دلوني على السوق
د. محمد بن علي الرشيد
1438/09/19 - 2017/06/14 14:18PM
دلوني على السوق...
كلمات انطلقت لتؤسس مدرسة الجد والاجتهاد ، ولتوجد نفوساً شامخة عزيزة في تنمية الاقتصاد .
دلوني على السوق !، رسالة إلى كل شاب ألف الاستهلاك والاستهلاك فحسب.
دلوني على السوق !، تغيير للمفاهيم المغلوطة عن التوكل ، وتغيير للمفهوم السائد ليكون التوكل بذلا للأسباب واستفراغا للجهد في ذلك مع بقاء تعلق القلب بربنا سبحانه وتعالى مسبب الأسباب.
دلوني على السوق !، فتح للأبواب المغلقة دون الخيرات ، ومد لجسور الإبداع والإنجاز ، والاستغناء عن الناس.
دلوني على السوق !، شعار لمشاركة الشباب في زراعة وتجارة وصناعة بلدهم ، ومساهمة عظيمة في تحقيق الاكتفاء الذاتي .
دلوني على السوق !، إن كانت فيما مضى هامة ، فهي اليوم قضية مصيرية لشباب بلادنا ، ولن أبالغ حين أقول دلوني على السوق فيها فرز لهمم الرجال! وتمحيص لسمو نفوسهم ولقبولها معركة التحدي .
أيها المؤمنون: إننا بحاجة حقيقة إلى أن نزرع ثقافة دلوني على السوق!، مع قرارات وزارة العمل لتوطين الوظائف وقطاعات الأعمال، وقبل أن أنتقل بكم إلى ذلك الجيل المجاهد من أصحاب النبي –‘- لنعرف كيف تعاملوا مع دلوني على السوق !.
أود أن أقول لكل ضيف من ضيوف المملكة إنك على العين والرأس ، ولنا منكم أخوة أحبة أحسبهم من الصادقين المخلصين ، الذين نفخر بوجودهم بيننا ، ولكني مضطر اليوم إلى أن أخاطب شبابنا لأن الضيف مهما أنسنا ببقائه ، فسيأتي اليوم الذي يرحل فيه، لرغبة أو لرهبة ، ولا زلت أتذكر ويتذكر الكثير ، الحال في أزمة الخليج الأولى، حين رحل ضيوف المملكة فعانينا الأمريّن من نقص الأيدي الفنية العاملة، ومع ذلك فنحن لا نستغني عنكم أيها الضيوف الكرام ، لا نستغني عنكم ونريد منكم الأخذ بأيدي شبابنا والارتقاء بهم ما داموا في أول الطريق في الأعمال المهنية، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.
أيها المؤمنون: أخرج البخاري في صحيحه ، عن أنس -¢- قال: قدم عبدالرحمن بن عوف -¢- المدينة ، فآخى النبي –‘- بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري ، فقال له سعد : -وهذا قبل نزول آية الحجاب- اختر إحدى زوجتاي فأنزل لك عنها فإذا انقضت عدتها تزوجتها واختر من مالي ما شئت ...
الله أكبر عرض مغري ، لكنه عرضٌ وجد نفساً أبية ، اسمع يا من آذيت الناس ليشفعوا لك لتحصل على حافز، وما أدراك ما حافز.
اسمع يا من وضع اسمه زوراً وبهتاناً ليكمل عدد السعودة في مؤسسة من المؤسسات مقابل دراهم معدودة، وكان أهل المؤسسة فيه من الزاهدين!.
اسمع حبيبي الغالي: اسمع أيها الشاب الذي يملك قدرات عملاقة، تحتاج منا إلى إيقاظ بعد طول رقاد، اسمع ماذا قال عبدالرحمن بن عوف -¢- لسعد بن الربيع ، قال له: بارك الله لك في أهلك وفي مالك دلوني على السوق!، فأتى السوق فربح شيئا من أقط وسمن فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم مهيم يا عبد الرحمن قال يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار قال فما سقت فيها فقال وزن نواة من ذهب فدعا له النبي ‘ فقال: أولم ولو بشاة .
إن هذا العملاق لم يكن محتاجا إلى جمعية خيرية ليتزوج ، ولم يكن محتاجا إلى محسن يتصدق، يقطب جبينه ويقبض يده أو يبسطها ، ولكن الله أغناه في الضرب بالأسواق، وأغناه بالسبق فيها، بما أحل الله.
وها هو عروة ابن الجعد الأزدي البارقي ¢ ، في قصته الشهيرة في صحيح البخاري، وفيها أن النبي ‘، أعطاه ديناراً وقال: اشتر لي شاة، فذهب واشترى له شاتين ، ثم باع أحدهما بالثمن نفسه، وجاء إلى النبي ‘ بماله وشاته ، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم‘ فكان لا يضارب في صفقة إلا ربح فيها، حتى اعتقد الصحابة رضي الله عنهم أنه لو باع التراب لربح فيه ـ وهذا قبل أن يكون التراب بالآلآف المؤلفة ـ !! .
والقائمة في ذلك لا تكاد تنتهي، ولكني أختمها بأن أعرض لكم كشفا بحساب بعض المبشرين بالجنة، حتى نوقن أن دلوني على السوق، منهج إسلامي أصيل، فهذا أبو بكر ¢ تقول عنه عائشة رضي الله عنها: كان أبو بكر أتجر قريش حتى دخل في الإمارة ؛ والأثر رواه الخلال بسند صحيح .
نعم كان تاجراً حتى دخل في الإمارة، فافتقر وليس العكس، كان يتّجر بالبز ، أي : بالثياب والأقمشة.
وقد أخرج ابن سعد بسند صحيح، أن أبا بكر لما استخلف أصبح غادياً إلى السوق وعلى رأسه أثواب يتجر بها كالعادة فلقيه عمر بن الخطاب¢ وأبو عبيدة بن الجراح¢ فقالا له: كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين ؟، فقال : فمن أين أطعم عيالي؟ ، قالا له: نفرض لك في الشهر ما تستغني به عن التجارة .
أما عثمان بن عفان¢ فيكفي من كشف حسابه، هذا الرقم الذي تصدق به في تجهيز جيش العسرة ، فقد أخرج الترمذي من حديث عبدالرحمن بن خباب ¢ قال: لما دعا النبي ‘ إلى تجهيز جيش العسرة قال عثمان: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها ، ثم دعا النبي ‘ مرة ثانية الناس ليتصدقوا ، فقام عثمان فقال: علي مائة ثانية من الأبل بأحلاسها وأقتابها ، فدعا النبي ‘ ثالثة الناس ليتصدقوا فقام عثمان فقال: يا رسول الله علي مائة ثالثة من الإبل بأحلاسها وأقتابها ، حتى تهلل وجه رسول الله ـ وإذا تهلل كان كالمذهبة ـ وقال: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم.
أما طلحة ابن عبيد الله وما أدراك ما طلحة ، فكان يسمى طلحة الفياض لكرمه وجوده , وغلَّة طلحة يومياً ألف دينار ، ولما مات ¢ خلف من الأموال الكثير الكثير ، وحين سأل معاوية¢ ابنه موسى بن طلحة، قال له: كم ترك أبوك؟ قال: ترك ألفي ألف درهم – هذا من الفضة- ومائتي ألف دينار - هذا من الذهب- فقال معاوية: عاش حميداً سخياً شريفاً , ومات شهيدا .
أما الزبير بن العوام¢ فقد كان له ألف مملوك يؤدون له الخراج فلا يدخل لبيته من ذلك الخراج شيئا ، ولما مات كان تحته أربع زوجات أصابت كل واحدة منهن ربع الثمن فالأربع يشتركن بالثمن ، وكان مع ذلك نصيب كل واحدة منهن ألف ألف يعني مليون ، ولما أحصي جميع ماله وجد أنه يزيد عن خمسين مليون ومائتي ألف ؛ وهذا الأثر أصله في البخاري.
ولما مات عبدالرحمن بن عوف ¢ صاحب الكلمة التي تنبض بالحياة (دلوني على السوق) ، خلف ألف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، ومائة فرس ، وكان يزرع بالجرف – وهو موضع شمال المدينة- يزرع على عشرين ناضح ، ولك أن تتصور هذه المزارع الضخمة التي تسقى بعشرين ناضح من الأبل .
رضي اللهم عنهم وأرضاهم ؛ سطروا بأعمالهم قبل أقوالهم سبل العزة والرفعة .
أيها الشاب الغالي: ذكرت لك نماذج , وما تركتُ أضعاف أضعاف ما ذكرت لك ، لأننا نحتاجك في السوق ، إن مرابطتك في السوق ستفتح لك أبواب من الخير لا يحصيها إلا الله، نحتاجك في السوق لتنتهي تلك المناظر المؤسفة التي تنقل لنا عبر هذه الجوالات من المقاطع صباح مساء من عمليات الغش وعمليات العبث، بمطاعم الناس ، واحتياجاتهم، التي تتم من بعض الوافدين الذين قد يكونون من غير المسلمين ، أو ممن يحمل الإسلام اسماً لا حقيقة.
نحتاجك أيها الشاب الغالي في سوق الاتصالات لنأمن على أجهزتنا ومعلوماتنا ، نحتاجك في كل نشاط من الأنشطة لتستقر الأسعار وتتوفر الجودة ويحصل التطوير والإبداع .
واعلم حبيبي الغالي أن النبي ‘ يقول: اليد العليا خير من اليد السفلى.
وقال: وعز المؤمن استغنائه عن الناس.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله الجليل العظيم الكريم لي ولكم من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الفضلاء: بقي أن أرسل من على هذا المنبر قواعد عامة في التجارة لكل شاب شمر أو سيشمر عن ساعد الجد والاجتهاد ، ويرفع شعار ( دلوني على السوق!) ، فأقول مستعيناً بالله: عليك حبيبي الغالي بالتوكل على الله جل شأنه وأبدأ يومك من أوله، لا من منتصفه ولا من آخره، كن من الذين يصلون الفجر ويفوزون بدعوة وبخبر النبي ‘ : بورك لأمتي في بكورها؛ ثم اعلم أيها الشاب الطموح، أن من القواعد العامة في التجارة: أنه لا مكسب بدون صبر ومعاناة، وأن المكاسب العاجلة أشبه بسراب يخدع ولا ينفع ؛ وإياك إياك تتنقل بين الأنشطة التجارية فإنك لا بد أن تمر على العقبات والمعوقات ، وكما تقول العامة: كل ضربة بتعليمة ، فإذا أخذت هذه الضربة فاصبر في الطريق فإن الضربة إن جاءت فالتي بعدها تكون أخف، والثالثة أخف، ثم لا تراها إن شاء الله ما بقي من المشوار، أما إن أخذت الضربة هنا وانتقلت إلى نشاط آخر فتأخذ الضربة الثانية والثالثة ، لن تسير ولا شبراً واحداً في طريق التجارة.
ولا تكن كالمنبت الذي لا ظهراً أبقى ولا أرض قطع ، فإن فتح الله عليك ، فعليك بالاعتدال بالنفقة ولا تأخذ أكثر من ثلث الربح ، في مصروفاتك ، ورد الباقي في أصل التجارة ، ولا تنسَ الصدقة والزكاة ، واعلم أن التجارة فرص تقبل وتدبر فإذا أقبلت فكن ممسكاً للمال بالمعروف ، ونحن والله في هذه الأيام وأقولها وأهمس بها وأنادي بها لكل شاب : نحن في هذه الأيام نعيش فرصا للتجارة قد لا تتكرر ، لا سيما في تجارة التجزئة ، فشمروا عن السواعد ، وانزلوا إلى ميدان العمل ، فوالله إن أرضكم لذهب ، يجنى منها في الصباح والمساء، ولا يعقلها إلا العالمون.
وإن شئت أخي الشاب دعاية لا تموت وتسويقاً لا ينقطع فالزم التعامل بالأخلاق الشرعية، من حسن استقبال الزبون ، ومن الصدق في بيعك وشرائك ؛ وتجنب المعاصي ، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه ،وقديماً قيل:
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير على الفساد
وأخيراً وليس آخرا: لا تشغلك التجارة عن ذكر الله وفرائضه ، وكن من اللذين قال فيهم رب العالمين: ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ) [سورة النور:37].
فهذا محراب عظيم من محاريب العبودية ، محراب الأمل ، محراب الإبداع ، محراب أن تساهم في تنمية بلدك ، وأن تكون عضواً فاعلاً منتجاً ، وأن لا تقف فقط عند خطوط الاستهلاك .