دَعوَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ لِقَوْمِهِ 3. 1441/49هـ
عبد الله بن علي الطريف
أيها الإخوة: لقد قابلَ الوالدُ الضالُ آزرُ توددَ ونصحَ ابنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ ودعوتَه له بالحكمةِ بالموعظةِ الحسنةِ والمجادلةِ بالتي هي أحسن بالرفضِ والتهديدِ بفظاظةِ الكفرِ، وغِلظةِ العنادِ، وتجاهلَ بُنُوَّتَه، وأَنكَرَ حَدَبَه عليه وشفقتَه به، وتجهَّم له وقالَ محتقراً لشأنه، متعجباً من جُرأتِهِ، مُنكراً عليه نُصحَه، كعادةِ الضُلالِ الذين سُكرت أبصارُهم وصُودرَت عُقولُهم: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) فخابَ رجاءُ إبراهيمَ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ حينَ أنكرَ عليه أبوُه دعوتَه، وحَزَّ في نفسِهِ أن يَدْعُوَه إلى الخيرِ فيبرأَ منه ويَنْأَى عنه، ومع هذا الجفاءِ والغلظةِ عليه من أبيه لم يقعد عن متابعةِ دعوتِه إلى الحقِ، ولم يثنياه عن النكيرِ على قَومِهِ إشراكَهم بالله، وعبادَتهم للأصنامِ من دونَ الله تعالى.. بل أزمعَ أن يمحوَ هذه العقائدَ الفاسدةَ، ولو نالَه ما نالَه من الأذى، ولحقَهُ من الشر ما لَحِقَهُ...
أيها الإخوة: كان إبراهيمُ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ ذكيَّ الفوائدِ صائبَ الفكرِ؛ فرأى أن الُحجَةَ القويةَ والبرهانَ اللفظي وإنْ كانا واضِحينِ لا يُفيدانِ في هذه القلوبِ الـمُغْلَقَةِ والأفهامِ المتحجرةِ، فأرادَ أنْ يُشْرِكَ أبصَارَ القومِ مع بصائرِهم، وحواسِهم مع أفئدتِهم في تَفَهْمِ عقيدتِه، والوقوفِ على حقيقةِ دعوته، علَّهم يثوبون إلى رُشدِهم، ويرجعون عن غَيهم..
فكان مما عمله إبراهيم عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ معَهم أنْ استدرجَهم لمجادلتِه، واستنزالَهم إلى مجالِ محاورتِه، فسألَهم مَا تَعْبُدُونَ؟ وكان سؤالاً مُلْهَماً منه وموفقاً ففي سؤالِه لهم حَمْلٌ لهم على الإقرارِ بجرمِهم ودَفعٌ لهم للاعترافِ باقترافِهم للذنبِ.. وبسؤالِهِ جمعَ شتاتَ الخلافِ في مسألَةِ واحدةٍ، فإذا أضْعَفَ أساسَ حجتِهم، وقَوْضَ أركانَها وأَوْضحَ بطلانَها فقد ألزمَهم الحُجةَ، وهذا يُضَيّقُ دائرةَ الجدلِ معهم ويُصَغِرُها.. فأجابوا بجوابٍ فج فـ (قَالُوا [مُتَبَجِحِينَ بعبادتِهم] نَعْبُدُ أَصْنَامًا [ننحتُها ونعملُها بأيدينا] فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) [الشعراء:71] قالوا ذلك معتزينَ بعبادتِها، مُعْتَدِين بالخضوعِ لها.! وأنَّهم مُقيمونَ على عِبادَتِها في كثيرٍ من أوقاتِهم.. فقالَ لهم إبراهيمُ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ مبيناً عدمَ استحقاقِ أصنامِهم للعبادةِ بأسلوبٍ منطقيٍ رائعٍ يُبِينُ زَائفَ رأيِهم وفسادَ معتقدِهم: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) فيستجيبون لدعائِكم، ويفرجون كربَكم، ويزيلون عنكم كلَ مكروهٍ.؟ وبَيَّنَ تفاهةَ آلهتِهم التي لا تسمعُ ولا تبصرُ، ونقلَهم للتفكيرِ بصفةٍ لازمةٍ للكمالِ فقال: (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) فأقروا أنَّ ذلك كلَه، غير موجودٍ فيها، فلا تسمعُ دعاءً، ولا تنفعُ راغِباً، ولا تضرُ نادً، وحادوا بالجوابِ وفتحوا بابَ الاعتزازِ بالموروثِ وإنْ كانَ ضلالاً، والتقليدِ وإنْ كانَ أعمى.. وما أقبحَ وأعظمَ كيدَ الشيطانِ الذي استدرجَهم إلى أن حاكوا آباءَهم في الكفرِ، وجارَوهم في الشركِ، وزَيَّنَ لهم عِبادَةَ التماثيلِ؛ فعفروا لها جِبَاهَهم.. فما أشدَ جَهْلَهم حين اعتقدُوا أنهم على الحقِ، وجادلوا أهلَ الحقِ عن باطلِهم ونصروه بحجةِ ضعيفةٍ تُنبئُ عن انغلاقِ عقولِهم فقالوا: (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) فَتَبِعْنَاهم على ذلك، وسلَكْنا سبيلَهم، وحافظْنا على عاداتِهم، فجعلوا ما دَرَجَ عليه قومُهم وما اهتدى إليه قُدَمَاؤُهم دليلاً على اسْتِمْسَاكهم بالحقِ، ورأوا قِدَمَها بُرْهَاناً على استحقَاقِها للإِجْلالِ والتعظيمِ؛ فكانوا بذلك خاطئين وعن التفكيرِ السليمِ بعيدين..
فـــــــ(قَالَ [لهم إبراهيمُ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ::] أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [فهل يقدرون على الإضرار بي بأدنى شيءٍ من الضررِ، وليكيدوني، فإنهم لا يقدرون] إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ* الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* [فهو المنفردُ بنعمةِ الخلقِ، ونعمةِ الهداية للمصالحِ الدينيةِ والدنيويةِ ثم خَصصَ منها بعض الضروريات فقال] وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء:75-82] هذا هو الإله وحده المنفردُ بذلك، فيجب أن يفرد بالعبادةِ والطاعةِ، وتتركَ هذه الأصنامُ، التي لا تَخْلُق، ولا تهدي، ولا تُمرضُ، ولا تُشفي، ولا تُطْعِمُ ولا تُسقي، ولا تُميتُ، ولا تُحيي، ولا تَنفعُ عابدِيها، بكشفِ الكروبِ، ولا مَغفرةِ الذنوبِ.
ثم دعا عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ ربَه فقال: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا) أي: علماً كثيراً، أعرفُ به الأحكامَ، والحلالَ والحرامَ، وأحكمُ بهِ بينَ الأنامِ، (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من إخوانِهِ (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) أي: اجعلْ لي ثَناءَ صِدْقٍ، مُستمرٍ إلى آخرِ الدَهرِ؛ فاستجابَ اللهُ دعاءَه، فوهبَ له مِنْ العلمِ والحُكْمِ، ما كانَ به من أفضلِ المرسلين، وألحقَهُ بإخوانِهِ المرسلين، وجَعلَهُ محبوباً مَقبولاً مُعظماً مثنًى عليه، في جميعِ المللِ، في كلِ الأوقاتِ. فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله أجمعين.. بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآَنِ العَظِيْمِ ونَفَعَني وَإِيَاكُم بِمَا فِيهِ مِنْ الآَيَاتِ والذِكرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَولِي هَذَا وأَستَغفرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُم وَلجميعِ الـمُسلِمَينَ مِنْ كُل ِذَنْبٍ وَخَطِيئةٍ فاسْتَغْفِرُوه إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَحِيمُ..
الثانية:
أيها الإخوة: ولما لم تنفعْ مع قومِ إبراهيمَ الحجةَ، ولم تغنْهم النُّذرُ، وصدوا عن سبيلِه وأعرضوا عن دعوتِه، ورأى إبراهيمُ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ أن آذانَهم صمًّا، وقلوبَهم غُلفاً، وأنهم ما زالوا متعلقِين بأوهامِهم، متمسكين بعبادةِ أصنامِهم بيَّت لها فعلاً يُظهر ضَعفَها، وأنها لا تُدبر شيئاً فأعد لها كيداً يُقوضُ به عرشَ معبودَاتهم، وأرادَ أن يريَهم بالفعلِ عَجزَها وعدمَ انتصارِها لعلَه يحصلُ به إقرارُهم، قالَ اللهُ قاصاً ذلك: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ [أي أكسرُها على وجهِ الكيدِ] بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ* [عنها إلى عيدٍ من أعيادِكم الذي تُقِيمونَه كلَ عامٍ خارجَ مدينتِكم، فلما تولوا مدبرين، ولم يبقْ إلا إبراهيمُ لتظاهُرِهِ بالسقمِ ذهبَ إليها بخِفْيَةٍ وكانت مجموعةً في بيتٍ واحدٍ، فوجدَ الطعامَ قد وضعَ عندَها فخاطَبها قَائِلا]: أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ.. [ولِسَانُ حَالِهِ يقُولُ: أنى للحجارةِ الصُمِ والخُشُبِ الـمُسَنَدَةِ أنْ تَنْطِق.!] فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ [بِفَأْسٍ بيده] فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا [أي كِسَراً وقِطَعاً] إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ [أبقاه] لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ* [فلما رأوا ما حلَ بأصنامِهم من الإهانةِ والخزي] قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ* [فقالَ قائلٌ منهم] قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ* [فرموا إبراهيمَ بالظلمِ الذي هم أولى به حيثُ كسَّرَها ولم يدروا أن تكسِيرَه لها من أفضلِ مناقبِه ومن عدلِه وتوحيدِه، وإنما الظالمُ من اتخذَها آلهةً، وقد رَأَى ما يُفْعَلُ بها]* قَالُوا فَأْتُوا بِهِ [أي: بإبراهيمَ] عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ [أي بمرأى منهم ومسمعٍ] لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [أي: يحضرون ما يُصْنَعُ بمنْ كسرَ آلهتهَم، وهذا الذي أرادَ إبراهيمُ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ وقَصَدَ أن يكون بياناً للحقِ بمشهدٍ من الناسِ ليشاهدوا الحقَ وتقومُ عليهم الحُجةَ، وتَقَاطَرَتْ الوفودُ وتكاثرت الجموعُ، كلٌ يرغبُ القصاصَ من إبراهيمَ ويَوَدُ أن يرى عقابَه، وفي ذلك إرضَاءٌ لنفوسِهم المتعطشةِ لعقابِه، ثم جاءوا به وسطَ هذا الجمعِ الزاخرِ، وابتدأوا بمحاكمتِه أمامَ هذه الجموع الحانقة والغاضبة عليه فـــ]* قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا [التكسير] بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ* [وسَنحتْ الفرصةُ لإبراهيمَ عَلَيْهِ الصَلَاةُ والسَّلَامُ لبلوغِ مقصده، فجرهم في الجدالِ بأسلوبِه الحكيم ليُلْزِمَهم الحُجة فـــــ] قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ* [يا لها من حُجةٍ دامغةٍ، وصَفعةٍ مُؤلِمَةٍ نَبَّهتهم من غفلتِهم] فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ* [أي: ثابت عليهم عقولهم، ورجعت إليهم أحلامُهم، وعلموا أنهم ضالون في عبادتها، وأقروا على أنفسِهم بالظلمِ والشرك، فحصل بذلك المقصودُ، ولزمتهم الحُجةَ بإقرارِهم أن ما هم عليه باطل، وأن فعلَهم كفرٌ وظلم، ولكن لم يستمروا على هذه الحالة] ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ* [فكيف تَتَهَكَمُ بنا وتستهزئُ بنا وتأمرُنا أن نسألَها وأنت تعلمُ أنها لا تنطقُ.؟] قَالَ [موبخا لهم ومعلناً بشركِهم على رءوسِ الأشهادِ، ومبيناً عدمَ استحقاقَ آلهتِهم للعبادةِ] أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ [فلا نفع له ولا دفع]* أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ* [ما أضلَكم وأخسرَ صفقتِكم، وما أخسَكم، أنتم وما عبدتم من دونِ اللهِ، إن كنتم تعقلون عرفتم هذه الحال، فلما عدمتم العقل، وارتكبتم الجهلَ والضلالَ على بصيرةٍ، صارت البهائمُ، أحسن حالاً منكم؛ فحينئذ أفحمَهم، ولم يبينوا حُجة، فاستعملوا قوتهم في معاقبته، فـ] قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ* [ولكن سبقت العناية الإلهية جُرْمَهم] قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ* وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء:57-70] وللحديث بقية وصلوا وسلموا..