دروس وعبر من قصة موسى وفرعون عبد الله الجلالي

دروس وعبر من قصة موسى وفرعون [1]

لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قصص أنبيائه السابقين؛ تسلية وتثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن تلك القصص قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، وقد أطال الله تعالى في قصته ما لم يطل في قصص غيره من الأنيباء؛ لما في قصته من دروس وعبر عظيمة، يستفيد منها العلماء الربانيون، والدعاة المربون، والأئمة المصلحون، والناس أجمعون.

قصة موسى عليه السلام مع فرعون


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قاصم الطغاة والمتجبرين، وناصر أوليائه، لا حول ولا قوة إلا به، ولا غالب إلا الله، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة! ما زلنا في سلسلة من نبأ المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وكان حديثنا في حلقة سابقة عن قصة يوسف عليه الصلاة والسلام، والتي ابتدأت بطفل صغير يلقى في البئر، ويئس منه إخوانه، حتى يمكن الله عز وجل له في الأرض، وتنتهي تلك القصة بمغزاها الكبير: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]. أما حديثنا الآن ضمن سلسلة من نبأ المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فهو قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع أكبر جبار عنيد وأكبر طاغية -إن صح التعبير- باستثناء طغاة يعيشون في عصرنا الحاضر، فهذا الطاغية أنكر الخالق سبحانه وتعالى، وادعى الألوهية والربوبية لنفسه، وذبح الأبناء، واستبقى النساء خشية على نفسه، ولكننا سوف نجد أنه ينتهي أجله وحكمه وسلطانه وطاغوته وكبرياؤه على يد طفل من الأطفال الذين ولدوا في هذه الفترة التي كان يقتل فيها الأبناء ويستبقي النساء، وذلك كله تحدٍ من الله عز وجل لهذا الطاغوت، ولكل طاغوت إلى يوم القيامة، حينما يريد أن يستذل خلق الله، أو يستبد في هذه الأرض، أو يعيث في الأرض فساداً. إذاً: القصة التي معنا اليوم هي قصة بني إسرائيل بقيادة موسى عليه الصلاة والسلام، أمام الطاغوت المتجبر فرعون عليه لعنة الله، ومن سار على منهجه إلى يوم القيامة. القصة تبدأ كما بدأت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام .. طفل يولد ويرمى في النهر، ذاك يرمى في البئر وهذا يرمى في النهر، ثم يكون الأمر نهاية فرعون على يد موسى عليه الصلاة والسلام. ومن هنا نعلم أن قصص الأنبياء تبدأ في بادئ الأمر بسيطة، لكن الله عز وجل لا بد أن يظهر أولياءه، ويزيل الطواغيت على يد أناس كانوا مغمورين في المجتمع، فيوسف عليه الصلاة والسلام ينهي الحكم في مصر، ويتولى هو حكم مصر، وقد خرج من البئر، أما موسى عليه الصلاة والسلام فيلقى رضيعاً في تابوت في نهر النيل، ثم بعد ذلك يسقط أكبر طغيان على وجه الأرض مرت عليه مدة طويلة من الزمن. إذاً: هذه حكمة الله عز وجل، لا نستبعد النصر من الله عز وجل، ولو ضعفت البوادر والإرهاصات، فإن الله عز وجل غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. إن قصة موسى تبدأ من قول الله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [القصص:5]، وتنتهي بقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137]، هذه النهاية. ......


أخذ العظة والعبرة من قصة موسى مع فرعون


أما مغزى هذه القصة فهو واضح؛ لأن الحديث عن الأمم السابقة إنما هو من أجل أن تأخذ هذه الأمة درساً مدى الحياة؛ حتى لا تيأس من روح الله من ناحية، ومن ناحية أخرى حتى تأخذ بأسباب القوة والتقدم، والله عز وجل يقول: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، هذا هو حكم الله عز وجل في هذه البرية، ولذلك فإن القصة عجيبة، تبدأ من طفل يلقى في النهر وتحدٍ، يقول الله عز وجل: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7]، مع أن القاعدة: أنه إذا خفت عليه أدخليه داخل الغرفة وأغلقي عليه الباب، وأسدلي الأستار حتى لا يعرف .. لكن هنا تحدٍ (أَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)، مع أن هذا اليم -الذي هو نهر النيل- ينتهي بقصر فرعون، يعني: لو انقطع هذا الحبل كما حدث لانتهى في قصر فرعون، ولكن هذا كله من باب التحدي، قال تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص:8]. إذاً: هذا هو ملخص القصة، وقد يستغرب أحد الناس حينما يقرأ القرآن، فيندر أن توجد سورة طويلة إلا وفيها قصة موسى مع فرعون وقصة بني إسرائيل، ما هو السر في ذلك؟ لعل السر في ذلك هو أن بني إسرائيل هم آخر الأمم قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل قائلاً يقول: عيسى عليه الصلاة والسلام جاء بعد موسى، وجاء أنبياء بعد موسى! فنقول: نعم، حتى عيسى عليه الصلاة والسلام بعث إلى بني إسرائيل، ولما بعث إلى بني إسرائيل آمن به من آمن من بني إسرائيل، وسموا أنفسهم نصارى، ثم انعزل النصارى عن بني إسرائيل، وهم في الحقيقة فرع من فروع بني إسرائيل، وغصن من أغصان شجرة بني إسرائيل. إذاً: الحديث الطويل في القرآن عن بني إسرائيل لأنهم آخر الأمم من ناحية، ومن ناحية أخرى: أن في بني إسرائيل من العبر والآيات ما على مثله يؤمن البشر، أعطى الله عز وجل موسى آيات كونية إضافة إلى التوراة والصحف، تسع آيات كل واحدة تكفي لإيمان البشر عامة إلى يوم القيامة، ومع ذلك هذه الآيات التسع ما نفعت بني إسرائيل، حتى أراد الله عز وجل لهم الطرد والإبعاد في هذه الحياة؛ ليعيشوا مشردين في الأرض إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، ما نفعتهم هذه الآيات التسع، وكذلك آل فرعون الذين جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بتسع آيات ما نفعتهم هذه الآيات، فكانت نهايتهم الغرق والدمار. ولذلك بنو إسرائيل بناءً على هذه الآيات التسع التي جاءت من أجل أن تكون دافعاً لهم إلى الإيمان ما زادتهم إلا عتواً ونفوراً، والسر في ذلك هو الاستكبار الذي يصيب الأمم، فهنا فرعون قال الله عنه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا [القصص:4]، فكان طغيانه سبب نهايته، وبنو إسرائيل أيضاً استكبروا في الأرض فكان ذلك سبب نهايتهم، ولذلك بنو إسرائيل يسمون أنفسهم: شعب الله المختار؛ انطلاقاً من قول الله تعالى: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32]، وحقيقة هذا الاختيار كان في زمن من الأزمان، لكن بعد أن انحرفوا عن دين موسى عليه الصلاة والسلام أصبحوا أذل الأمم وأبعدها، أما هم فيظنون أن بينهم وبين الله عز وجل نسباً فيقولون: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، وليس بين أحد وبين الله عز وجل نسب، فالله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]، لكنه التمسك بهذا الدين، فمن تمسك بهذا الدين فإن الله عز وجل يعطيه من الكرامات التي لم يعطها أحداً من العالمين، لكن حينما ينحرف فإنه ليس هناك بينه وبين الله عز وجل عهد ولا نسب، فليعلم الناس أجمعون في أي مكان من الأرض وفي أي عصر أنها سنة الله عز وجل في هذه الحياة، فإذا انحرف الناس عن سنة الله عز وجل في هذه الحياة فإن الله تعالى يقول عن النار: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، أما الطرد والإبعاد من رحمة الله عز وجل في هذه الدنيا؛ فإنه مصير كل من ينحرف عن هذا الدين.


الدروس المستفادة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون


لابد أن نستنتج من هذه القصة دروساً، وهذه الدروس لا نوجهها إلى بني إسرائيل؛ لأن بني إسرائيل رفضوها، وإنما نوجهها إلى المؤمنين من هذه الأمة؛ حتى يأخذوا منها العظة والعبرة والدرس، حتى لا ينحرفوا كما انحرف بنو إسرائيل، وحينئذ هذه الأمة ليست أقرب إلى النبوة من بني إسرائيل، فبنو إسرائيل فيهم النبوة منذ عهد يعقوب عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، باستثناء نبي واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، فجميع الأنبياء في بني إسرائيل باستثناء محمد صلى الله عليه وسلم، فليس هو من بني إسرائيل، أما النبوة فإنها كلها في ذرية يعقوب عليه الصلاة والسلام. إذاً: معنى ذلك أن بني إسرائيل أقرب إلى النسب الشريف إذا كانت المسألة مسألة أنساب، لكن هذه الأمة تمتاز بأنها خير أمة أخرجت للناس، وإن لم يكن منها إلا نبي واحد وهو خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فالقصة ليست مسألة نسب، وليست مسألة وراثة، ولكنها مسألة تمسك بهذا الدين، فمن أخذ بهذا الدين فهو النسيب الشريف العظيم القريب من الله عز وجل، ومن انحرف عن هذا الدين أياً كان هذا الإنسان فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين. نعود إلى بعض الدروس التي سمعناها في هذه السورة في هذه الآيات من دروس بني إسرائيل، أولاً: هذه الآيات لا يستفيد منها إلا المؤمنون، كما قال الله عز وجل في مكان آخر: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، أي: الذين عندهم علم وعقل، وهنا يقول الله تعالى: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [القصص:3]، أما القوم الذين لا يؤمنون فيظنون أنها قصة كسائر القصص التي يسمعونها! ولربما يسمونها أسطورة -نعوذ بالله- حينما ينحرفون عن المنهج الصحيح، ثم تمر هذه الآيات وهذه القصة التي تقطر بالآيات والعظات والعبر، ثم لا يستفيد منها هؤلاء القوم، لكن المؤمنين هم الذين يستفيدون من مثل هذه القصة. يقول الله تعالى عن هذه الآيات: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ [القصص:4]، هذا هو السر الذي جعل فرعون ينتهي سلطانه، العلو في الأرض، من أعظم الذنوب عند الله عز وجل التعالي، سواء على الله سبحانه وتعالى أو على خلق الله، هو أسوأ طريق يورد الأمم إلى الهاوية، ولذلك نجد في قصة إبليس أنه كان في الجنة، وكان من الملائكة، ولكن ما الذي حدث؟ الذي حدث أنه علا في الأرض، فأصبح إبليس ملعوناً يلعنه الناس إلى يوم القيامة، وهو الذي يقود الأمم إلى جهنم يوم القيامة؛ بسبب أنه علا في الأرض وتكبر، وفرعون هنا كان صاحب سلطان عظيم، وكان كما يقول عن نفسه: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ [الزخرف:51-52]، يقصد به موسى عليه الصلاة والسلام, وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]. إذاً: القصة بدأت من العلو في الأرض، فأي أمة يمكن الله عز وجل لها في الأرض ويؤتيها من ملكه وسلطانه فيجب أن تستغل هذا الملك وهذا السلطان فيما يرضي الله عز وجل، فإن استعملت هذا الملك وهذا السلطان في الكبرياء على خلق الله، واستذلال الأمم، وأذية الدعاة ومطاردتهم، ومتابعة أنفاسهم، إلى غير ذلك مما يؤدي إلى العلو والاستكبار في الأرض، فإن هذه الأمة قد أوشكت على النهاية؛ لأن هذا الرجل بدأت نهايته: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]. ولعل السر في تذبيح الأبناء الذكور بصفة خاصة والاستبقاء على النساء يرجع إلى رؤيا قيل: رآها فرعون، أو تخمين جاء في نفسه بأنه سوف يولد طفل من بني إسرائيل يكون هو سبب نهاية فرعون، وهذا غيب من غيب الله عز وجل، لا يطلع عليه إلا الله عز وجل ومن أراد من المرسلين، لكن جاء في ذهنه هذا الأمر، فأوحى إلى زبانيته أن كل ولد ذكر يولد لا بد أن يقتل، ولا يبقى إلا النساء، ثم جاءت فترة خشي أن ينقرض شعبه؛ فصار يقتل سنة ويستبقي سنة أخرى، ومن عجائب قدرة الله عز وجل أن موسى ولد في السنة التي يقتل فيها فرعون الأبناء، حتى يكون أبلغ في التحدي، كما كان من التحدي أن يدخل موسى وهو طفل رضيع إلى بيت فرعون، ولذلك فإن الله عز وجل أراد أن يفرضه فرضاً عليه حتى يرى أن احتياطه لا ينفع ولا يرد من قضاء الله عز وجل وقدره شيئاً، فولد موسى عليه الصلاة والسلام، وشب في بيت فرعون، وألقى الله عز وجل عليه المحبة؛ فاحتضنته زوجة فرعون المؤمنة، وبقي هذا الطفل حتى أصبح رجلاً، فكان سبباً في نهاية فرعون. إذاً: هذه الآية لا يستفيد منها إلا المؤمنون.......


العلو في الأرض له نهاية مؤلمة


الآية الثانية: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ [القصص:4]، إذاً: التسلط على الشعوب، وأذية الأمم، والجلوس لهم بالمرصاد، هذا أخطر شيء في حياة الأمم؛ لأن الإنسان حينما يعصي بينه وبين ربه سبحانه وتعالى فهذه معصية تحت مشيئة الله عز وجل وإرادته، ما لم تصل إلى درجة الكفر أو الشرك، لكن إذا وصل إلى استذلال الأمم، وأذية المؤمنين، فهذا أخطر شيء في دمار الدول ونهايتها وسقوطها في أقرب وقت ممكن، ولذلك هذا هو الذي عجل نهايته، قال تعالى: يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ [القصص:4]. ولذلك فإننا نقول لكل زعيم يريد أن يحكم بحكم الله في هذه الأرض: أنه ليست مهنته استذلال البشر؛ لأن استذلال البشر معناه أن يضعف القاعدة التي يقوم عليها؛ لأنه لا يقوم سلطان لأحد في هذه الأرض إلا على قاعدة، وهذه القاعدة هم هؤلاء المؤمنون الأتقياء الصالحون، فحينما يستضعفون ويستذلون، وتسلط عليهم الأضواء، وتتابع أنفاسهم .. إلى غير ذلك، وتفسر وتؤول كلماتهم خلاف ما يريدون، ويؤدي ذلك إلى أن تنشأ أمة ضعيفة هزيلة لا تستطيع أن تدافع عن نفسها وعن كيان أمتها، يؤدي ذلك إلى ضعفهم وعدم قدرتهم على البقاء. وهذا هو الذي أحدثه فرعون .. أضعف القاعدة، واستذل الأمة، وصار يذبح الأبناء، ويستحيي النساء؛ لأنه كان من المفسدين، هو لا يريد الإصلاح، لو أراد الإصلاح لكان الأمر غير ذلك، إذاً: الذي حدث هو استذلال هذه الأمة فأدى ذلك إلى سقوط ملكه ونهايته. قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، وكلمة: (من المفسدين) دليل على أنه ليس هو وحده المفسد، فالمفسدون في القديم وفي الحديث موجودون، والعجيب أن هؤلاء المفسدين من طبيعتهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، قال الله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12].


الإمامة لا تنال إلا بالصبر واليقين


ثم بعد ذلك يقول تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [القصص:5]، أمة مستضعفة تتحول إلى أئمة، لكن متى تكون هذه الإمامة؟ بشرطين: الصبر واليقين، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، الأمم غير الموقنة .. غير المتأكدة من صحة المسار .. غير المقتنعة بالمنهج الذي تسير عليه لا تستطيع أن تصل إلى القيادة والريادة في هذه الحياة، الأمم التي لا تصبر نفسها، ولا تريد أن تتحمل المشاق في طريق هذه الحياة؛ لا تستطيع أيضاً ولا يمكن أن تحصل على قيادة هذه الحياة، أما هنا فالله تعالى يقول: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [القصص:5]، يتحول من مستضعف في الأرض إلى إمام، وحينما يكون إماماً عليه أن يعي الدرس الذي يكلف به، لا يعتبر الإمامة والسلطة منطلقاً لاستذلال الأمم، وإنما يعتبرها كما أخبر الله عز وجل عنها: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41]، في أنفسهم وفي غيرهم، وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41]، في أنفسهم وفي غيرهم. وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، هذه هي مقومات الإمامة، وهذه هي نتائج الإمامة في هذه الأرض، وهنا يقول: وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5]، الوارثون لمن؟ الوارثون للسلطان الذي سوف ينتهي عما قريب على يد هذا الطفل، الذي ولد وتربى في بيت فرعون، ثم هو أيضاً يريد أن يقضي على هذا الملك في لحظة واحدة كما هو في آخر القصة؛ لأن آخر القصة ونهاية القصة، كما أخبر تعالى: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ [الأعراف:137-138]، فجعل الله لهم خلاصاً ومنهجاً بعد أن أوقع الطاغية وجنوده شر موقع.


حفظ الله ورعايته لأوليائه تتدخل مهما كان الأمر


درس آخر: قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي [القصص:7]، هذا هو الأمر العجيب! عندما يخاف إنسان على إنسان لا يلقيه في اليم، وإنما يدخله في الغرفة ويخفيه، ويغلق عليه الباب، هذه هي القاعدة المعروفة عند الناس بالنسبة لمن يخاف على نفسه أو من يخاف على غيره، لكن هنا يقول تعالى: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7]، وهذا في غاية التحدي من الله عز وجل لهذا الطاغية ولكل طاغية، أي: أن قضاء الله عز وجل وقدره ينفذ مهما اتخذت الاحتياطات ضد هذا القضاء والقدر، وكم من إنسان كان محصناً في ملكه، محيطاً به حرسه وقوته، وهو بكامل قواه، ثم ينزل عليه قضاء الله عز وجل وقدره في أقوى ساعة يكون فيها متحصناً عن عدوه؛ لأن هذه أقدار وآجال مقدرة مؤقتة من عند الله عز وجل: فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49]. إذاً: الاحتياطات لا تنفع، الذي ينفع هو الاعتماد على الله من ناحية، مع اتخاذ شيء من الاحتياطات، لكن لا يعتمد على الأسباب، وإنما يعتمد على خشية الله عز وجل، وعلى حفظ الله عز وجل وحمايته، مع اتخاذ شيء من الاحتياطات، بشرط أن يسير هذا الإنسان سيراً مستقيماً. وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان يحكم عالماً كبيراً، كان ينام في المسجد، ما كان يحتاج إلى حرس، ويشهد له الزبرقان عدوه، لما وجده متوسداً بردة له في المسجد، وهو نائم في وسط الناس، وهو الخليفة، شهد له بالحق، وقال: يا عمر ! عدلت فأمنت فنمت، ولكن الذين لا يعدلون كيف يحيط بهم الحرس والجنود من كل جانب، ومع ذلك لا يمكن أن يحفظهم هؤلاء من قضاء الله عز وجل وقدره. فهنا يقول الله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي [القصص:7]، وإن كان في اليم؛ لأن الله تعالى هو الذي يحفظ الإنسان، فليس الذي يحفظه الأبواب المغلقة، والستور المرخاة، والحصون المحصنة .. إلى غير ذلك، وإنما الذي يحفظه هو الله عز وجل: فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، تصور يا أخي! وهو طفل يرضع تأتي البشارة من عند الله عز وجل لأمه، وهذا الإيحاء ليس كإيحاء الأنبياء، وإنما هو نفث في الروع بأنه سوف يرجع إليها مرة أخرى ولو ذهب بعيداً عنها، وسيكون أيضاً من المرسلين، بل هو من خيار المرسلين عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من أولي العزم الخمسة عليهم الصلاة والسلام.


الإثم على قدر المشاركة في الصد عن سبيل الله


قال تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص:8]، هل يمكن لأحد أن يلتقط طفلاً ليكون له عدواً وحزناً؟ لا يمكن ذلك، إذاً: آل فرعون حينما التقطوه ما كانوا يظنون أنه سوف يكون لهم عدواً وحزناً؛ بل كانت تقول امرأة فرعون لفرعون تجاه هذا الطفل: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص:9]، لكن الله تعالى حكم بأنه سوف يكون لهم عدواً وحزناً، وحكم بأن هذا الطفل سوف يسقط هذه الإمبراطورية العظيمة التي مضت عليها آلاف السنين، سوف يسقطها هذا الطفل بإذن الله عز وجل، وبقدرة الله عز وجل الغالبة، فاللام هنا ليست للتعليل كما يقول المفسرون، وإنما هي للصيرورة، أي: سوف يصير الأمر إلى أن يصبح هذا الطفل الذي يتربى في حجر فرعون عدواً لهم وحزناً، ثم ينهي هذا الظلم والطغيان الذي مضت عليه مدة طويلة من الزمن على يد هذا الطفل، حينما يبلغ سن الرجال ويوحي الله عز وجل إليه. يقول تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص:8]، وهذا درس آخر، فرعون هو الطاغية الأول، وهامان الذي كان وزيره، لكن ما مصير الجنود؟ قد يقال: الجنود إنما هم منفذون للأوامر، كما يفعله جنود كثر في أيامنا الحاضرة، يفتكون بالمؤمنين والعياذ بالله، وينفذون أوامر الطواغيت في الأرض، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله، قال: أنا تصدر لي أوامر فأنفذها، أنا بريء .. كيف يكون بريئاً والله تعالى يقول: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص:8]؟! إذاً: أنت حينما تنفذ أمر طاغوت في هذه الأرض إنما أنت كجندي من جنود آل فرعون الذين حكم الله عز وجل بأنهم ظالمون، كما أن فرعون وهامان كانوا ظالمين، من أكبر جندي إلى أصغر جندي .. من أكبر مسئول إلى أصغر مسئول، كلهم يشاركون الطواغيت في تنفيذ أوامر تنافي أوامر الله عز وجل، أو تؤذي المؤمنين؛ فإنهم يشتركون في الجريمة سواءً بسواء: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص:8]، إذاً: المسألة مسألة اشتراك ولو بكلمة، ولو بكتبة قلم، ولو بأقل من ذلك، ولو بإشارة، ما دام أنه قد ساهم في مساعدة طاغية من طغاة البشر؛ فلابد أن يساهم في الخطأ الذي اقترفه هؤلاء، ولا بد أن يساهم في الإثم، وأن يكون له نصيب كنصيب ذلك الذي يصدر الأوامر التي تنافي أوامر الله عز وجل، فالمسألة ليست مسألة تنفيذ أوامر ما دامت تتنافى مع أوامر الله عز وجل، وإنما المسألة مسألة خطأ مشترك يشترك فيه أكبر طاغوت في الأرض يصدر الأمر، إلى أصغر صعلوك يستطيع أن يساهم في تنفيذ هذا الأمر الذي يتنافى مع أمر الله عز وجل، قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا [القصص:8] جميعاً، كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص:8].


غلبة أمر الله وقدرته على كل القدرات


ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك حينما يرعى الله عز وجل هذا الطفل الصغير بعنايته ليكون هو رجل المستقبل، يقول الله عز وجل: وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص:9]، وهذه أول رحمة تنزل على هذا الطفل الصغير؛ لأنه وصل إلى داخل بيت فرعون، أصبح الآن لا مناص له من القتل، فرعون يقتل الأبناء الذكور، وهذا ذكر، وقد تكون هناك علامات موجودة في موسى، وإرهاصات تدل على أنه هو الذي سيقضي على هذا الملك الجبار العنيد، إذاً: ما هو العلاج؟ ألقى الله تعالى من أول وهلة المحبة في قلب امرأة فرعون، فطلبت من زوجها الطاغوت أن يستبقي هذا الولد من بين كل الأطفال الذين يقتلهم في كل لحظة، ممن يولدون من بني إسرائيل في تلك الفترة إلا هذا الطفل؛ لأن الله تعالى يريد له أن يبقى، وهذه من قدرة الله عز وجل الغالبة التي يقول الله عز وجل: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، فهذا من غلبة أمر الله عز وجل، ومن نفاذ حكمه الذي لا بد أن ينفذ في هذا الكون؛ حتى يكون ما أراده الله عز وجل. أما أم موسى فقد أصبح قلبها فارغاً، وهذه عاطفة لا تلام عليها أم موسى؛ لأنها عاطفة الأمومة التي تشعر بها كل أم تجاه طفلها، بالرغم من أن الله عز وجل قد أمنها وأخبرها أنه سوف يرجع إليها، لكن ضعف الشخصية لدى المرأة مع شدة العاطفة التي تشعر بها المرأة أكثر من الأب أو أكثر من إنسان آخر هي التي جعلتها يفرغ قلبها؛ لأنها تريد هذا الطفل، فخافت عليه، خصوصاً أنها علمت أن النهر سوف ينتهي به إلى دار فرعون، ولولا أن الله تعالى لطف بها لأبدت الأمر، لكنها أخفته، ثم رجع إليها.


تحقق وعد الله الذي وعده أم موسى


ثم يذكر الله عز وجل أن أخته قصته، فصارت تبحث عنه، فوجدته قد دخل في بيت فرعون، فكتمت أخته الخبر حتى لا يعلم من أين جاء هذا الطفل، ورحمة الله عز وجل تدركه مرة أخرى من أجل أن ينفذ هذا الأمر، قال تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ [القصص:12]، من أجل أن يرجع إلى أمه كان كلما قدم له ثدي ليرضع منه رفض، إلى أن جاءت أخته فوقعت عينها على هذا الطفل فقالت: ألا أدلكم على من يستطيع أن يرضعه؟ فأخذته إلى أمه، وأصبحت أمه ترضعه وتأخذ مالاً على ذلك، إضافة إلى أن عاطفتها أشبعتها بحضور هذا الطفل، فكسبت زيادة على طفلها مالاً شهرياً يصل إليها بسبب إرضاعها لهذا الطفل الذي جيء به من قصر فرعون. ثم بعد ذلك يقول الله تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [القصص:13]، ما هو وعد الله؟ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، فتحقق الوعد الأول وهو الرد إلى أمه، أما قوله: (وجاعلوه من المرسلين) فسوف يتحقق عما قريب.


مشاهد من قصة موسى عليه السلام وأخذ العبرة منها


ثم بعد ذلك يأتي دور موسى عليه الصلاة والسلام لما بلغ سن الرجال، ولكن لا بد للرسالة ولا بد للداعية ولمن يريد أن يقنع الناس بهذا الدين وبأهمية هذا الدين حتى يستجيب الناس له، لابد أن يكون له وزن في المجتمع، وأن يقدم الخدمات لهذا المجتمع، حتى يستطيع أن يملك قلوب الناس، فالداعية الذي لا يقدم خيراً للناس قد لا يستجيب الناس له كل الاستجابة، لكنه حينما يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، يبحث عن الحق ليحقه في هذه الأرض، وعن الباطل ليبطله، مثل هذا هو الذي يستحق أن يكون مصلحاً في هذه الحياة. ......
المشاهدات 6672 | التعليقات 3

تكملة

موسى عليه السلام ونصرته للإسرائيلي


ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام أعطاه الله قوة في جسده، ومع هذه القوة أعطاه قوة أيضاً في شخصيته، فكان يبحث دائماً عن إحقاق الحق وإبطال الباطل، فحينما يرى مظلوماً يسعى قدر استطاعته إلى أن يرفع الظلم عن المظلوم؛ من أجل أن يكسب سمعة في هذا المجتمع، حتى يكون ذلك مقدمة لرسالته، وهذا في كل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ومعلوم من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الرسالة كيف كان يقدم من الخدمات للناس، حتى قالت خديجة : (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر) عندما شهدت له رضي الله عنها، وهذه هي صفته كما قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، حتى كان أهل مكة بالرغم من كراهيتهم له يسمونه الصادق الأمين، لكن ذلك كان قبل الرسالة، أما بعد الرسالة فقد أصبح كاذباً خائناً في نظرهم، وهذه قاعدة مطردة، أي إنسان لا يريد أن يغير أوضاع الناس فتجده في كثير من الأحيان محبوباً عند الناس، لكن إذا أراد أن يغير أوضاعاً مألوفة فإنه يصبح خائناً وساحراً وكاهناً وكاذباً .. إلى غير ذلك. فموسى عليه الصلاة والسلام كان لا يتحمل الضيم، وكان يريد أن ينقذ المستضعفين في هذه الأرض، فذات يوم وجد قبطياً من جنود فرعون يتنازع مع إسرائيلي من قومه، وكان ذلك القبطي ظالماً، فضربه موسى ضربة صغيرة، فسقط ومات بقوة موسى عليه الصلاة والسلام, لكن موسى ندم ورأى أنه قد أخطأ واستغفر الله تعالى. وفي اليوم التالي وجد صاحبه الإسرائيلي يتنازع مع قبطي آخر، فأراد أن ينتقم له مرة أخرى؛ لأنه يرى أنهم مظلومون فقال: يا موسى! أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ [القصص:19]، فكشف سراً ما كان له أن يكشفه، وقد كانوا يبحثون عن الذي قتل القطبي، فانكشف السر؛ مما اضطر موسى عليه الصلاة والسلام إلى أن يغادر أرض مصر هارباً إلى بلاد الشام, من أجل أن يفر بنفسه عليه الصلاة والسلام حتى يبتعد عن أعين القوم، أما القوم فقد علموا أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس؛ فصاروا يبحثون عنه، فجاءه رجل وحذره وقال: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:20-21], وهذا الخوف فطري ليس خوفاً من غير الله عز وجل، وإنما هو خوف فطري لا يؤاخذ عليه الإنسان؛ لأن الإنسان لا يؤاخذ على الخوف الفطري، فحتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإن كانوا أشجع الناس وأقرب الناس إلى الله عز وجل، لكن الخوف الفطري جبل عليه كل الناس، لكن هذا الخوف ميزته في الأنبياء والمصلحين أنهم لا ينثنون عن مرادهم خوفاً من البشر، وإنما قد يختفون عن أعين الناس، كما اختفى الرسول صلى الله عليه وسلم في غار ثور خوفاً من أعين قريش, وكما هرب موسى عليه الصلاة والسلام من أرض مصر خوفاً من آل فرعون. هنا يقول الله عز وجل عن موسى عليه الصلاة والسلام لما ذهب: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:21]، وهذه ميزة يجب أن يتميز بها المصلحون، كما هي ميزة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، بل هي ميزة يجب أن تكون لكل الناس ولجميع المؤمنين, في حال الشدة يجب الفزع إلى الله عز وجل, والدعاء والتضرع بين يدي الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى كريم، فهو الذي يقول: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61]، وبمقدار ما يُظلم الجو أمام الإنسان ما دام أنه قد أحسن العلاقة مع الله عز وجل فإن الله تعالى يخلصه، ولذلك فالله تعالى خلص موسى من آل فرعون، فالله سبحانه وتعالى كريم، إذا تعرف إليه الإنسان في حال الرخاء فإن الله تعالى يتعرف إليه ويعرفه في حال الشدة، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة): وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ [الزمر:61]، ودروس كثيرة في القرآن والسنة، أمم يقعون في أعوص المشاكل وفي أحلك الظروف؛ لكن لهم حسنات سابقة لاسيما إذا كانت هذه الحسنات بينهم وبين الخلق؛ لأن الحسنات على نوعين: حسنات بينهم وبين الله عز وجل يكسبون فيها أجراً، لكن هناك حسنات أخرى يقدمونها كخدمة لهؤلاء الناس، ولإصلاح أوضاع الناس، فإن الله عز وجل قد يعجل لها شيئاً من الأجر في الحياة الدنيا، فيخلصهم من أمور خطيرة تحيط بهم.


خروج موسى عليه السلام إلى أرض مدين


إن المسلم قد يقع في مأزق من المآزق أمام عدو من أعدائه في هذه الحياة، لكن له سيرة حسنة مع إخوانه المسلمين, فالله عز وجل قد يعجل له شيئاً من الجزاء، فيخلصه من هذه المشكلة في هذه الحياة، ولذلك فموسى توسل إلى الله عز وجل وقال: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:21]، فنجاه الله تعالى من القوم الظالمين، ثم اتجه في طريقه إلى أرض مدين, ولما اتجه في طريقه إلى أرض مدين -وهي في حدود بلاد الشام- رأى ظلماً آخر، وهذا الظلم الآخر للمرأة المسكينة؛ لأن المرأة لا تظلم إلا في ظل جاهلية، لا تظلم في ظل دين, فامرأتان تذودان معهما غنم، وهذه الغنم لا تشرب من البئر حتى يصدر الرعاء، ما هو السبب؟ السبب أن اللاتي ترعى هذه الغنم هن امرأتان ضعيفتان، أما البقية فكانت مع رجال أقوياء, فكانت المرأة مغلوبة، ولذلك فإن موسى عليه الصلاة والسلام رأى أن هذا حق قد هضم، وأن هاتين المرأتين قد ظلمتا في ظل هذه الجاهلية، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ [القصص:24].


أخذ العبرة من قصة المرأتين اللتين سقى لهما موسى.


ولعلنا نستطيع أن نأخذ من قصة هاتين المرأتين: أن المرأة لا يجوز لها أن تزاحم الرجال؛ لأن القاعدة الاصطلاحية الشرعية أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولذلك يقول الله تعالى: وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِم [القصص:23]، أي: في مكان بعيد، امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ [القصص:23] تذودان الغنم، إذاً: هي لا تزاحم الرجال، لكن كيف خرجت هاتان المرأتان هذا المشوار الطويل من بيت شعيب -على رواية طائفة من المفسرين- أو من بيت آخر الذي هو صاحب مدين، على خلاف بين المفسرين؟ السر في ذلك أنها ضرورة، فأبوهما كما قالتا: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]، ولهذه الضرورة خرجت المرأة. إذاً: نستطيع أن نقول من خلال هذه الآية: إن المرأة لا تخرج إلا للضرورة، سواء كان لرعي الغنم أو لقضاء حاجة؛ لأن المرأة يجب أن يقوم الرجال بكفاية شئونها وقضاء حاجاتها، لكن حينما تضطر إلى الخروج لتقضي حاجة من الحاجات، فإن عليها أن تكون في منأى بعيداً عن الرجال حتى لا تختلط بهم، هذه هي سنة الله تعالى في هذه الحياة، وهذه هي الطريقة المثلى التي يجب أن تسلكها المرأة؛ حتى لا تحدث فتنة في المجتمع، ولهذا قال: (من دونهم امرأتين تذودان) أي: تذودان الغنم بعيداً عن الرجال. وعلى هذا نقول: إن المرأة إذا اضطرت إلى الخروج من بيتها لحاجة اضطرارية لا مناص منها، فإن عليها أن تكون في منأى عن الرجال، هذا هو حكم الله عز وجل، وهذا هو شرع الله تعالى للمرأة دائماً وأبداً في كل شرائع المرسلين عليهم الصلاة والسلام، أما في شريعة الغاب وفي شريعة المفسدين في الأرض فيقولون: لا، المرأة يجب أن تكون بجوار الرجل سواء بسواء، مجتمع معطل لا يتنفس إلا برئة واحدة! حتى في وقت فاض فيه عدد الرجال، وأصبح الرجال يعجز أحدهم عن الحصول على وظيفة، لا بد أن تكون المرأة تعمل، ولا بد أن تكون بجواره، ولا بد أن يكون هناك اختلاط، حتى لقد رأينا في دنيا الناس اليوم النساء تنافس الرجال على الوظيفة، لو دخلت مستشفى من المستشفيات مثلاً، وعملت إحصائية، أيهما أكثر الرجال أم النساء في مجال التمريض؟ لوجدت أن النساء أكثر بكثير من الرجال، حتى كأن الرجال فقدوا، فأصبحت المرأة هي التي تتولى خدمة الرجل، إضافة إلى خدمة المرأة، فهي التي تعطيه الحقن، وهي التي تناوله العلاج .. إلى غير ذلك، بالرغم من وجود رجال عاطلين في مجتمعات الأمة الإسلامية، وأعجب من هذا أن نجد النساء يعالجهن رجال، إذاً: المسألة ليست مسألة حاجة وضرورة، ومسألة إجبارية, المسألة مسألة انحراف أصاب هذه الأمة, وهذا الانحراف هو الذي سبب هذا الخلل الاجتماعي الذي أصاب أمتنا اليوم. وعلى ذلك نقول: القاعدة أنه يجب أن يكون للرجال رجال، وللنساء نساء، سواء كان في باب العلاج، أو في التعليم، أو في أي أمر من الأمور، أما هذا الاختلاط المشين الذي يدعو إليه أعداء الإسلام فلا يجوز، وفي شرع من قبلنا بالرغم من أنها بنت نبي صالح تستطيع أن تحفظ نفسها، وتكون تربيتها أقوى وأجود، بالرغم من ذلك: وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ [القصص:23]، فبقيتا بعيداً عن الرجال, إذاً: هذه هي القاعدة الشرعية التي تتكرر في كل شرائع الأمم إلى يوم القيامة، أن تكون المرأة بعيدة عن الرجال، لكن في شريعة المفسدين في الأرض من العلمانيين والمتمردين والكفرة والفجرة يقولون: لا، الرجل والمرأة شيء واحد، ما هذا التخوف؟ لماذا نخاف على المرأة من الرجل؟! أليس: النساء شقائق الرجال؟! لماذا لا تزاحم الرجال؟! تختلط معهم في مدرج الجامعة، وفي الفصول الدراسية، وفي مكاتب الأعمال وغيره، حتى في المهن والحرف التي لا تصلح للنساء، ونتأكد أنها لا تصلح إلا للرجال!! إذاً: ذاك هو شرع الله، وهذا هو شرع البشر الذين تنكبوا عن شرع الله عز وجل، فالمسألة -أيها الإخوة- خطيرة جداً؛ لأن هؤلاء تمردوا -أي: الذين يريدون أن يخلطوا بين الرجل والمرأة في كل أمر من الأمور أو في جل الأمور- تمردوا على شرع الله عز وجل في كل الشرائع السماوية، فضلاً عن شريعة الإسلام التي أولت هذا الجانب أمراً عظيماً من الاهتمام: وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ [القصص:23]، فكأن هذا شيء مسلم، أن المرأة لا تزاحم الرجال، ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام ما سأل: لماذا لا تسقيان حتى يصدر الرعاء؟ لأن القاعدة متفق عليها، فهو يعلم عليه الصلاة والسلام -وهو قبل النبوة، قبل أن يكون نبياً- أن المرأة لا تخالط الرجال؛ لأن هذه فطرة بشرية، ولأن اختلاط المرأة بالرجال انحراف عن هذه الفطرة البشرية التي فطر الله عز وجل الناس عليها. وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]، هذا هو العذر الذي أبدته هاتان البنتان، حتى لا يستغرب موسى لماذا الناس كلهم رجال مع أغنامهم إلا هاتان البنتان امرأتان، فالعلة: ضرورة، وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]، ثم ينتصر عليه الصلاة والسلام للحق فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلّ [القصص:24]، فأخذ نصيبهما بالقوة من الماء، حتى سقتا الغنم، فرجعت البنتان إلى أبيهما شعيب عليه الصلاة والسلام -على رواية- فاستغرب كيف رجعت البنتان مبكرتين في هذا اليوم؟! وكيف استطاعتا أن تسقيا مع زحام الرجال وبنتاه لم تجر العادة بأن يخالطن الرجال ويزاحمن الرجال؟! فأخبرتاه بالقصة، وأنه جاء رجل تظهر عليه سيماء الخير والصلاح والاستقامة والقوة أيضاً، فسقى لهما، أما موسى عليه الصلاة والسلام فـ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ [القصص:24]، إلى ظل شجرة، وبدأ يتضرع بين يدي الله عز وجل لا يدري أين يذهب؟ ولا يدري من أين يأكل؟ ليس بيده طعام، وليس بيده مال يشتري طعاماً؛ لأنه هارب فار بدينه من أرض الظلم والطغيان. فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]، تضرع بين يدي الله عز وجل، والله عز وجل لا يضيع أجر المحسنين. أما أبو البنتين فأرسل إحدى البنتين -وهذه ضرورة أخرى- لتأتي بهذا الرجل الذي سقى لهما: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25]، لتنتبه المرأة، ( عَلَى اسْتِحْيَاءٍ )، فالحياء أعظم صفة للمرأة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة خلق، وخلق أمتي الحياء، وإن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً). إذاً: ما الفرق بين وضع هذه البنت التي جاءت على استحياء وبين كثير من النساء اللواتي يملأن أسواق العالم الإسلامي دع عنك العالم الكافر؟! والله إنه في كثير من البلاد الإسلامية لا أحد يستطيع أن يفرق بين المرأة المسلمة والكافرة! الحياء فقد منذ زمن بعيد! لكن الذي حدث بعد فقد هذا الحياء فساد عريض؛ لأن الحياء الذي هو لباس هذه الأمة وكساء نساء هذه الأمة حينما فقد أصبح هناك عراء عجيب, فقد الحياء، وانتشر الزحام، ووصل الأمر إلى أن ترى نساء تنتسب إلى الإسلام على شواطئ البحار عارية أو شبه عارية تماماً! فأين الحياء الذي تتميز به الأمم؟! لا في هذه الأمة فحسب بل حتى في الأمم السابقة، والذي إذا فقد في أمة من الأمم تصبح هذه الأمة بعيدة عن رعاية الله عز وجل.


موسى عليه السلام يذهب إلى والد المرأتين فيؤمنه


فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25], ثم يذهب موسى عليه الصلاة والسلام إلى صاحب مدين ويخبره بالقصة, فيطمئنه صاحب مدين بأنه لا خوف عليه بعد اليوم، انتهى عصر الخوف بالنسبة لموسى عليه الصلاة والسلام، وأنه دخل في أرض أمان بأنه من الآمنين كما شهد الله عز وجل؛ لأن الأمن لا يأتي إلا مع الإيمان، ومع طاعة الله عز وجل: إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ [القصص:31]، إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ [النمل:10]، وهنا يقول له صاحب مدين: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25] الذين هم آل فرعون. إذاً: ما هو السر في هذا الأمن؟ وأين يكون الأمن؟ وكيف تبحث الأمم عن هذا الأمن؟ وفي أي مكان؟ إن الأمن مع الإيمان، كما قال الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]. وعلى هذا فإن أي حاكم يريد أن يحكم هذا العالم ويريد أن يأخذهم بطريق القوة ليقرر قواعد الأمن بالقوة فإنه لن يستطيع، وأي حاكم يحكم هذا العالم يريد أن يقرر قواعد الأمن والاستقرار من خلال اللهو واللعب والمسرحيات والترف والنعيم والفساد وإغداق الأموال فلن يستطيع؛ لأن هذه الشعوب مهما بلغت من الترف والنعيم والفساد لا بد أن تستيقظ في يوم من الأيام كما استيقظت في أيامنا الحاضرة، ثم ترفض هذا النعيم وهذا الترف والمتاع، ثم لا ينتبه الذين أذابوها في مجتمع مترف إلا على الجماجم والأشلاء، وهذا هو الذي يحدث في عالمنا اليوم. كذلك من يريد أن يحكم هذا العالم ويقرر قواعد الأمن بقوة الحديد والنار فإنه لن يستطيع ذلك، فإن الشيوعية قدمت ستين مليوناً من البشر في فترة وجيزة في عهد إستالين، تريد أن تقرر قواعد الأمن في بلادها، فما استطاعت أن تقرر قواعد الأمن أبداً، ثم سقطت الشيوعية وعاد الناس إلى دينهم وفطرتهم الصحيحة. وفي أفغانستان اثنا عشر عاماً والحرب تدمر المسلمين، وقتل ما يزيد على مليون مسلم، ودمرت منازلهم وشردوا، وما استطاعت الشيوعية في أفغانستان أن تثبت أقدامها فضلاً عن أن تقرر قواعد الأمن. إذاً: ما هو الطريق للأمن؟ الطريق لا تخف؛ لأنك رجل سيرتك معروفة: نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25]، ولذلك خاض العالم حربين عالميتين الحرب العالمية الأولى والثانية، وقتل فيها أكثر من ثمانين مليوناً من البشر، وشوه فيها أكثر من ذلك، ودمر فيها من الأموال والثروات ما لا يحصيه إلا الله عز وجل؛ بحثاً عن الأمن، وما استطاعوا أن يقيموا قواعد الأمن في بلادهم، ولكن إذا أرادت أمة أن تثبت الأمن في بلادها فإن عليها أن تسعى إلى أن تثبته من خلال تربية الشعوب على طاعة الله عز وجل، تفتح المجال للدعوة إلى الله عز وجل، تشجع الدعاة وتعطيهم الحرية الكاملة، ادعوا إلى الله .. ربوا الشعوب .. فإذا تربت الشعوب على طاعة الله وعلى أيدي الدعاة والمصلحين؛ حينئذ يتحقق الأمن لهذه الأمة أياً كانت الظروف المحيطة بها، ولو كان كل الناس يحيطون بها من كل جانب، ولو كان الأعداء يتكالبون عليها من كل فج عميق، ما دامت قد أقامت شرع الله عز وجل في الأرض، وما دامت قد أقرت قواعد الدعوة إلى الله عز وجل، وأعطت الدعاة الحرية لأن يدعوا الناس إلى دين الله عز وجل دعوة صحيحة، وأن يقودوهم إلى طريق السعادة، هنا يتحقق الأمن؛ لأن الله تعالى يقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، ولذلك يقول الله تعالى هنا عن رجل مدين أنه قال لموسى: (لا تَخَفْ)، حينما علم سيرته، نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25].


اتصاف موسى بصفة القوة والأمانة


وكان موسى عليه الصلاة والسلام يتصف بصفتين هما صفتا العامل الناجح, فعلم رجل مدين -وأنا أقول: رجل مدين؛ لأن المفسرين اختلفوا هل هو شعيب أو غيره؟ فنريد أن نخرج من الخلاف بهذا الاسم- علم من خلال ابنته التي جاءت به أنه رجل شريف في خلقه وشرفه، وأنه رجل قوي في جسمه ودينه أيضاً. إذاً: هو يستحق أن يكون عاملاً عند رجل مدين، أما بالنسبة لشرفه وأمانته وعفته فيقول المفسرون: كانت الفتاة تسير أمامه تدله على الطريق، فصار الهواء يرفع ثوبها؛ فخشي أن يرى شيئاً من جسدها، فقال: تسيرين ورائي وأنا أكون في الأمام، فأصبح رجلاً شريفاً يصلح لهذا الأمر. أما بالنسبة للقوة فهو الذي استطاع أن يدفع الناس كلهم رعاة الغنم من أجل أن يسقي غنم رجل مدين، ولذلك مدحه الله تعالى بالصفتين: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، إذاً: القوة والأمانة هما الصفتان اللائقتان لكل أجير، أياً كان هذا الأجير، سواء كان عاملاً أو غيره، فيجب أن نختار القوي الأمين، إذاً: ليعلم الذين يأتون بالكفار إلى بلاد المسلمين، ويعتبرون أن عندهم من الأمانة ما ليس عند المسلمين أنهم خاطئون، وأنهم قد تعرضوا لغضب الله عز وجل؛ لأن هذا يتنافى مع الشرط الذي اشترطه الله عز وجل لمن يتولى أمراً من الأمور أياً كان هذا الأمر، ولو كان حرفة، ولو كان حراسة، ولو كان خدمة أياً كان، فكيف إذا كان أمراً مهماً؟ وكذلك بالنسبة لمن يتولى أمراً من أمور المسلمين أياً كان هذا الأمر، سواء كان رئيساً للدولة، أو أصغر جندي من جنود الدولة، أو أي مسئول، وزيراً كان أو أميراً، يجب أن يتصف بهاتين الصفتين: القوة والأمانة، ويجب أن تكون هذه القوة ليست خاصة بالقوة الجسمية، وإنما أيضاً في القوة المعنوية والعقلية وقوة الإرادة، وكذلك الأمانة والهدى والتقى والاستقامة. وهنا نقول: إن أبرز صفتين من صفات من يتولى أمراً من الأمور أياً كان هذا الأمر: أن يكون قوياً، وأن يكون أميناً, أما إذا كان ضعيف الشخصية, فماذا تستفيد الأمة من الرجل الصالح إذا كان ضعيف الشخصية؟ يغلب على أمره، لا يستطيع أن يحل مشكلة من مشاكل الناس، وماذا يستفيد الناس من الرجل الخائن الذي فقد الأمانة حينما يتولى أمراً من أمور المسلمين؟! ولذلك نشكو إلى الله عز وجل عدم توفر هذين الشرطين في كثير ممن يتولى أمور المسلمين في أيامنا الحاضرة، إما أن يكون قوياً، لكن قوته إنما تكون تسلطاً وجبروتاً ليذل من أعز الله أو ليعز من أذل الله، وإما أن يكون ضعيفاً لكنه ذو أمانة، ونحن لا نستفيد من أمانته ما دامت هذه الأمانة تتسم بالضعف, فالصفتان لا بد من أن تشترك كل واحدة منهما مع الأخرى؛ حتى يكون من يتولى أمر المسلمين قوياً أميناً. ولذلك: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص:26]، أي: لرعاية الغنم؛ لأننا نحن نساء، لا نريد أن نخرج كل يوم من الصباح إلى المساء نرعى الغنم، نحن نساء يجب أن نؤدي الدور المنوط في أعناقنا داخل البيت؛ لنقوم بإعداد البيت وتربية الأطفال والنشء، أما هذه الغنم فيجب أن يتولاها رجل، وهذا الرجل هو الذي يجب أن يتولى دائماً الأمور التي تكون خارج البيت، كما هي الفطرة البشرية التي فطر الله عز وجل الناس عليها, وهذا الرجل يتصف بصفتين مهمتين هما: القوة والأمانة: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]. إذاً: لا بد أن يفهم الناس ما هي مواصفات وما هي شروط الأجير؟ ونقول: الأجير؛ فإن رئيس الدولة يعتبر أجيراً؛ وإن الجندي الصغير والخادم الصغير يعتبر أجيراً، وما بين ذلك يعتبر أجيراً للمسلمين يتولى أمر المسلمين، فلا بد أن تتوفر الأمانة والقوة، فإذا فقدت إحداهما لا تنفع الأخرى، وإذا فقدت الاثنتان فإن المصيبة تكون أشد وأعنف، ولذلك لا بد من القوة والأمانة، أما قوة بدون أمانة فإنها تحدث لنا السفاحين في الأرض والسفاكين للدماء، وأما أمانة بضعف فإنها تجرئ على الأمة الإسلامية أعداءها الذين يتربصون بها الدوائر، إذاً: لا بد من هاتين الصفتين: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26].


موسى عليه السلام يتسلم رعاية الغنم مقابل الزواج



ثم بعد ذلك تبدأ الأجرة، ويعمل العقد بين موسى عليه الصلاة والسلام ورجل مدين على ثمان سنين أو عشر سنين، ويكون الخيار فيه لموسى عليه الصلاة والسلام، ويكون المهر هو هذه الأجرة، وهذا دليل على أن المهر واجب من واجبات النكاح، وأن المرأة في الأديان عزيزة كريمة، وأن المرأة لا تسقط في مهرها إلا حينما تسقط أخلاقها، وهذان مثلان: المثل الأول: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27]، ثمان سنين، انظر إلى كثرة المهر؛ لأنها امرأة كريمة تستحق هذا المبلغ، ثم تعال إلى بلادنا هنا، كثير من الناس يتكلم عن غلاء المهور، صحيح هناك غلاء في المهور، لكن ما هو السر في غلاء المهور؟ لأن هذه المرأة في بلادنا مصونة، لكن اذهب إلى بريطانيا تجد المرأة بنصف جنيه إسترليني، يتزوج الإنسان امرأة، ولربما هي تبذل هذا المهر إذا عجز الزوج عنه؛ لأنها امرأة ساقطة, ونحن حينما نقول هذا الكلام لا نريد أن نشجع غلاء المهور، فإن غلاء المهور يعتبر خللاً في نظام المجتمع، ويؤدي إلى عزوبة وعنوسة في المجتمع، لكن نقول: وجود المهور مرتفعة في بلد ما يدل على كرامة المرأة وعزتها, ولذلك بمقدار ما تنحدر المرأة إلى الحضيض ينحدر معها المهر؛ لأنها تصبح امرأة لا قيمة لها ولا وزن, وبمقدار ما تتمسك هذه المرأة بدينها وبشرفها يكون نصيبها من المهر أكثر، وقد ضربت مثلين: المثل الأول: في البلاد التي سقطت فيها المرأة حتى أصبح فيها نوادي للعراة -نعوذ بالله- وأصبح زواج الذكر بالذكر في مثل بريطانيا يبيحه القانون والنظام بعقد شرعي نظامي كما يقولون، وفي البلاد التي تحافظ محافظة بمقدار ما تحافظ يكون نصيبها من غلاء هذه المهور, ولذلك قال تعالى: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ [القصص:27]. وهنا لابد أن ينتبه إخواننا أصحاب المؤسسات المعمارية والتجارية, فإننا في كل لحظة توجه إلينا أسئلة من عمال مساكين جاءوا من بلاد بعيدة هم مسلمون وأتقياء، جاءوا ليعفوا أنفسهم، وليرتزقوا الله عز وجل في هذه البلد بلد الخيرات والنعيم، وبلد الاستقامة, ومن أجل أن يحصلوا على لقمة العيش، من أجل أن يقيتوا شيوخاً وعجائز وأطفالاً وأرامل، ثم إذا بهم يفاجئون ببعض أصحاب المؤسسات في بلادنا يستغلون هذا العامل كل استغلال، ولربما يفرض عليه خمسين بالمائة من دخله مقابل أن يكفله, وربما يكون بالراتب ولا يعطيه الراتب، كثير من الشكاوى تصل إلينا من العمال ضد أصحاب المؤسسات، خصوصاً الذين يأخذون العمال ويتركونهم, يجلس في بيته نائماً ويستغل هذه الفرصة، وهي أن الدولة أعطته فرصة لأن يكون كفيلاً لهؤلاء الفقراء، ثم يأخذ أكثر ما يكسبون، ثم يرجعون إلى بلادهم فقراء، حتى إن طائفة منهم يأتون يطلبون أجرة العودة إلى بلادهم! هذا ليس من صفات المؤمنين، ومنهج المرسلين خلاف ذلك, والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة)، من هم الذين يخاصمهم الله عز وجل؟ ومن يستطيع أن يخاصم الله؟! ومنهم: (رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)، بأي شيء يا أخي! تستحل مال مسكين كان يكدح ليله ونهاره من أجل أن يحصل على لقمة العيش ليقيت نفسه وأطفاله وذريته وأهله، وأنت الرجل الذي أنعم الله عليك في بلاد الخيرات، وتنام في بيتك لتأخذ النصف وربما الثلثين من دخل هذا المسكين، وربما يكون مبلغاً مقطوعاً قد لا يحصل العامل على هذا المبلغ، وقد يحصل عليه فقط دون أن يكون له وافر كسب؟! فهنا قال لموسى: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ [القصص:27]، هذا هو النظام الذي يجب أن يسلكه الناس في معاملة العمال والمساكين. هذه من صفات المستأجر مع الأجير: (وما أريد أن أشق عليك)، ثم يقول المستأجر: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27], فالمسألة ليست أمراً فقط يقوم به المستأجر، وإنما حتى الأجير يجب أن يكون من الصالحين, ويجب أن يؤدي الدور الذي من أجله استؤجر ويؤدي العمل؛ لأنه حينما يؤدي العمل يكون قد أبرأ ذمته أمام الله عز وجل، وأخذ رزقاً حلالاً، وهي هذه الأجرة التي يأخذها مقابل هذا العمل، فالأول لا يشق على الأجير، والأجير يجب أن يكون من الصالحين أي: يؤدي العمل كما يرضي الله عز وجل.


إتمام موسى عليه السلام للأجل


ثم بعد ذلك قضى موسى الأجل، كما أخبر الله عز وجل: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ [القصص:29], فيجب الوفاء بالعقود، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1], فالوفاء بالعقود أمر طبيعي، وواجب يجب على المسلم أن يحافظ عليه، ويجب الوفاء بالشروط أياً كانت هذه الشروط، ما دامت لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)، أما الشروط التي لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً؛ فإنه يجب الوفاء بها أياً كانت هذه الشروط، سواء كانت بين الزوجين، أو بين الأجيرين، أو بين أي واحد من الناس؛ لأن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1], وعلى هذا نقول: إن الأمة الإسلامية مطالبة بأن تطبق هذا القرآن منهج حياة، فليست قصصاً تتلى، وليست أشياء مسلية، وإنما هي أحكام يجب أن تنفذ، وحينما يقص الله عز وجل علينا قصة أمة من الأمم يقول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111]، فهذه العبرة يجب أن تؤخذ كمنهج حياة لأمة من الأمم, والقاعدة الشرعية أن منهج المرسلين عليهم الصلاة والسلام مع الأمم هو منهجنا، لا يختلف إلا إذا جاء شرعنا بخلاف ذلك, فإذا جاء شرعنا بخلاف ذلك فإن شرعنا يتقدم, وإذا وافق شرعنا ولم يأت شرعنا بخلاف ما جاءت به الشرائع السابقة فإن ذلك يجب أن يكون منفذاً، ولذلك هذا القرآن خلق عظيم، كما قال الله عز وجل: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وفسرته عائشة رضي الله عنها في قولها حينما سئلت عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن)، والمسلم حينما يقرأ القرآن عليه أن يأخذ منهج حياته من كتاب الله عز وجل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين.



دروس وعبر من قصة موسى وفرعون (2)

مراحل مصارعة موسى عليه السلام لفرعون

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة! هذه حلقة من حلقات (من نبأ المرسلين)، وهي الحلقة الثانية بالنسبة لسيرة نبينا موسى عليه الصلاة والسلام مع أكبر جبار عنيد في الأرض، أنكر الألوهية، وادعى لنفسه الربوبية، وبطش في الأرض، وعاث في الأرض فساداً، ولكن نهايته كما قال الله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137]. وهذه النهاية هي نهاية كل جبار عنيد، وكل طاغوت يريد أن يبطش بعباد الله، ويريد أن يستذل من أعزه الله وأن يعز من أذله الله، ولربما تطول الجولة لطغاة ووحوش البشر، ولكن الله عز وجل كما قال عن نفسه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]. وقصة موسى مع فرعون قصة طويلة، كما عرفنا الجزء الأول منها، والجزء الأول يعود كله إلى إعداد موسى عليه الصلاة والسلام إعداداً عجيباً، يبدأ من ولادته في فترة كان فرعون يقتل الرجال ويستحيي النساء، ويتحدى الله تعالى -كما مر معنا في الحلقة السابقة- أيما تحدٍ، قال تعالى: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7]، ثم يتحداه: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص:8]. ثم يكون الصراع المؤقت بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين فرعون .. إلى أن فر إلى ديار مدين وبقي هناك بضع سنين، ثم رجع إلى ذلك الطاغوت وهو يحمل الرسالة من عند الله سبحانه وتعالى، وهو النصف الثاني من الحديث عن موسى وفرعون، يبدأ بقول الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص:29]، ولعلكم خلال الآيات التي سمعتموها أدركتم كيف أن الإيمان يفعل أفاعيله بالرجال، وأن الإنسان ليعجب كل العجب وهو يسمع أن السحرة الذين استقطبهم فرعون من كل أقطار مصر، حتى قال بعض المفسرين: إن عددهم بلغ مائة ألف، كل جاء بما عنده من السحر، أنهم في اللحظة الأولى يقولون: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء:44]، وبعدها بلحظات يقولون: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72]، وحينئذ نعلم أن الإيمان فطرة في هذه القلوب، وأن الله سبحانه وتعالى قد استودع في النفوس البشرية، بل في نفوس مخلوقاته سبحانه وتعالى هذا الإيمان، كما قال عن نفسه سبحانه وتعالى: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]. ثم إنك لتعجب كل العجب وأنت ترى هؤلاء السحرة الذين ما عرفوا الله عز وجل إلا في لحظات، وما عبدوه إلا في سجدة واحدة فقط، ثم يوجه إليهم هذا الإخبار الشديد، وهذا التخويف والإرهاب من طاغية هو ينفذ في الحقيقة كل ما يقوله، فيقول لهم: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه:71]، وفعلاً هذه أخطر وسائل القتل والتصليب والتقطيع، ولكن الإيمان أمره عجيب! لا أحد يستطيع أن يقف في وجه الإيمان حتى ولو كان إيماناً حديث العهد وجوده في نفوس هؤلاء الناس؛ لأن أصله -وهي الفطرة- موجود ومفطور عليه كل الناس، ولذلك فإنهم: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا [طه:72] تغير الأسلوب، فقد كان الحلف: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ)، فأصبح بعزة الله سبحانه؛ فهو (فطرهم) أي: خلقهم فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72]. فانظر يا أخي! السحرة لم تمر على إيمانهم إلا لحظات، إذاً: كيف بالذين ولدوا على الفطرة؟! وكيف بالذين عاشوا في بيوت الفطرة وفي أرض الفطرة لو تعرضوا لمثل هذه الفتن أو لأقل من هذه الفتنة، ماذا سيفعلون؟ وماذا سيقولون؟ نستطيع أن نأخذ هذه المرحلة من مرحلة حياة موسى عليه الصلاة والسلام وهو يصارع هذا الطاغوت الجبار العنيد على عدة مراحل من هذه الآيات التي ذكرها الله تعالى.



تحرير موسى عليه السلام بني إسرائيل من العبودية



أولا:ً موسى عليه الصلاة والسلام وسائر المرسلين ما جاءوا لهذه الحياة من أجل أن يعلموا الناس العبادة لله عز وجل فقط، وإنما جاءوا أيضاً من أجل أن يحرروا النفوس البشرية من الخضوع لغير الله عز وجل، ولذلك فإن منهج المرسلين -وهو أيضاً منهج المصلحين إلى يوم القيامة دائماً وأبداً- هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ثم هو أيضاً تحرير النفوس البشرية وإنقاذها من الخضوع لغير الله عز وجل، ومن أجل ألا تستغل هذه النفوس المؤمنة لغير الله عز وجل، ولا تنحني لغير الله عز وجل؛ ولذلك نجد أن منهج موسى عليه الصلاة والسلام في أول مقابلة يقابل فيها هذا الطاغوت أن قال: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47]، هذا هو منهج المرسلين، خلاف ما يتهم العلمانيون -قاتلهم الله أنى يؤفكون- هذا الدين بأنه إنما هو منهج عبادة، أما قيادة الحياة فهم يعتبرونها لغير المسلمين، ولغير المؤمنين والمتدينين والمصلحين. إذاً: أول مهمة وأطروحة طرحها موسى عليه الصلاة والسلام، وأول هدف جاء به من عند الله عز وجل مع أخيه هارون أمام هذا الطاغوت هو تحرير النفوس البشرية من الخضوع لغير الله عز وجل: فأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ [طه:47]؛ لأن تعذيب النفوس بغير حق إنما هو ظلم، والمرسلون جاءوا لرفع الظلم عن البشرية، والعلماء المصلحون يأتون من بعدهم لرفع هذا الظلم، ولذلك أول مطلب لهذين الرسولين عليهم الصلاة والسلام: فأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ [طه:47]، ولم يقولوا له: والسلام عليك؛ لأنه غير مؤمن، وإنما قالوا: وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47]، وهذا هو الأسلوب الذي يجب أن يوجه لكل كافر لا يؤمن بالله عز وجل، ولا يؤمن باليوم الآخر، فلا يجوز أن نبدأ اليهودي ولا النصراني ولا الكافر أياً كان، ولا الملحد بتحية غير هذه التحية: (السَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) أي: فإن اتبعت الهدى فعليك السلام، وإن لم تتبع الهدى فإن السلام ليس حق لك منا، وعلى هذا يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه).



أعلى الصفحة



الجبابرة والطواغيت منهجهم دائماً إنكار الخالق



ثم نجد أن الجبابرة والطواغيت منهجهم دائماً وأبداً إنكار الخالق سبحانه وتعالى، فينكرون الخالق وهم يؤمنون بالخالق؛ لأن الإيمان بالخالق يربط البشر بالله عز وجل، ويحررهم من الخضوع لغير الله عز وجل، ولذلك نجد ونلاحظ عبر فترات التاريخ الطويل أن كل من أراد أن يستعبد أمة لا بد أن يبدأ أولاً بإنكار الخالق سبحانه وتعالى، وإن لم ينكره من أول وهلة لكنه يأتي بمقدمات تشير إلى أنه لا يؤمن بخالق لهذه السماوات والأرض، على الرغم من أن الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى فطرة فطر الله عز وجل الناس عليها. ولذلك حتى الملاحدة الذين لا يؤمنون بالخالق يقول أحدهم: والله الذي لا وجود له، كان يحلف بمثل هذا الحلف، فالفطرة تفرض عليه أن يقول: والله، لكن المصلحة تفرض عليه أن ينكر وجود الخالق سبحانه وتعالى، ولذلك نجد هذا الطاغوت لا يمكن أن يستعبد الأمة إلا أن يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ [القصص:38] أي: فيما يدعيه من أن له إلهاً، ولذلك نجده هنا يقول: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49]، وهو يعرف أن ربهم هو الله عز وجل، وأنه لا يصلح أن يكون إلهاً، وأنه لم يخلق شيئاً في هذا الكون، ولا يستطيع أن يخلق شيئاً في هذا الكون، وأن الفطرة البشرية التي فطر الله عز وجل عليها البرية هي الإيمان بهذا الخالق سبحانه وتعالى، لكن لا يمكن أن يستعبد الأمة وهي تعرف أن لها خالقاً، ولذلك فإنه يضطر إلى أن ينكر وجود الخالق سبحانه وتعالى، حتى يستطيع من خلال هذا الإنكار أن يستذل هذه الأمة. أما فرعون في قرارة نفسه فإنه يؤمن بالخالق سبحانه وتعالى بنص القرآن: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] و(ظلماً) هنا حال من الواو في (جحدوا)، لا من الهاء في (استيقنتها)، أي: أن تركيب الكلام: (وجحدوا بها ظلماً وعلواً واستيقنتها أنفسهم)، وهذا شيء مشاهد، ولذلك نجد هذا اليقين الذي أخبر الله عز وجل عنه بقوله: (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) نجده يبرز في ساعة الصفر حينما تنتهي المهمة، وتنتهي مسرحية فرعون الذي أنكر الخالق سبحانه وتعالى، واستذل أمة مدة طويلة من الزمن، حتى إذا انتهت الفترة التي من خلالها يستطيع أن ينكر الخالق إذا هو يعلن إيمانه بالخالق سبحانه وتعالى، وهي ساعة الغرق؛ ولذلك يقول الله عز وجل عنه في ساعة الغرق: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، ثم قال الله تعالى له: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:91-92] فقط لا نعيدك للدنيا مرة أخرى لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92]، كل طاغوت يريد أن يستذل أمة أو أن يستعبد شعباً أو أن ينكر الخالق سبحانه وتعالى أو يستضعف الأمة المؤمنة تكون أنت آية له وكل من رآك، وإن من يراه في متاحف مصر ليتذكر هذه الآية التي يقول الله عز وجل فيها: (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً). إذاً: هو يؤمن في قرارة نفسه بالله عز وجل، ويعلن هذا الإيمان في الفترة التي لا يستفيد فيها من إنكار الخالق سبحانه وتعالى، وإن من يزور مقابر الفراعنة في مصر يتأكد أنهم يؤمنون بالخالق سبحانه وتعالى، فهم يؤمنون بالبعث بعد الموت، ولذلك يجعلون فتحات في مقابرهم لعودة الروح يوم القيامة، والإيمان بالبعث بعد الموت فرع عن الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يؤمن بالبعث بعد الموت إلا بعد أن يؤمن بالخالق سبحانه وتعالى. وهنا يوجد من ينكر البعث بعد الموت وإن كان يؤمن بالخالق سبحانه وتعالى، كما كان المشركون في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يعتقدون شيئاً من ذلك. إذاً: الطغاة والمتجبرون والمعاندون، والذين لهم تفكير في إذلال البشرية، لا بد من خلال هذا التفكير أن ينكروا الخالق سبحانه وتعالى، ولذلك نجد الشيوعية التي جاءت وحكمت مدة خمسة وسبعين عاماً في بلادها ثم سقطت في آخر المطاف؛ لأنها تنافي الفطرة، نجد أنها طيلة هذه الفترة تجبر الناس على إنكار الخالق سبحانه وتعالى، وأهم مبادئها هو إنكار الخالق سبحانه وتعالى؛ لأن الشعوب لا يمكن أن تخضع لغير الله إذا آمنت بالله عز وجل، وبالرغم من ذلك فإنها لم تستطع أن تنجح في مهمتها. إذاً: الإيمان بالله عز وجل فطرة فطر الله عز وجل كل المخلوقات عليها الإنسان وغير الإنسان، فالإنسان مفطور على الإيمان: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] وغير الإنسان من المخلوقات الحية مفطورة على الإيمان أيضاً، كما قال الله عز وجل: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50].



أعلى الصفحة



استعباد الأمم لا يكون بإذلال المصلحين



الأمر الثالث: كل من أراد أن يستعبد أمة لا بد أن يستذل المصلحين، ولا بد أن يحول بين المصلحين وبين الأمة؛ لأن هؤلاء المصلحين منهجهم هو إرشاد الناس إلى الخضوع لله عز وجل، وتحذيرهم من الخضوع لغير الله عز وجل؛ ولذلك فإن كل المفسدين في الأرض -وإن تظاهروا بالإصلاح كما قال الله عز وجل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]- هم في الحقيقة يخافون على الأرض لا يخافون على الدين، وربما يتظاهرون بالخوف على الدين، كما قال فرعون لعنه الله: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، مع أنه هو الذي كان ينشر الفساد في الأرض، ولذلك هم يخافون على الأرض، ويخافون على الملك، ويخافون على السلطة، فيقفون في وجوه المصلحين خوفاً على هذه السلطة أن تنتزع من أيديهم إلى أيد أخرى هي أهل لهذه السلطة، ولذلك يقولون: أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى [طه:57]. ولذلك هذا هو الخوف الحقيقي، هو خوف على الأرض لا خوف على الدين، وإن تظاهر المفسدون في الأرض بأنهم يخافون على الدين، وأنهم يخافون على عقيدة الناس، وعلى منهج الناس، فهم في الحقيقة لا يخافون إلا على الأرض، أما المصلحون فليس لهم مطمع في الأرض؛ لأن هدفهم فوق الأرض والتراب، هدفهم هو إصلاح هذه الأمم وربطها بالله عز وجل. أما الكراسي والمراكز فإنها ليست أهم أهدافهم، اللهم إلا إن كان هدفاً كهدف يوسف عليه الصلاة والسلام حينما قال للعزيز: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] يريد أن يتخذ من هذه السلطة منطلقاً للإصلاح في الأرض.



أعلى الصفحة



إيمان السحرة بالله تعالى



الأمر الرابع: وهو ما أشرت إليه سابقاً: أن الإيمان ولو طال الأمد عليه وفقد مدة طويلة من الزمن لا بد أن يعود إذا جاء موعده! وكيف أن المؤمن ولو ألحد وغفل عن الله عز وجل كثيراً إذا رأى الآية التي تعرفه بالله عز وجل يرجع إلى الله عز وجل؛ لأن الفطرة الأصل أنها موجودة، وهي ما أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، وما أشار الله عز وجل إليها في الحديث القدسي: (خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم). ولذلك يقول الله تعالى هنا: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا [طه:70]، فقد ولدوا بعيدين عن الفطرة معزولين عزلاً كاملاً عن الفطرة، يعيشون على حياة السحر والشعوذة بعيدين عن الله عز وجل، لكن حينما رأوا آية واضحة من آيات الله عز وجل اعتبروا السجود هو العاصم الذي يعتصمون به من هذا الذنب العظيم الذي اقترفوه مدة طويلة من الزمن، فخروا ساجدين لله عز وجل، وما أدوا عبادة إلا هذه السجدة وهي سجدة فقط، ثم كانت نهايتهم الجنة، وكان مصيرهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض. وعلى هذا نقول: إن باب التوبة مفتوح، ومهما ابتعد الإنسان عن ربه سبحانه وتعالى فإن عليه أن يفكر دائماً وأبداً في طريق العودة إلى الله عز وجل، ولا يستعظم ذنباً فعله، فإن الله عز وجل يقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:53-55]. ومن هنا نقول: إن هؤلاء السحرة بالرغم مما فعلوه من الذنوب العظيمة، وآخرها الوقوف أمام آية من آيات الله عز وجل، والحلف بعزة فرعون وهو لا يستحق شيئاً من ذلك، ثم لما رأوا الآية من آيات الله عز وجل رجعوا إلى أنفسهم؛ لأنهم تجردوا عن الهوى، وعرفوا أن ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام إنما هو آية من عند الله، وليس بسحر، فخروا ساجدين لله عز وجل. ثم كانت هذه هي الخاتمة، فالعبرة إذن بحسن الخاتمة، يقول عليه الصلاة والسلام: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ولذلك فعلى المسلم دائماً وأبداً أن يسأل الله تعالى حسن الخاتمة، حتى لو كان في خير وفي عمل صالح يرضى به لنفسه ويطمئن إليه فلابد أن يسأل الله عز وجل حسن الخاتمة والثبات، ولذلك فإن الرسول -وهو الرسول عليه الصلاة والسلام- كان كثيراً ما يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. فتقول له عائشة في ذلك: أتخاف على نفسك يا رسول الله؟! فيقول: يا عائشة ! وما يؤمنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء). فهؤلاء كفرة يحلفون بعزة فرعون، جاءوا معاندين لآية من آيات الله، يريدون أن يأتوا بالسحر ليطمسوا فيه معالم آية من آيات الله، وما كانوا يظنون أنها آية، واستغفلوا مدة من الزمن، واستذلوا واستعبدوا، لكن لما رأوا الحقيقة رجعوا إلى الطريق المستقيم، فخروا ساجدين لله عز وجل، ووقف فرعون مبهوراً! مائة ألف ساحر جميعاً ولدوا على السحر وعلى البعد عن الله وعلى عبادة فرعون، ثم يسجدون جميعاً سجدة واحدة لله عز وجل! هذا أمر عجيب! لكنه ليس عجيباً بالنسبة لأمر الله عز وجل. إذاً: ما هو الموقف الذي سوف يسلكه مثل هذا الطاغوت؟! منطق الطواغيت والظلمة معروف حينما تعييهم الحجة ليس أمامهم إلا القوة؛ لأنهم يملكون القوة البشرية، ويملكون القوة المادية في هذه الحياة، ولربما يفقدها المؤمنون، فيلجئون إلى التهديد بهذه القوة، ولذلك أحضر الجلادين، وأحضر جذوع النخل، وأحضر الذين سوف يقطعون اليد اليمنى والرجل اليسرى من خلاف، وأحضر كل وسائل التعذيب أمام مائة ألف من البشر خروا ساجدين لله عز وجل. وكان المنطق البدهي المجرد من الإيمان يقول: إن ساحراً أمضى حياته في السحر وفي عبادة غير الله عز وجل، وما دخل الإيمان إلا بسيطاً في لحظة واحدة قد يتأثر بسرعة، ويتراجع عن مبدئه حينما يرى وسائل التعذيب، كما نشاهد في دنيانا اليوم أن كثيراً من ضعاف الإيمان حينما يخوفون بغير الله عز وجل يخافون، ولكن الله عز وجل ربط على قلوب هؤلاء السحرة، وتحدوا فرعون وكل قوى التعذيب والبطش التي أحضرها لهم، وقالوا: نحن رأينا بأعيننا الحقيقة، آمنا عن اقتناع، افعل ما تشاء! ولو فعلت فماذا ستفعل؟! ستهلك هذا الجسد، لكنك لن تستطيع أن تتسلط على الروح، سوف تهلك هذه الدنيا، لكن لن تستطيع أن تصل بنا إلى الحياة الآخرة، افعل ما تشاء، لما قال: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه:71]، أنا أم الله؟ أو أنا أم موسى؟! فكان الجواب شافياً: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [طه:72] آيات رأيناها بأعيننا، آية جاءت من عند الله عصا تتحول إلى ثعبان عظيم يلتهم سحر مائة ألف من السحرة كنا نعده منذ سنوات طويلة، فتلتهم هذه الآية هذا السحر في لحظة واحدة، وتريد أن نرجع إليك بعد هذه الآية التي رأيناها! لن نؤثرك عليها، لن نقدم رأيك ولا تعذيبك على تعذيب الله عز وجل في الحياة الآخرة؛ لأننا لو أطعناك الآن وسلمنا في هذه اللحظة تعرضنا لعذاب عظيم: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [هود:107]، لكننا حينما نعصيك اليوم وتريد أن تذيقنا ما تذيقنا من عذاب الدنيا فإن ذلك لن يضيرنا؛ لأنه لحظة واحدة تفارق فيها الروح الجسد، وننتقل إلى جنة عرضها السماوات والأرض. هذا هو المنطق الصحيح الذي يجب أن يكون منطق كل مؤمن، ومنطق كل إنسان رأى الحقيقة بعينيه، وآمن بالله عز وجل حق الإيمان، فلا يكون من الذين قال الله عز وجل فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ [العنكبوت:10] أي: في الدنيا جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] نعوذ بالله! هؤلاء ضعاف الإيمان. أما هؤلاء فقالوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا [طه:72] حلفوا بالله أنهم لن يغيروا رأيهم أبداً، ولن يرجعوا عن دينهم الذي اهتدوا إليه بعدما رأوا الآيات بعينهم، فحلفوا بعظمة الله عز وجل الذي فطرهم. أي: خلقهم، ثم قالوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72]، الذي تريد أن تفعله فافعله، لك الأجسام لكنك لن تستطيع أن تتسلط على الأرواح؛ لأن الأرواح في قبضة الله عز وجل وليست في قبضتك: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) أي: افعل ما تريد أن تفعله في هذه الحياة الدنيا.



أعلى الصفحة



السحرة يستهينون بالدنيا مقابل الآخرة



ثم استهانوا بالدنيا فقالوا: إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72] و(إنما) للحصر، أمر بسيط وهزيل أنت تريده منا، أنت الآن تطلب هذا الجسد، هذا الجسد ليس له أهمية، سوف يفنيه التراب حينما يوضع في التراب، فافعل فيه ما تشاء، فأنت لا تقضي إلا الحياة الدنيا، والحياة الدنيا أمرها سهل، ومن الذي علمهم هذا الأمر وقد عاشوا الحياة الطويلة بعيدين عن الله عز وجل؟ هي الفطرة التي فطر الله عز وجل الإنسان عليها، فأصبحت الدنيا في نظرهم لا تساوي إلا شيئاً تافهاً. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا [الشعراء:51]، فهم ما زالوا خائفين رغم أنهم سجدوا لله عز وجل، بالرغم من أنهم سلموا أجسادهم للطاغوت يفعل فيها ما يشاء، وبالرغم أنهم استهانوا بالدنيا، فهم يطمعون طمعاً ولا يجزمون جزماً بأن الله سوف يغفر لهم خطاياهم، مع أن الله عز وجل قد أوجب على نفسه أنه يقبل التوبة عن عباده، فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] و(على) للوجوب أوجبها على نفسه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، والقريب هو ما قبل الموت، فأبشروا أيها الإخوة، فليس القريب معناه في اللحظة الأولى، القريب ما قبل الموت، ولذلك هؤلاء ما تابوا إلا في آخر حياتهم قبل الموت، لم تمض بعد توبتهم إلا دقائق، ثم لقوا الله عز وجل على جذوع النخل على أيدي هذا الطاغوت المتجبر. (إنما التوبة عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) يعني: في أيام غفلة (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، أي: قبل الموت، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، فإذا بدأت تغرغر الروح في الجسد تريد الخروج فهنا لا تقبل التوبة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرر أو ما لم تبلغ الروح الحلقوم)، وإذا طلعت الشمس من مغربها فلا تقبل التوبة أيضاً، قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]. فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:72-73] أنت ليس بيدك شيء، حتى الموت فإنه ليس بإرادتك، بل هو بإرادة الله عز وجل، قال تعالى: لَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، لو شاء الله لما استطاع أن يصل إلى أجسامهم أيضاً، مع أنه ما قتلهم إلا بقضاء الله عز وجل وقدره، وهو لم يستطع أن يصل إلا إلى الجسد ولم يصل إلى الروح، وهو أيضاً بقضاء الله وقدره، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:73].



أعلى الصفحة



السحرة يدعون الناس إلى الله تعالى



ثم بعد ذلك لم يكتفوا أن يكونوا مؤمنين، بل أصبحوا دعاة، واستغلوا اللحظات الأخيرة قبل أن يبدأ تقطيع الأيدي والأرجل من الخلاف، يد يمنى ورجل يسرى، ثم الصلب، ثم الموت، استغلوا هذه الفرصة فعلموا الناس الذين بقوا وراءهم أن مثل هذا التصرف لا يضيرهم أبداً، وأن المصيبة الكبرى هي أن يقدم الإنسان على ربه يوم القيامة وهو كافر، وهو بعيد عن الله عز وجل، فقالوا للناس: انتبهوا أن تغتروا بهذا الطاغوت الذي اغتررنا به مدة طويلة من الزمن، فعليكم أن تلزموا دينكم، فأصبحوا دعاة بعد أن كانوا قبل لحظات سحرة، فماذا قالوا؟ قالوا: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ))[طه:74] يحذرون الناس ألا يقدم أحدهم على ربه مجرماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:74-75] ما هي الدرجات العلى؟ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:76]، وهذا ليس عجيباً من أمر الله، وإن كان عجيباً في واقع البشر، وفي حياة البشر، وفي مألوفات الناس أن يتحول الساحر إلى داعية، بل ليس عجيباً في عالمنا اليوم ولله الحمد، فقد رأينا كثيراً من المفسدين تحولوا إلى مصلحين، وكثيراً من تجار المخدرات والمحرمات وأصحاب الجرائم والملاحدة في مثل هذه الأيام والحمد لله أصبحوا دعاة مصلحين، وعسى الله أن يتجاوز عنهم، وليبشروا، فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]. المهم أن يوفق الإنسان إلى العودة إلى الله عز وجل قبل أن يحضر الأجل، أما إذا جاء الأجل فإن أحدهم يقول بكل لوعة وندامة: رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] فيقال له: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]. هذا درس يجب أن نفهمه أيها الإخوة! لا سيما في مثل هذه الأيام المباركة التي سقطت فيها المبادئ، وسقطت فيها الأفكار، وأهبت ريح الخير والإيمان والحمد لله، علينا أن نراجع أنفسنا قبل أن يحضر الأجل، ثم علينا أن نصلح العمل قبل القدوم على الله عز وجل: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:74-75]، هذا الكلام صدر من السحرة، ولكنه كلام بعد الاقتناع بالإيمان، وهم يرون الموت ليس بينهم وبينه إلا لحظات، لكنهم يعرفون أنها ميتة لا بد أن تكون، سواء كانت هنا أو هناك، في هذه الساعة أو بعد ساعات أو بعد سنوات، كل حي ميت، إذاً: لا بد أن يموت الإنسان على الفطرة، ولا بد أن يموت في سبيل الإصلاح قال تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا [النساء:84].



أعلى الصفحة



السحرة يدعون الله أن يثبتهم عند اشتداد العذاب



درس آخر: لما كانوا يخافون على أنفسهم من الفتنة كانوا يتضرعون إلى الله عز وجل -لأنهم يرون القسوة في المعاملة- أن يثبتهم الله على هذا الإيمان؛ لأن الإنسان مهما كان على جانب من الإيمان واليقين والتقوى لله عز وجل فهو على خطر من الزيغ أيضاً، ولذلك بالرغم من أن عندهم هذا الإيمان الصلب فهم يقولون: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف:126]، يطلبون الوفاة على الإسلام، ولا يطلبون الحياة؛ لأن الوفاة على الإسلام أفضل لهذا الإنسان من الحياة على غير الملة، ولذلك هم خائفون، وهم هذا العدد الكبير الذي سوف يتعرض لهذه الفتنة العمياء الصماء البكماء، وهم ما زالوا حديثي عهد بإيمان، وبمعرفة الله عز وجل، وبمعرفة آياته، فهم يخافون أن يفتنهم هذا الرجل، أو أن يتراجع من تراجع منهم عن منهجه الذي عاهد الله عز وجل عليه، فعندما قالوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72] خافوا أن يصاب أحد منهم بشيء من الخوف والذعر فيرجع من منتصف الطريق، فدعوا الله عز وجل وسألوه الثبات فقالوا: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف:126] أي: توفنا على ملة الإسلام.



أعلى الصفحة



تثبيت الدعاة والمصلحين للأتباع وتحذيرهم من الزيغ والنكوص



ثم أيضاً نجد في المقابل أن المصلحين دائماً يحذرون الأتباع من أن يزيغوا في مثل هذه الفترة العصيبة التي ربما يتعرض فيها الإنسان لهزة من الهزات التي ترغبه في الدنيا وتزهده في الحياة الآخرة، أو تخيفه من الموت حينما يغفل أن الموت قدر وأجل من عند الله عز وجل. فنجد أيضاً أن المصلحين يدعون فيقولون: اثبتوا على هذا الطريق، فنجد موسى عليه الصلاة والسلام يحرضهم على الثبات: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف:128] موسى أصبح يخاطب الذين ينظرون إلى هؤلاء القوم وهي تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، حتى لا يتراجعوا عن منهجهم الصحيح الذي اقتنعوا به، فيوجه إليهم وسيلة تثبتهم بإذن الله عز وجل ويقول: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف:128]، والعجيب أن موسى يقول هذا في فترة ما كان يملك شيئاً من الأرض، ولا كان يملك شيئاً من السلطة، وإنما يملك فقط آية من آيات الله عز وجل، لكنه واثق بأن الأرض ليست ملكاً لأحد، وليست ملكاً لطاغوت أو لحاكم يظن أن هذه الأرض هي له وسوف تبقى له، ولا أحد يستطيع أن ينازعه إياها، فإذا قام المصلحون يريدون تطبيق شرع الله عز وجل في الأرض في أمة من الأمم خاف أولئك على هذه الأرض، فأصبحوا يبطشون بالمسلمين كل البطش خوفاً على هذه الأرض، ويظنون أن هذه الأرض ملك لهم، والعجيب أن يكون من ورائهم من يعتقد هذه العقيدة، ويظن أن هذه الأرض لفلان وليست لفلان، وأن فلاناً صاحب السلطة لو خرج من ينازعه في هذه الأرض لا يريد الأرض ذاتها، وإنما يريد أن يقيم شرع الله وحكم الله في هذه الأرض، يتصور طائفة من الناس أن هؤلاء ليسوا كفئاً لأن يكونوا في هذا المستوى، فيبنون الأرض لفلان أو لفلان أو لصاحب السلطة، ثم بعد ذلك لا يفكر أحدهم أن هذه الأرض سوف ترجع إلى أصحابها الشرعيين، فالأرض لست ملكاً لهؤلاء الطواغيت الذين يحكمون الناس بغير شرع الله عز وجل، الأرض كما قال الله تعالى هنا: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف:128] فقد يملكها اليوم رجل، وفي الصباح الباكر في ملك رجل آخر، قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]. فهذه هي الأرض، وهي لمن أراد أن يحكمها بشرع الله، والقوم الذين يعيشون على هذه الأرض لا يتبعون إلا من يحكمهم بشرع الله عز وجل؛ ولذلك فقد أخبر الله عز وجل في آية أخرى أن الأرض للمؤمنين وليست للكفرة الذين يحكمون بغير شرع الله، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] فهي للصالحين، وليست للفسقة الذين يأخذونها بطريق الانقلابات العسكرية، والثورات الدامية، واستغلال البشر، وملء السجون، ووضع المخيمات التي يسومون فيها المسلمين سوء العذاب، ويظنون أن هذا العرش ملك لهم، وأن هذه الأرض ورثوها كابراً عن كابر، الأرض ليست لهم وإنما هي لعباد الله الصالحين، كما أن الرزق في هذه الأرض وما في هذه الأرض من طيبات ليست ملكاً لأحد وإنما هي للمؤمنين، لكن في الدنيا يشاركهم فيها الكفرة والفسقة كما تشاركهم البهائم. أما في الآخرة فإنها خالصة لهم من دون الناس، قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32] هذه هي الأرض! وهذا هو الرزق! فالأرض ملك لله عز وجل يورثها من يشاء من عباده، والرزق هو رزق الله إنما هو للمؤمنين، ويأكل هؤلاء الكفرة والفسقة من فضلات المؤمنين، لكن المؤمنين يختصون بطيباتها وبرزقها في الحياة الآخرة. ولذلك فإن من ظن أن الإسلام لا يستحق أن يحكم هذه الحياة، وأن هؤلاء الذين يطالبون بأن يحكموا بشرع الله أنهم متمردون، أو أنهم بغاة أو أنهم خارجون، من يعتقد مثل هذا الاعتقاد فقد ذهب بعيداً عن المنهج الصحيح، فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والأرض لا يرثها إلا عباد الله الصالحون، ولربما تطول فترة من الزمن تصبح هذه الأرض في أيدي غير أصحابها الشرعيين ابتلاءً من الله عز وجل؛ ليعيش أصحابها الشرعيون الذين يجب أن يملكوا هذه الأرض في غياهب السجون أو في المعتقلات أو في المخيمات التي يحكمون فيها بقوة الحديد والنار، لكن هذه إنما هي فترة مؤقتة ومحددة، وسوف يأتي ذلك اليوم القريب الذي تعود فيها الأرض لأهلها الشرعيين، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، الذين يطالبون بشرع الله، ويقدم لهم الطواغيت الطعام والمغريات فيقول أحدهم: نحن نطالب بتطبيق شرع الله، نحن لا نريد حتى وسائل المتاع البسيطة، وإنما نريد أن نحكم بشرع الله عز وجل، هؤلاء هم أهلها الشرعيون طال الزمن أو قصر، فلا بد بإذن الله عز وجل أن يتحقق هذا الوعد؛ لأن الله تعالى أقسم على ذلك فقال: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا) (ولقد) الواو هنا للقسم، واللام للقسم، وأكد الفعل بـ(قد) من المؤكدات للفعل الماضي (فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي: من بعد التوراة (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، وهو يرد أيضاً في القرآن الكريم: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]. فلا يستطيل المؤمن الطريق مهما كانت وعرة، ومهما كانت صعبة، ومهما رأينا إخواننا يعيشون في عذاب ليروا أعداء الله عز وجل يحكمونهم بقوة الحديد والنار، فالذي أسقط الشيوعية بعد أن حكمت ثلاثة أرباع قرن من الزمان وهي تحكم أناساً بقوة الحديد والنار، سوف يسقط كل حكم طاغوت يريد أن يحكم هؤلاء الناس بعيدين عن شرع الله عز وجل بقوة الحديد والنار.

يتبع


نهاية الطغاة فرعون وجنوده

ثم بعد ذلك نهاية الطغاة وشيكة الانهيار، فهذا فرعون قد أخبر الله عز وجل أنه قد أسقط ملكه العظيم على يدي المصلحين من المرسلين عليهم الصلاة والسلام موسى وهارون، ومن تبعهم على هذا الإيمان، فيقول الله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ [الأعراف:130] بدأت الآن النهاية: وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130] لكن هذه الموعظة وهذا الأخذ المحدود لم يجد في هؤلاء القوم، فكان الأخذ النهائي الذي يقول الله عز وجل عنه، وهو الفرج القريب للمؤمنين والمصلحين، يقول الله عز وجل عن هذا الفرج: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف:137] بماذا؟ بالصبر، لما صبر القوم على مصارعة أعداء الله جاء الوعد الذي قال الله عز وجل عنه: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، وهذا القسم لا يمكن أن يتخلف، ولربما يتأخر زيادة في الابتلاء والتربية والإعداد، وابتلاء المؤمنين، لكن النتيجة أنه لا بد أن يقع هذا الوعد؛ لأنه جاء بقسم من الله عز وجل، فيقول الله عز وجل عن تحقيق هذا الوعد: بأن أورث المستضعفين الأرض كلها، وآخذ المتجبرين والطغاة، يقول الله عز وجل: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف:137] بأي سبب؟ (( بِمَا صَبَرُوا ))[الأعراف:137] فالصبر: هو طريق الوصول إلى الخير، وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137]. إذاً: انتهت دولة الكفر التي تقول للناس: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:38] انتهت هذه المرحلة، وجاء تحقيق وعد الله عز وجل: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ [الأعراف:137]، الذين كانوا يعيشون في مصر بالأمس أذلة، لما صبروا وصابروا ورابطوا، وكانوا عضداً مع أنبياء الله موسى وهارون عليهم الصلاة والسلام بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ [الأعراف:137-138].


موسى وقومه يرحلون من مصر


ثم جاء درس من الدروس العجيبة، درس لا يتأمله إلا المؤمنون، يأذن الله عز وجل لموسى بالرحيل من مصر هو وبنو إسرائيل، ويتجه موسى بستمائة ألف من بني إسرائيل -كما يقول المفسرون والمؤرخون- مشرقين في آخر الليل، وعند وقت الشروق ينتبه فرعون وقومه بأن بني إسرائيل سوف يهربون، ثم يلحقهم وقد استكمل كل طغاته وعتاته وجنوده من أجل أن يبطش بهؤلاء المستضعفين، ثم يلحق بهم فيكون موسى وبنو إسرائيل بين العدو وبين البحر، وهو موقف محرج لولا أن الإيمان أقوى من ذلك كله، فيلتفت بنو إسرائيل ويقولون لموسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] العدو وراءنا، والبحر من أمامنا، ماذا نفعل؟! لكنّ موسى عليه الصلاة والسلام الذي رباه ربه سبحانه وتعالى على الإيمان واليقين يعلم أن هذا الدين هو لله عز وجل وليس له، وليس لأحد من الناس، وأن الذي فرض هذا الدين هو الذي سوف يدافع عنه، وأنه الآن لا بد أن تكون هناك حماية، وأن هذا البحر وإن كان مائجاً يغرق، والعدو من ورائهم فتاك عنيد، لكن لا بد أن يأتي الفرج، فيقول موسى عليه الصلاة والسلام: (كَلَّا) يعني: الآن لسنا بمدركين، هم في الحقيقة مدركون حسب الظواهر المرئية؛ لأن البحر من الأمام، والعدو يحيط من الخلف، وسوف يلجئهم إلى البحر ويغرقهم، لكن الإيمان فوق ذلك، فهو يقول: (كَلَّا) ولذلك ما قال: لا، بل قال: (كَلَّا)، وهي أبلغ في النفي وتأكيد النفي: إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] أنا أسير على منهج من عند الله، أنا لم أسر على غير منهج؛ فربي سوف يوفقني، وفعلاً يهديه الله عز وجل، وتتعطل نواميس الحياة وأنظمة هذا الكون ليتحول ذلك البحر المائج إلى طريق يابسة، إنها قدرة الله عز وجل! ثم يعبر موسى وقومه في اثني عشر طريقاً على عدد أسباط بني إسرائيل وقبائلهم، حتى تجمد البحر، وأصبح طبقاً كالجبال واقفة، وأصبح جدداً -جمع جادة- يسيرون عليها، وكل ينظر إلى الآخر من وراء الماء يطمئن على صاحبه، ويعبرون البحر بقدرة الله عز وجل: (لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) يتجمد البحر ويتجمد كل شيء، وتتجمد الدماء في عروق الطغاة حينما يزيد بطشهم بالمؤمنين، والله عز وجل من ورائهم محيط. إذاً: المسألة هي قدرة الله عز وجل التي لا تغلب، ويعبر موسى ومن معه إلى الضفة الشرقية، ويعبر فرعون وجنوده داخل البحر، حتى إذا اكتمل موسى ومن معه خارجين إلى الجهة الشرقية، واكتمل فرعون وكل جنوده داخل البحر؛ أمر الله عز وجل البحر أن ينطبق عليهم ليستأصلهم عن آخرهم: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ [الزخرف:55-56]. هذا درس يجب أن يفهمه المؤمنون دائماً، ويجب أن يفهموه في ساعة الشدة بصفة خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110]، فالنصر لا يأتي غالباً إلا بآخر لحظة من لحظات الابتلاء، ولذلك أغرق الله عز وجل فرعون وجنوده، ونجا موسى ومن معه، فأصبح الأمر آية عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى.


من الدروس المستفادة من إغراق فرعون وإنجاء موسى وقومه

هناك درسان نستطيع أن ننهي بهما البحث في قصة موسى مع بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام: الدرس الأول: لا بد من التغيير، قد يظن بعض الناس أن الدعاء والتضرع -ولو كان بصدق- يمكن أن يخلص المضطهدين والمؤمنين، ولو كانوا على ما كانوا عليه من معصية الله عز وجل، وهذا خطأ واضح جداً، ولذلك أخبر الله تعالى أخبر في القرآن: أنه يأخذ الأمة وهم يتضرعون إذا لم يغيروا، فيقول الله عز وجل: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء:11-15]، وهم يقولون: يا ويلنا، فالمسألة ليست مسألة يا ولينا إنا كنا ظالمين فقط. إذاً: ما هو طريق العمل والإصلاح؟ فالأمة ليست مطالبة بالتندم والتحسر على هذا الدين، وإنما هي مطالبة بالإصلاح، ولذلك أخبر الله تعالى في قصة موسى مع بني إسرائيل أنهم بقوا مدة من الزمن يتضرعون بين يدي الله عز وجل، ويقولون دائماً وأبداً: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86]، لكن هذا دعاء ناشف ليس فيه تغيير أبداً، وليس فيه بذل في سبيل الله، ولا تضحية، فقط: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86]، فما نفعهم ذلك أبداً وهم يعيشون تحت الذلة والاستعباد؛ لأنهم لم يغيروا، ولم يفكروا بالجهاد في سبيل الله الذي يتخلصون به من الذلة، ولم يقدموا أغلى ما يملكون وهو المال. فبقي بنو إسرائيل مدة طويلة من الزمن قبل أن يأذن الله عز وجل لموسى صلى الله عليه وسلم بالرحيل من مصر ببني إسرائيل وهم يدعون ويتضرعون: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86] لكنهم لم يغيروا شيئاً من وضعهم كما يفعله كثير من الناس، يكتفون بالدعاء لكنه دعاء ناشف كما يقولون. فالذي حدث أن الله أرشدهم بأن هذا الدعاء لن يقبل إلا بتغيير وتضحية: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:87]، وفعلاً بنو إسرائيل نفذوا هذا الأمر من أوامر الله عز وجل فغيروا، فجعلوا بيوتهم مكاناً للعبادة، وأقاموا الصلاة، واستقاموا على دين الله عز وجل، ثم دعوا بعد ذلك مرة أخرى، وانظر إلى الفرق بين الدعاء الأول والدعاء الثاني بعد التغيير: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88] ما هي النتيجة؟ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، لماذا ما أجيبت في الأول وقد مضت عليها سنوات رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86]؟ لأنه ليس هناك تغيير في الواقع، فلا بد أن يكون هناك تغيير، وإذا حدث التغيير فالدعوة تستجاب من الله عز وجل. درس آخر نختم به قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون: لما عبر موسى ببني إسرائيل البحر وأقبلوا على الأرض المقدسة أرض الشام، كان بنو إسرائيل -بالرغم من ذلك التكريم من الله عز وجل- كان الخوف يسري في عروقهم، ويختلط بدمائهم؛ فيقبلون على بلاد الشام ويقول لهم موسى: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة:21] لكن صاحبهم الخوف؛ لأنهم ولدوا في أرض خوف، وعاشوا في جبن وضعف قد ملأ قلوبهم، فقالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة:22]، وبالرغم من أن النصائح توجه لهم قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة:23]، وبالرغم ذلك كله قالوا: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، فيقولون لموسى: اذهب أنت وربك قاتل العمالقة في بلاد الشام، ونحن سنجلس هنا، حتى إذا حررتم البلاد دخلناها! هذه هي الأمة التي تقوم على هذا الضعف والإذلال! ولذلك فإننا ننصح من يتولى سلطة من سلطات المسلمين ألا يذل شعبه، وألا يذل أمته؛ لأن هذه الأمة هم سلاحه وعتاده، فحينما يذلهم بالتجسس والأذى والبطش والطغيان سوف لا يكون عنده سلاح ولا عتاد ولا قوة حينما يريد أن يدافع بهم عن حدود بلاده؛ ولذلك حكم الله عز وجل على بني إسرائيل أربعين سنة يتيهون في الأرض في صحراء سيناء، يقول المؤرخون: حتى فني الجيل الأول الذي ولد في أرض الإذلال والاستعباد، وفي الأربعين السنة هذه ولد ونشأ جيل جديد ما عاشوا على الإذلال، فدخلوا بعد ذلك الأرض المقدسة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الدعاة المصلحين الذين لا يخافون في الله لومة لائم، والحمد لله رب العالمين.