هَذَا الْإِسْرَافِ، بكَثْرَةِ الْأَمْرَاضِ الْمُسْتَعْصِيَةِ الَّتِي يَصْعُبَ عِلَاَجُهَا ! وَهَكَذَا مِنْ يَشْرَبُ الدُّخَّانَ، أَوْ يَتعاطَى الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُخَدِّرَاتِ, فَإِنَّ الضَّرَرَ لَا بِدْ وَأَنْ يَلْحَقَ بَدَنَهُ، وَالْغَالِبَ أَنّهُ يُتْلِفُهُ، وَيَقْضِيَ عَلِيِهِ, بِخِلَاَفِ مِنْ يَصُونُ جَوْفَهُ عَنهَا، فَإِنّهُ يَسْلَمُ مِنْ شَرٍّ كَثِيرٍ، وَيَتَمَتَّعُ بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ الَّتِي تُعْتَبَرُ مِنْ حَسَنَةِ الدُّنْيَا.
وَهَكَذَا الْأَمَرُ فِي جَمِيعِ مَصَالِح الدُّنْيَا, كَالْتِّجَارَةِ, وَالزِّرَاعَةِ, وَالصِّنَاعَةِ, فَإِنَّ مِنْ يَسْتَعْيِنُ بِاللَّهِ, وَيَبْذُلُ الْأَسْبَابَ الْمُبَاحَةَ فِي تَحْصِيلِهَا, والإستفادةِ مِنهَا, فلَا بِدَّ أَنْ يرى ثَمَرَةَ جِدِّهِ وَاِجْتِهَادِهِ.
الخُطْبَةُ الثَانِيَةُ :
الحَمْدُ للّهِ وكَفَى والَّصَلاةُ والسَلامُ عَلى عَبْدِهِ المُصْطَفى وعَلى آلِه وصَحْبِهِ ومَنْ اقْتَفَى ..
عِبَادَ اللهِ: وَهَكَذَا الشَّأْنُ فِي أُمُورِ الدِّينِ، فَإِنّكَ إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ مُحَافِظًا عَلَى الصَّلَاَةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ, وَتَالِيَا لِلْقُرْآنِ، وَبَارَّا بِوَالِدِيهِ, وَاصِلَاً لِرَحِمِهِ, مُحِبَّا لِلْخَيْرِ وَأَهَلِهُ, مُتَعَفِّفًا عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ, صائناً لِقَلْبِهِ وَفَرْجِهِ وَعِرْضِهِ, فَاِعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ نَاتِجٌ عَنْ حُسْنِ التَّرْبِيَةِ, وَالتَّعَلُّقِ بِاللَّهِ, وَلُزُومِ الطَرِيقِ المُستَقِيمِ وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ فِي طَاعَةِ اللَّه, فَإِنْ الطَّاعَةِ لَا تَسْهُلُ إلا عَلَى مَنْ رَبَّى نَفْسَهُ عَلَيهَا وَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِيهَا, كَمَا قَالَ تَعَالَى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّه لمع الْمُحْسِنِينَ) بِخِلَاَفِ مَنْ لَا يَشْهَدُ الصَّلَاَةَ, أَوْ يَأْتِيهَا وَهُوَ كَارِهٌ أَوْ كَسُولٌ, وَلَا يَحْفَظُ بَصَرَهُ, وَلا لِسَانَهُ, وَلَا يُرَاقِبُ اللَّهَ فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَاتِجٌ عَنْ إهْمَالِهِ، وَبُعْدِهِ عَنِ اللَّه, وَاِنْغِماسِهِ فِي الْمَعَاصِي. اللهم أرِنا الحقَ حَقا وارزقْنا اتباعَه وأرِنا الباطلَ باطلا وارزقْنا اجتنَابه ..
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ, وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ, وَاِجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا, مُطْمَئِنًّا, رَخَاءً, سَخَاءً, وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَصَلِحْ لَنَا دِيَنَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي إِلِيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
( رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنّكَ رَءُوفٌ رَحِيم)
( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِّنَا عَذَاب النَّارِ)
( سُبْحَانَ رَبّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).