دروس من مقاصد الحج وأسراره خطبةٌ للشيخ بدر المشاري فرغت بتصرف مناسبة للحاج وغيره

عبدالرحمن اللهيبي
1440/12/08 - 2019/08/09 03:24AM

أيها المسلمون أن من أبرز عوامل انحطاط الأمة وتخلفها وضيعتها وشتاتها أنها أمة لا تحسن الاستفادة من شعائر دينها العظيم أمة تغفل بكل برود عن الأسرار المذهلة والحكم العظيمة والمقاصد الجلية لفرائض الإسلام وشعائر الدين وقبسات النور التي جاء بها الإسلام ، إنها أمة تتعامل ُ مع شعائر دينها بصورة رتيبة مملة ينتابهُا البرود ويغشاها الجمود ويغلفها الذهول والشرود ، وإلا فما معنى أن يتحول الحج في أذهان الكثيرين وفي تصوراتهم إلى مجرد ساحة مترامية الأطراف تسمى المشاعر المقدسة يزدحم فيها أناس كثيرون يؤدون المناسك بكل اندفاع وعجلة دون أن يستشعروا معنى ً لما يفعلون أو مغزىً لما يصنعون ولو تأملت أحاديث الناس في مجالسهم أثناء الحج وبعده لوجدتها لا تكاد تخرج في الجملة عن أعداد الحجيج وكثرتهم وعن الزحام وكثافته وعن البرد وشدته وعن خطة السير ونجاحها أما أن يتحدثوا عن الحج ودروسه وعبره ,عن الحج وفوائده ومواعظه وكنوزه فذلك عزيز المنال قد نُسى ذكره وأهمل شأنه ولعمرك إن ذلك لهو الحرمان المبين .
من أجل ذلك أيها المسلمون ـ نتذاكر في هذه الخطبة شيءً من دروس الحج وحكمه ومقاصده ، ليقف عليها الحاج عند أداء شعيرته وغيرُ الحاج أثناء مشاهدته لجموع الحجيج وهم يؤدون شعائر الله متأملين تلك الحكم العظيمة والمقاصد الجليلة في تلك الأعمال العديدة التي يفعلها الحاج والتي ربما يراها بعض من طمس على بصائرهم من الزنادقة أنها نوع من العبث التي لا طائل من ورائها وهذا محال في حق الإله المشرع العليم الحكيم فليس هناك عمل في هذه الشعيرة العظيمة إلا وله من الحكم والمقاصد الجميلة علمها من علمها وجهلها من جهلها وإنها أي الدروس والعبر من أعمال الحج لهي بعض المنافع التي أشار إليها القرآن الكريم بقول الباري جل جلاله { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ويذكروا اسم الله في أيام معلومات }

فأرعي السمع يا رعاك الله وأحضر القلب يرحمك الله لدروس من مدرسة الحج الكبرى ، لدروس من مدرسة شرعها الرحمن وبينها القرآن ووضع معالمَها سيدُ ولد عدنان عليه أفضل الصلاة وأتم السلام .
أما الدرس الأول:  (لله رب العالمين)
فهو الإعلان الصارخ والنبأ العظيم بتجريد التوحيد لله رب العالمين إنه الإعلان للتوحيد منذ اللحظة الأولى التي يتلبس فيها الحاج بالنسك وحتى اللحظة الأخيرة، فتلبيته توحيد وطوافه توحيد ووقوفه يومَ عرفةَ توحيد ودعاؤه توحيد وذكره وتكبيره توحيد { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } نعم إخوة الإسلام، إن شعيرة الحج قائمةٌ في أساسها على تجريد التوحيد لله وحده لا شريك له؛ بل من أجل تحقيق التوحيد لله وحده والكفرِ بالطاغوت شُرع للحاج أن يستهل حجه بالتلبية قائلاً: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"

 عباد الله : لا خير في الدنيا بلا توحيد ولا نصيب في الآخرة بلا توحيد فمن أجْل التوحيد أسست المله ومن أجله شرعت القبلة ومن أجله خلقت السماوات والأرضون ومن أجله خلقت الأنس والجن والملائكة أجمعون,

والعبد الموحد هو من أقر لله بالربوبية المطلقة, والألوهية الخالصة, وأثبت لربه أسماءَه الحسنى وصفاته العليا, فهو موصوفٌ بالجمال منعوت بالكمال, والحاج يتربى عند أداء شعيرته على أن يعلن بكل وضوح أني لا أعبد إلا الله ولا أخضع لأحد سواه ولا أدعو إلا هو ولا أذبح إلا له فالحكم حكمه والأمر أمره والشرع شرعه أحق من عبد وخير من ذكر وأكرم من سئل وأجود من أعطى ,ومتى تغلغل هذا الشعور في حس المسلم وأعماق ضميره اتضحت له معالم الطريق وتجلت أمامه طرائق الحياة وعرف من هو ومن يكون وإلى أين النهاية وما هو المصير وعرف لمن يُسلم قيادة ولمن يُخضع رقبته ولمن يَصرف ولاءه ، وعرف بمن يصول وبمن يجول وبمن يخاصم ولمن يحاكم.
معشار المسلمين : إن كثرة أعمال الحج وتواصلها وارتباطها بكيفيات معينة وأزمنة محدودة سيلحظ العبد من خلاله أن هناك مشرعاً واحداً له المشيئة المطلقة والإرادة النافذة في تشريع ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون, فكل شرع خالف شرع الله فهو شرع باطل وكل أمر خالف سنة نبيه فهو رد قال الله تعالى { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}
وأما الدرس الثاني (إتباع لا ابتداع)
تتضح بجلاء في معالم شعيرة الحج تجديد المتابعة لسيد البشر صلى الله عليه وسلم فهو القائل ( خذوا عني مناسككم ) ، فلا تلبي إلا بتلبيته ولا تشهد المشاعر إلا كشهوده ولا ترمى الجمار إلا كرميه ولا تنحر الهدايا إلا كنحره ولا يعزم بشيء من أنساك الحج إلا بعزيمته ولا يُترخص بشيء إلا برخصته ، لا مشروع إلا ما شرعه ولا محظور إلا ما حظره وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً . وقف عمر أمام الركن فقال: (أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي r استلمك ما استلمتك، فاستلمه ثم قال: فما لنا وللرمل (يعني بذلك السرعة في المشي مع تقارب الخطى) إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال: ولكن شيء صنعه النبي r فلا نحب أن نتركه) وهو لا يريد بذلك إلا تربية الناس على حسن الإتباع للنبي r فالحج مدرسة للتسليم والانقياد لشرع الله فكم في الأمة من أناس لا يرضَون بالانقياد لشرع الله في أمور حياتهم، ولكنهم يسلّمون في الحج ويخضعون رغما عن أنوفهم ليصح حجهم، فيتقيدون بلباس معين ويصرخون بكلمات مخصوصة ويرمون بحصيات موصوفة وبأعداد معلومة وفي أماكن محدودة منتقلين من مشعر إلى آخر يصبحون في مشعر ويبيتون في آخر يمارسون أعمالا كثيرة قد لا يدرك العقل ما المراد منها غير التسليم والانقياد لشرع الله والاتباع لسنة رسول الله r وهو بهذا يتربى على أن يخضع العقل لشريعة الله في كل ما أمر به الشارع فيخرج من الحج وقد تربى من خلال هذه الشعيرة على التسليم والانقياد لشرع الله في كل أمور حياته    
والمحروم من حرم بركة الإتباع والمفتون من فتن بحب المخالفة والابتداع ألا فليتق الله من أعجبته نفسه وغره عقله واستدرجه هواه وضل يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين , وزاده إثارة من علم قليل وصبابة من سوء فهم قبيح لا يعرف لرسول الله مقداراً ولا لجاهه وقاراً .
وأما الدرس الثالث (مقياس ومعيار دقيق)
فيتضح من خلال اجتماع الحجيج في صعيد واحد على اختلاف أجناسهم وألوانهم وتعدد ألسنتهم ولغاتهم يرتدون لباساً واحداً ويعبدون إلهاً واحد ويقتسمون شربة الماء ولقمة العيش يتجاورون في السكن والمبيت والإقامة والترحال في تلك المشاعر المقدسة يعانق المسلمُ الغربي أخاه المسلمَ الأفريقي ويحتضن الآسيوي آخاه المسلمَ الأوروبي وقد تناسى الجميع تماماً تناسوا كافة الوثائق الرسمية والهويات الشخصية وانصهرت كل العلائق في بوتقة الإسلام العظيمة ، في هذه المظاهر كلها إعلان لسقوط كل الدعوات الأرضية والعصبيات الجاهلية والشعارات القومية والنعرات القبلية { يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا ابيض على أسود إلا بالتقوى إنه المعيار الأصيل والمقياس الدقيق لتفاضل الناس وتمايزهم وهو ذاك المعيار الذي رفع بلالاً وعماراً وابن مسعود ووضع أبا جهل ومسليمة وغيرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ، وما فقد المسلمون عزتهم ولا غابت هيبتهم إلا يوم تأرجح ميزان العدل في حياتهم وسادت الحزبية في أوساطهم وارتفعت أسهمُ الطبقيةِ في مجتمعاتهم .
 أقول قولي هذا ...

 

عباد الله: ووقفة أخيرة مع شعيرة الحج تذكر الحاج وغيره ممن يشاهده في وسائل الإعلام تذكِّره بيوم الخروج من الدنيا إلى ميقات يوم القيامة وأهوالها، فعلى الحاجّ إذا فارق وطنه وتحمّل عناء الرحيل بالسفر إلى تلك المشاعر أن يتذكّر يوم الرحيل عن الدنيا، وإذا لبس المحرِم ملابس الإحرام وتعبد لله بلباس تلك اللفائف فعليه أن يتذكر أنه سيوسَّد التراب بمثلها، وأنه سيلقى ربه على زيّ مخالف لزيّ أهل الدنيا، وإذا وقف بعرفة ورأى من ازدحام الخلق وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم فليتذكر موقف القيامة واجتماع الأمم في ذلك الموطن العظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.

عباد الله ها هو يقبل عليكم غدا يَوْمُ عَرَفَةَ وما أدراك ما يوم عرفة يوم تُغْفَرُ فِيْهِ الزَّلَاْتُ، وَتُكَفَّرُ فِيْهِ الْسَّيِّئَاتُ، وَيَعْتِقُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ شَاْءَ مِنْ عِبَاْدِهِ مِنَ الْنَّارِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ " رَوَاهُ مُسْلِمُ .

واعلموا يا مسلمون أن عتق الرقاب وإجابة الدعاء وغفران الذنوب والأوزار ليس خاص بالحجيج بل هو عام للواقفين بعرفة ولغيرهم من أهل الأمصار في كل مكان

وإنه ليُشَرَّعُ فِيْه لغير الحاج صِيَاْمُه ، فَفِيْ صيام يَوْمِ عَرَفَة الْأَجْرُ الْعَظِيْمُ، قَاْلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عِنْدَمَا سُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَة:(أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ عباد الله : خيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة؛ فأظهِروا في ذلك اليوم المبارك العظيم التوبةَ والاستغفار، والتذلُّلَ والانكِسار، والندامةَ والافتقار، والحاجةَ والاضطرار , ولو بقيتم عصر يوم عرفة في المسجد حتى غروب الشمس لم يكن هذا كثيرا ففي ذلك اليوم من الفضائل والرحمات والخيرات والبركات ما تستحق لأجلها أن تبذل له الأوقات.

هذا وصلوا وسلموا ...

المشاهدات 992 | التعليقات 0