ديمومة العمل الصالح ! 1443/10/5هـ

يوسف العوض
1443/10/02 - 2022/05/03 14:20PM

الخطبة الاولى

أيّها المسلمونَ : حثَ الإسلامُ على ملازمةِ الرفقِ في الأعمالِ ، والاقتصارِ على ما يطيقُ العاملُ ، ويُمكنُهُ المداومةُ عليهِ فقدْ جاءَ عنْ عائشة : أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قالَ : " سددوا وقاربوا ، واعلموا أنَ لنْ يدخلَ أحدكَمْ عملُهُ الجنةَ ، وأنَّ أحبَ الأعمالِ إلى اللهِ أدومُها وإنْ قلَ " رواه البخاري ، ففي هذا الحديثِ يقولُ النبيُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ : " سددوا " ، بمعنى اقصدوا الصوابَ ولا تفرطوا ؛ فتجهدوا أنفسكمْ في العبادةِ ؛ لئلا يفضيَ بكمْ ذلكَ إلى المللِ ، فتتركوا العملَ فتفرّطوا ، " وقاربوا " بمعنى إن لمْ تستطيعوا الأخذَ بالأكملِ ، فاعملوا بما يقربُ منهُ ، " واعلموا أنهُ لنْ يدخلَ أحدكَمْ عملُهُ الجنةَ " بمعنى أنَ الطاعاتِ التي تقومونَ بها ، ليستْ عوضا وثمنا للجنةِ  ولا تساويها ، فالجنةُ سلعةٌ غاليةٌ لا يكافئها عملٌ ، وإنما تدخلونها برحمةِ اللهِ ، ولا تعارضَ بينَ هذا الحديثِ وبينَ قولهِ تعالى : ( ادخلوا الجنةَ بما كنتمْ تعملونَ ) وكما قالَ بعضُ العلماءِ : فالعملُ لا يقابلُ الجزاءَ وإنْ كانَ سببا للجزاءِ ؛ ولهذا منْ ظنَ أنّهُ قامَ بما يجبُ عليهِ وأنهُ لا يحتاجُ إلى مغفرةِ الربِ تعالى وعفوِهِ ، فهوَ ضالٌ ، كما ثبتَ في الصحيحِ عنْ النبيِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أنهُ قالَ : " لنْ يدخلَ أحدُ الجنةَ بعملهِ " ، قالوا : ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ ؟ قالَ : " ولا أنا ، إلا أنْ يتغمدنيَ اللهُ برحمةٍ منهُ وفضلٍ " ورويَ " بمغفرتهِ .

أيّها المسلمونَ : ثمَ قالَ النبيُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ : " وأنَّ أحبَ الأعمالِ إلى اللهِ أدومُها " بمعنى ما استمرَ في حياةِ العاملِ ، " وإنْ قلَ " أي ولوْ كانَ عملاً قليلاً ؛ لأنهُ يستمرُ ، بخلافِ الكثيرِ الشاقِ ، وفي صحيحٍ مسلمٍ عنْ علقمة ، قالَ : " سألتْ أمُ المؤمنينْ عائشةُ ، قالَ : قلتُ : يا أمَّ المؤمنينَ ، كيفَ كانَ عملُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ؟ هلْ كانَ يخصُ شيئا منْ الأيامِ ؟ قالتْ : لا ، كانَ عملهُ ديمةً ، وأيّكمْ يستطيعُ ما كانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يستطيعُ ؟ ! " وكانتْ عائشة رضيَ اللهُ عنها إذا عملتْ العملَ لزمتهُ .

أيّها المسلمونَ : وهنا توضيحٌ مهمٌ متعلقٌ بالحديثِ السابقِ الذي يقول ( وأنَّ أحبَ الأعمالِ إلى اللهِ أدومُها وإنْ قلَ ) فليسَ المقصودُ أنَّ العملَ النشطَ الدؤوبَ أقلُ أجرا منْ العملِ الصالحِ السهلِ !! بلْ أنّ العملَ النشطَ كالمواظبةِ على صلاةِ الفجرِ مثلاً إذا كانَ دائما وكانَ كثيرا فهوَ الأفضلُ منْ التقصيرِ في أداءِ صلاةِ الفجرِ ، لكنّ الحديثَ يقابلُ بينَ كثيرٍ منقطعٍ وقليلٍ دائمٍ ، فأيّهما الأفضل ؟ فلا شك أن العملَ الدائمَ هوَ الأفضلُ لهُ في تلكَ الحالةِ ، وأيضا السياقُ التاريخي لسببِ ورودِ هذا الحديثِ الشريفِ مهمٍ لفهمهِ ، فقدْ كانَ جيلُ الصحابةِ - رضيَ اللهُ عنهمْ - على درجةٍ عاليةٍ منْ الهمةِ والنشاطِ ، وتلكَ الهمةُ اقتضتْ منْ رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليهِ وسلمَ - أنْ يدعوهمْ في كثيرٍ منْ المواقفِ إلى تهذيبِ سورةِ هذا النشاطِ الزائدِ ، قائلاً لهمْ : ( اكلفوا منْ الأعمالِ ما تطيقونَ ) ؛ منْ أجلِ أنْ يحثهمْ على العودةِ إلى المستوى المطلوبِ منْ الوسطيةِ والقصدِ والاعتدالِ والتوازنِ .

أيّها المسلمونَ : ولننظر مثلاً إلى همةِ عبدِ اللهْ بنْ عمرو في العبادةِ أثناءَ شبابهِ ، وذلكَ حينَ سألهُ النبيُ : ( كيفَ تصومُ ؟ قالَ : كلَّ يومٍ ، قالَ : وكيفَ تختمُ ؟ قالَ : كلَّ ليلةٍ ، قالَ : صُمْ في كلِّ شهرٍ ثلاثةً ، وأقرأْ القرآنَ في كلِّ شهرٍ ، قالَ : قلتُ : أطيقُ أكثرَ منْ ذلكَ ، قالَ : صُمْ ثلاثةَ أيامٍ في الجمعةَ ، قلتْ : أطيقُ أكثرَ منْ ذلكَ ، قالَ : أفطرْ يومينِ وصُمْ يوما ، قالَ : قلتُ : أطيقُ أكثرَ منْ ذلكَ ، قالَ : صُمْ أفضلَ الصومِ صومَ داودَ : صيامَ يومٍ ، وإفطارَ يومٍ ، واقرأْ في كلِّ سبعِ ليالٍ مرةً ) ، لكنَّ عبدَ اللهْ نَدِمَ بعدَ أنْ كبُرتْ سنّه ، حيثُ قالَ : ( فليتني قبلتُ رخصةَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ؛ وذاكَ أنّي كبرتُ وضعفتُ ، فكانَ يقرأُ على بعضِ أهلِهِ السُبُعَ منْ القرآنِ بالنّهارِ ، والذي يقرؤهُ يعرضهُ منَ النّهارِ ؛ ليكونَ أخفَ عليهِ بالليلِ ، وإذا أرادَ أنْ يتقوى أفطرَ أياماً وأحصى ، وصامَ مثلَهنَ كراهيةَ أنْ يتركَ شيئا فارقَ النبيُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ عليهِ "

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..

 

الخطبة الثانية

 

أخي المسلمُ الكريمُ يريدُ الإسلامُ منْ خلالِ فرضهِ للعباداتِ غرسَ قيمِ هذهِ العباداتِ ومبادئها في نفسكَ وقلبكَ لتؤتي أكلُها وثمراتُها سلوكا وعملاً ولا يمكنُ أنْ يتمَ ذلكَ إلا بالاستمراريةِ والديمومةِ ومما يساعدكَ على ذلكَ :

1 - لا تكلفُ نفسكَ منْ الأعمالِ ما لا تطيقُ بما لا يعني الإهمالُ والتقصيرُ وعدمُ تكليفِ النفسِ بأيِ شيءٍ .

2 - في أيِ مشروعٍ دينيٍ أوْ دنيويٍ إبدأ باليسيرِ والقليل ثمَ تدرّجَ منهُ إلى الأكثرِ فالأكثر حتى تصلَ إلى الذروةِ والقمةِ بإذنِ اللهِ .

3 - شهرُ رمضانْ مدرسةٌ عظيمةٌ لتعلمِ الاستمراريةِ وعدمِ الانقطاعِ فاغتنمَ ذلكَ بوضعِ أهمِ الطاعاتِ والعباداتِ والأخلاقِ التي تريدُ أنْ تستمرَ عليها بعدَ رمضانْ .

4 - إنَ تقيدكَ بالاستمراريةِ والديمومةِ طاعةً وعبادةً فدينكَ وإسلامكَ يأمركَ بالعملِ الدائمِ المستمرِ ولوْ كانَ قليلاً فاحرصْ عليهِ ولا يحبذُ العملُ الكثيرُ المنقطعُ لأنهُ لا يؤتي ثمرةً ولا يوصلُ لغايةٍ فابتعدَ عنهُ والتجربةُ العمليةُ تؤكدُ ذلكَ.

اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين ومن حزبك المفلحين..

المرفقات

1651682530_ديمومة.pdf

المشاهدات 1506 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا