دروس من قصة الهجرة خطبة 16 محرم 1439هـ (نص + وورد + بي دي إف)

عاصم بن محمد الغامدي
1439/01/16 - 2017/10/06 08:12AM

الخطبة الأولى:

الحمدلله الذي جعل لعباده في كل زمان دليلاً، ووفق من شاء منهم ليتخذ طريق الحق سبيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بالهدى ودين الحق أرسله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد

عباد الله:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي الوصية الجامعة، والذخيرةُ النافعة، واحذروا زخارف الدنيا المضلَّة، فمن استكثر منها فما ازداد إلا قلَّة، وتزودوا والتقوى خير زاد، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

أيها المسلمون:

بعد الحرب والتضييق، والمنع المستمر من إقامة شعائر الدين، خرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة.

خرج من مكة وهي وطنه التي قضى فيها سنوات طفولته، وشبابه، وكهولته، ولك أن تتخيل المشاعر التي تختلج بها نفس المرء حين يودع مكانًا فيه ذكريات نصف قرنٍ من عمره، فيه منزل جدِّه الذي سمَّاه، وعمِّه الذي آواه، فيه نزلت أكثر آيات القرآن، وشهد بطولات أصحابه الخالدة.

إنه الوطن الذي يودعه وهو لا يعلم هل تكتب له العودة إليه، ولكنه يعلم أن كفارَ قريشٍ منعوه من تبليغ وحي ربه، وآذوه في نفسه وأهله وصحبه، ثم هاجر الصحابة لما أذن لهم ربهم، وبقي المصطفى ينتظر الإذن، وطلب من الصديق رضي الله عنه الانتظار معه، فطمع أبو بكر في الصحبة، فأخذ أهبته، وبقي يعلف راحلتين له أربعة أشهر.

وفي يوم من الأيام، اجتمع كفار قريش للتشاور في أمر النبي عليه الصلاة والسلام، واتفقوا على قتله بضربة واحدة تفرق دمه بين القبائل، وكان ذلك بعد بعثته عليه الصلاة والسلام بثلاثة عشر عامًا، فنزل جبريل عليه السلام بأمر رب العباد جل جلاله لنبيه بالهجرة، وأنْ لا ينام في فراشه تلك الليلة، فامتثل النبي الكريم، وطلب من علي رضي الله عنه النوم في فراشه، ثم أتى إلى صاحبه أبي بكر في وقت الظهر الذي لم تكن الزيارة فيه معتادة، فَنَادَاهُ وَقَالَ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الصُّحْبَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصُّحْبَةَ»، ثم أَعْطَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى ناقتيه، وَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا غَارَ جبل ثَوْرٍ، فَمكثا فيه ثلاث ليالٍ، يبيت عندهما عبدُالله بن أبي بكر وهو غلام حاذق سريع الفهم، ويخرج من عندِهما في السَّحَرِ فيصبحُ مع قريش في مكة كأنه بات بها، فلا يسمع شيئًا يكيدون به النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبَه إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، فكان عينَهم ووسيلةَ إعلامِهم.

ورتب أبو بكر مع راعٍ له يدعى عامرَ بنَ فهيرةَ فأصبح يمر كل يوم بغنمه على آثار عبد الله بن أبي بكر يمحوها، ثم يسقي النبي وصاحبه من لبن هذه الأغنام، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم هاديًا خريتًا أمينًا يدلهما على طريق المدينة، وأهل الباطل في كل زمان ومكان، لا يفتأون يحاربون أهل الحق، حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا، فلما علمت كفار قريش بخروج النبي وصاحبه، اشتد طلبهما، ووضعا لذلك الجوائز الكبيرة، ووصل بعض الكفار إلى باب الغار، فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا"، فقال عليه الصلاة والسلام: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما"، وبعد أن هدأ الطلب خرجا مع دليلهما، فسلك بهما طريقًا غير الطريق المعتاد، وسار بهم حتى دخلوا المدينة في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، واستقبلهم أهل المدينة استقبال المحبين.

عباد الله:

كان المسلمون بمكة مستضعفين مكبوتين، وكانت الهجرة نقطة تحول عظيمة، من الضعف إلى القوة، وفي العام السابع عشر للهجرة، ظهرت الحاجة إلى التأريخ بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، فجمع عمر الصحابة ليشاورهم، فاختلفوا في الحدث الذي يؤرخ به، فقال بعضهم: نؤرخ ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: بل بمولده، وقال بعضهم: بوفاته، وقال آخرون: بهجرته، فقال عمر وهو المحدَّث الملهم: "الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها". [رواه ابن حجر في فتح الباري].

عباد الله:

في حدث الهجرة دروس وعبر، فمع أن النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي، إلا أنه أخذ بالأسباب، فخطط لهجرته تخطيطًا محكمًا، ومن ذلك أنه اختار صاحبه الذي أعد راحلتين عدة أشهر، ونسَّق مع غلام لا يشك فيه عادة ليزوده بالمعلومات، ومع راعٍ يأتيه بالطعام، ومع هادٍ يدله على الطريق، هذا فضلاً عن الذهاب من طريق غير المألوف.

وحاجة المسلم للتخطيط في حياته لا تتوقف، فهو بحاجة إليه لتأسيس نفسه، وإتقان عمله، ونشر دعوته، وتربية أولاده، ومن غفل عن التخطيط، ملأت حياتَه الفوضى، وبقي في هامش التاريخ، لا ينتفع بوقت، ولا ينتفع منه أحد.

وفي الهجرة درس بليغ في التضحية لهذا الدين، فقد ضحى الصحابة رضي الله عنهم بأهلهم وأموالهم وديارهم، ولم تكن الهجرة إلى المدينة سياحة رغبوا فيها، لكنها تكليف من تكاليف العقيدة التي آمنوا بها، وضرورة استلزمتها طبيعة رسالة الإسلام ووجوب إبلاغها.

وكانت أعظم التضحيات تضحية أبي بكر رضي الله عنه، الذي كان يسير في طريق الهجرة أمام النبي عليه الصلاة والسلام حينًا، وخلفه حينًا، وبقي معه في الغار رغم ما فيه من الأخطار، وقد حفظ الصحابة رضي الله عنهم لأبي بكر هذا الفضل، حتى أن عمر بلغه أن رجالاً فَضَلُّوه عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فقال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِتِلْكَ اللَّيْلَةُ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ. [رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي].

ومن مواقف التضحية العظيمة، نوم عليٍّ رضي الله عنه في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة، معرضًا نفسه للخطر امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.

جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين.


الخطبة الثانية:

الحمدلله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب حده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد أيها المسلمون:

فلما كان يوم الفتح وقف النبي صلى الله عليه وسلم في موضع يقال له الحَزْوَرَة، وقال يخاطب مكة: "وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ". [رواه الترمذي وصححه الألباني].

فإذا تبينَّا أن مكة خير أرض الله، وأنها كذلك الوطنُ الذي قضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم أغلبَ عمره، وأن الخروج منها تكتنفه العديد من المخاطر، علمنا أن مصلحة تحقيقِ التوحيدِ ونشرِ الدينِ أعظمُ من كلِّ مصلحةٍ، ولو كان الولاء للأرض لما ترك النبي مكة، ولو كان للقبيلة لما قاتل قريشًا، ولو كان للعائلة لما تبرأ من أبي لهب، ولكنها العقيدة أغلى من التراب والدم.

فعظموا رحمكم الله قدر التوحيد في قلوبكم، ونشئوا عليه أهلكَم وأولادكَم، وانشروه فيمن حولكم، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماع الاتباع، وثمرة العلم العمل، فتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في هذه الأيام من طاعته، وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.

المرفقات

من-قصة-الهجرة

من-قصة-الهجرة

من-قصة-الهجرة-2

من-قصة-الهجرة-2

المشاهدات 680 | التعليقات 0