درس مهم من خطبة حجة الوداع.
عبد الله بن علي الطريف
درس مهم من خطبة حجة الوداع. 3/12/1438هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
ثم أما بعد أيها الإخوة: حج النبي صلى الله عليه وسلم حجةً واحدة، كانت أعظم حجة في التاريخ وأفضلها، أقام فيها شعائر الله تعالى، وعَظَّمَ حرماته، وصدعَ بدينه، وبين للناس مناسكَهم، وخطبَ ينذرهم ويعلمهم ويبشرهم.
فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أُذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ، نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ، مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ، فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ «لَبَّيْكَ اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» وراح جابرٌ يصف حجة النبي وصفاً دقيقاً، وخطب في هذه الحجة ثلاث خطب نقف اليوم مع أول خطبة ألقاها في هذا الجمع العظيم الذي لم يجتمع لرسول الله جمع مثله.. وهي الخطبة التي ألقاها في عرَفات.. وفيها وضع صلوات ربي وسلامه عليه منهج حياة شامل للأمة لو تدبَّرها المسلمون في أي زمان وعملوا بما فيها، لكانت سببًا لسعادتهم في الدنيا والآخِرة..
ومما قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في وَصفِ الحَجَة: أَجَازَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. رواه مسلم
أيها الأحبة: هذه الخطبة فيها معانٍ عظيمة، وجمعت الأصول التي فيها صلاح الناس في معاشهم ومعادهم.. وسأقف وقفات سريعة مع جملة عظيمة منها استجلي بعض حكمها..
فلقد وضع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل أمر الجاهلية التي قبل الإسلام تحت قدميه فقال: «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ» وذلك كناية عن إبطاله وإهانته؛ لأن الناس جرت العادة أن الشيء المكرَّم يقال على الراس والمهان يقال تحت القدم، والمعنى أنها باطلة ومهينة لا عبرة بها وهذ عام في جميع أمور الجاهلية، فلا كِبر، ولا بطَر، ولا أشَر، ولا فضْل لقبيلةِ على قبيلةِ ولا جنسية على أخرى، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح، وغير ذلك من أمور الجاهلية، فيكون بهذا الإعلان العام محو لأمور الجاهلية كلها ولا اعتماد عليها ولا رجوع إليها..
وتوارث الخلفاء الراشدون، ومن سار على نهجهم من السلاطين والملوك خدمة هذه المشاعر قياماً بواجبهم بأن أكرمهم الله برعاية حرمه، وخدمة لمن يؤمه من وفود الرحمن من المسلمين وتسهيلاً لأداء نسكهم، واحتساب ذلك عند الله تعالى.. وقاموا بتمثُل هذه المبادئ العامة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم حفاظاً على لحمة الأمة وقياماً بواجب تسهيل مناسكهم ورعايتها..
وهذا يقتضي وضع نظم تكفل ضبط سير الحج، وتسهيل النسك وحفظ الأنفس والممتلاكات التي حرمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الخطبة العظيمة..
فمنعت الدولة وفقها الله تسييس الحج وهو إضفاء طابع سياسي على الحج وجعله وسيلة إلى تحقيق أهداف سياسية أو إبراز أفكار أو خلافات مذهبية من خلال التجمعات والمسيرات والخطب والشعارات المكتوبة أو الهتافات المذهبية، مهما كانت فقد قال الله تعالى عن الحج: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ...) [البقرة:196] قال الشيخ السعدي رحمه الله: "فيه الأمر بإخلاصهما لله تعالى" وعليه: من دعا أو هتف بغير ذكر الله سواء كانت الهتافات مذهبية أو حزبية أو قبلية أو سياسية فقد انخرم إخلاصه ولُبِسَ حجه..
وقد وضع رسول الله كل ذلك تحت قدمه تخليصاً للأمة من كل سوء، وكل اعتبار بشري، خصوصاً في هذه العبادة العظيمة والمنسك الشريف المعظم، وجهر به في أعظم مجمع لهم وهو اجتماع عرفة.. واستشهدهم على أنفسهم فقال: وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ..
أحبتي: وما زُرع بلاءُ تسييس الحج بالأمة وظهر إلا بعد ثورة الخميني التي سعت إلى تسييس الحج.. ثم تعالت بعض الأصوات التي تنادى بهذا الزيف..
ووالله لو مكن كل أهلُ مذهبٍ وجامعة أو اتجاه أو قبيلة أو عرق في الأمة من تسويق مذهبهم والدعوة إليه، والهتاف برموزه مع كثرة الاتجاهات والمذاهب والجماعات في الأمة.. لانفتح باب شر عظيم، وأصبح الحج مهلكة وصار لغير الله. لذلك أخذت هذه الدولة وفقها الله بالمبدأ الذي أعلنه خير البرية بقوله الكريم: «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ».. وحق علينا تبليغ هذا المبدأ والدعوة له والدعاء لمن يحرسه ويقوم عليه بالتوفيق والتسديد دون خجل أو مواربة..
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يحفظ ولاة هذه البلاد ويعينهم على إدارة الحج كما يريد الله ورسوله .. "لله رب العالمين لا شريك له" ويقمع كل محاول للعبث بأمن الحجيج والمشاعر.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد..
الثانية:
أما بعد: ومما رأته الدولة وفقها الله حماية للحجيج، ورعاية لهم من الأذى تحديد نسب الحج الذي وافقت عليه جميع الدول الإسلامية دون تحفظ إلا من دولة البغي والمكيدة وداعية الفرقة والقضاء على السنة حكومة إيران وأفراخ الخميني الهالك.. وإمعاناً بصدقية هذه البلاد وهي راعية الحرمين الشرفين حفظها الله طبقت هذا النظام على المواطنين فيها والمقيمين، وزيادتاً بالضبط جعلته اكترونياً، ورتبت على المخالفين له عقوبات شديدة وغرامات مالية.. وحقٌ على كل مسلم أن يسمع ويطيع، وهناك من سبل الخير ما لا يحصى ومن نوى الحج ولم يتيسر له كتب له أجرُ الحج ومن أعان حاجاً أو خلفه في أهله فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الحاج شيئاً.. كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك..
وذلك منعاً للكثرة والزحام والتزاحم الذي نهى عنه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَنْ سُلَيْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ رَاكِبٌ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَرَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ يَسْتُرُهُ فَسَأَلْتُ عَنْ الرَّجُلِ فَقَالُوا الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ فَقَدْ ازْدَحَمَ النَّاسُ أَمَامَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَإِذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ. رواه أبو داود وحسنه الألباني.
والمقصود الأعظم من هذا التنظيم ليس منع حجاج الفريضة من الحج، وإنما منع التكرار المتواصل، وإتاحة الفرصة لأهل الفريضة.. خصوصا بهذا الزمان الذي انفتح به الإعلام وانتشر دين الله في كلِ بيتِ مدرٍ وحجرٍ، وصار الناس يرون مكة والمدينة ولا تغيب عن أعينهم طرفة عين؛ فصار حلم كل مسلم أن يأتي لأداء فريضة الحج..
واخرجوا لصلاة العيد مهللين ومكبرين ومحمدين وستقام صلاة العيد إن شاء الله الساعة السادسة صباحاً.. وحيث وافق العيد يوم الجمعة فمن حضر إحدهما سقط وجوب الأخرى عنه وستقام صلاة الجمعة كما هي في الجوامع.. وأكدت إدارة المساجد بعدم فتح مساجد الأوقات لصلاة الظهر كما هي السنة فليتنبه لذلك..