( دروس وعبر من حديث الثلاثة الذين اطبقت عليهم الصخرة ) مستفادة
أنشر تؤجر
الخُطْبَةُ الأُولَى :
الْحَمْدُ للهِ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ , لَهُ الْمُلْكُ كُلُّه , وَلَهُ الْحَمْدُوَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّه ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ وَرَاقِبُوهُ وَاطيعوه ولا تعصوه . عباد الله : قصص الأولين ، وسير الماضين ؛ من وسائل تربية النفوس ، والعاقلمن استفاد من القصص وأخذ منها الدروس والعبر ، ومن أحسن القصص ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى ، وفي سنةالنبي- صلى الله عليه وسلم-.
وحديثي لكم اليوم عن قصة ثابتة ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- لثلاثة نفر عاشوا لحظات ضيق وكرب ؛ لكنهم كانواأصحاب عمل صالح في الخلوات ؛ ففرج الله عنهم وكشف كربتهم ، وإليكم القصة كما وردت في صحيح البخاري ومسلممن حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وقال : سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول :( انطلق ثلاثةُ نفرٍ ممَّنكان قبلكم ، حتَّى آواهَم المبيتَ إلى غارٍ فدخلوه ، فانحدرتْ صخرةٌ من الجبل فسدَّت عليهم الغار ، فقالوا : إنَّه لا يُنجيكم من هذه الصَّخرة إلاَّأن تدعوا الله بصالِح أعمالكم ، فقال رجُل منهم : اللَّهُمَّ كان لي أبَوانِ شيْخان كبيران ، وكنت لا أغْبق قبلهما أهلاً ولا مالاً ، فنأى بي طلبالشجر يومًا فلم أرُح عليهما حتَّى ناما ، فحلبتُ لهُما غبوقَهما فوجدتُهما نائمَين ، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبقَ قبلَهما أهلاً أو مالاً ، فلبثْتُوالقدح على يدي أنتظِر استيقاظَهُما حتَّى برق الفجْر ، فاستيْقَظا فشرِبَا غبوقَهما ، اللَّهُمَّ إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتِغاء وجْهِك ، ففرِّج عنَّا ما نحنفيه من هذه الصَّخرة ، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج))، قال النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:(( وقال الآخَر : اللَّهُمَّ كانتْ لي بنتُ عمّ ،كانت أحبَّ النَّاس إليَّ ، فأردتُها عن نفسِها ، فامتنعتْ منِّي ، حتَّى ألمَّت بها سَنةٌ من السنين ، فجاءتْني فأعطيتُها عشرين ومائة دينار علىأن تُخلي بيْني وبين نفسِها ، ففعلتْ ، حتَّى إذا قدرتُ عليْها ، قالت : اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلاَّ بحقِّه ، فانصرفتُ عنْها وهي أحبُّ النَّاسإليَّ ، وتركت الذَّهَب الَّذي أعطيتُها ، اللَّهُمَّ إن كنتُ فعلت ابتغاء وجهِك ، فافْرُج عنَّا ما نحن فيه ، فانفرجت الصَّخرة غير أنَّهم لا يستطيعونالخروج منها ))، قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((وقال الثَّالث : اللَّهُمَّ إنّي استأجرتُ أُجراءَ فأعطيْتُهم أجرَهم ، غير رجُل واحدٍ ترَك الَّذيله وذهب ، فثمَّرت أجْرَه حتَّى كثُرَت منه الأموال ، فجاءني بعد حين ، فقال : يا عبد الله ، أدِّ إليَّ أجْري ، فقلتُ له : كلُّ ما ترى من أجرِك ، منالإبل والبقر والغنم والرَّقيق ، فقال : يا عبد الله ، لا تستهزئْ بي ، فقلت : إنِّي لا أستهزئُ بك ، فأخَذه كلَّه فاستاقَه ، فلم يترك منْه شيئًا ، اللَّهُمَّفإن كنت فعلتُ ذلك ابتِغاء وجْهِك ، فافرجْ عنَّا ما نحن فيه ، فانفرجتِ الصَّخرة ، فخرجوا يَمشون )).
عباد الله : هذه قصة عظيمة فيها من الدروس والعبر الشيء الكثير , فَمِن ذلك :
وجوب الإخلاص في العمل الصالح لوجه الله ، وطلباً لرضاه لا لأحد سواه ، وهذا من أهم الدروس والعبر من هذه القصة ؛ولهذا فإن الملاحظ في آخر دعاء كل واحد منهم قوله :
( اللهم إن كنت فعل ذلك ابتغاء وجهك ؛ فافرج عنا ما نحن فيه ).
فالإخلاص من أسباب تفريج الكربات ، وأما الرياء -والعياذ بالله- فإنه كالزبد يذهب جفاء لا ينتفع منه صاحبه ؛ وثبت عنالنبي صلي الله عليه وسلم ، فيما يرويه عن الله عز وجل أنه قال :( أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيهمعي غيري تركته وشركه ). رواه مسلم .
وَمِنْ الفَوَائِدِ : تعرف على الله في الرخاء ، يعرفك الله في الشدة ؛ فهؤلاء الثلاثة عملوا هذه الأعمال الصالحة في وقت سعةورخاء ؛ فلما صاروا في كرب وشدة نجاهم الله .
لقد عظموا الله في أنفسهم في حال الرخاء فكان الله معهم في حال الشدة ، وحفظوا الله في خلواتهم فحفظهم ونجاهم فيكرباتهم ؛ ففي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام :" احفظ الله يحفظ احفظ الله تجده أمامك، تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرفكفـي الشدة ".
فتعرفوا -رحمكم الله- على ربكم -جل وعلا- بطاعته ومراقبته في وقت رخائكم وامتثلوا أمره في السر والعلن؛ لكي يعرفكمالله ويجيب دعاءكم وينجيكم في وقت شدتكم وضيقكم.
وَمِنْ الفَوَائِدِ : يجوز التوسل بالأعمال الصالحة أثناء الدعاء كما حصل من أصحاب الغار ؛ فقد توسلوا إلى الله بأعمالصالحة هي أرجى ما يظنون من أعمالهم قبولاً عند الله .
فالأول : توسل ببره لوالديه ، والثاني : بعفته وتركه للحرام خوفاً من الله ، والثالث : بأمانته وأداء ما في ذمته من حقوقللآخرين .
فلنجتهد -رحمكم الله- في أعمال صالحة خفية لا يعملها إلا الله لكي نتوسل بها بين يدي دعائنا لزوال همومنا وكشفكروبنا .
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ ولسائر المسلمين من كلذنب ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرِّحِيمُ .
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ :
الحَمْدُ للهِ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ , وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وُرَسُولُهُ , صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِوَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً .
أما بعد :
عباد الله : ومن الدروس والعبر من قصة أصحاب الغار : فَضْلُ الْعِفَّةِ عَنِ الزِّنَا ، وأن العفاف وترك ما حرم الله تعالى سببلتفريج الهموم والغموم ، وجلب عون الله عز وجل ، وأن من ترك شئياً لله عوضه الله خيراً منه ، فمن الثلاثة الشاب الذي يتركالمعصية تعظيماً وإخلاصاً لربه ومولاه ، فأنجاه الله مما أصابه من كرب ، وفرج عنه وعن أصحابه .
والعفيف موعود بأن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال :( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)... وذكر منهم: (ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخافالله).
إذا ما خلوْتَ ، الدّهرَ ، يوْماً ، فلا
تَقُلْ خَلَوْتَ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
ولاَ تحْسَبَنَّ اللهَ يغفِلُ مَا مضَى
وَلا أنَ مَا يخفَى عَلَيْهِ يغيب
ومن الفوائد : أنَّ مِن أعظم الأسباب التي تُدفع بها المكاره الدُّعاء ، فإنَّ الله سمع دعاء هؤلاءِ واستجاب لهم ؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِيعَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]
هذا وصلوا وسلموا على إمام الخلق وسيد المرسلين ، كما أمركم بذلك رب العالمين في قوله الكريم :( إن الله وملائكتهيصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )، وقال- صلى الله عليه وسلم-:( من صلى على واحداًصلي الله عليه بها عشراً ).
اللهمَّ صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمدوعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ .
اللهمَّ أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الكفر والكافرين يا رب العالمين .
اللهمَّ وفق ولي أمرنا وولي عهدنا ، اللهم أعنهم وسددهم .
اللهمَّ فرّج هم المهمومين من المسلمين ونفس كرب المكروبين من المسلمين .
اللهمَّ واشف مرضانا ومرضى المسلمين يا رب العالمين .
اللهمَّ اغفر لموتانا وموتى المسلمين .
اللهمَّ ضاعف حسناتهم وتجاوز عن سيئاتهم يا أرحم الراحمين .
اللهمَّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لناشأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
{ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } ]البقرة: 201[.
عباد الله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}]النحل: 90[.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر ، والله يعلم ما تصنعون .