دَرْسٌ عَظِيمٌ مِنَ أيَّامٍ مَعلومَاتٍ وَمَعْدُودَاتٍ مَضَتْ: مُرَاقَبَةُ اللهِ
مبارك العشوان 1
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ... أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ... مُسْلِمُونَ.
عِبَادَ اللهِ: أيَّامٌ مَعْلُوْمَاتٌ وَمَعْدُوْدَاتٌ مَضَتْ؛ فِيهَا زَكَاءٌ لِلنُّفُوسِ؛ وَطَهَارَةٌ لِلْقُلُوبِ، فِيْهَا رِفْعَةٌ لِلدَّرَجَاتِ، وَتَكْفِيرٌ للِسَّيِّئَاتِ.
أيَّامٌ مَضَتْ؛ هِيَ خَيْرُ أَيَّامِ الدُّنْيَا؛ فِيهَا مِنَ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ مَا يَنْبَغِي أنْ يَبْقَى لَهُ كَبِيرُ الأثَرِ فِي حَيَاتِنَا؛ وَيَكُونَ حَالُنَا بَعْدَهَا خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَهَا.
دُرُوسٌ فِي العَقِيدَةِ الصَّحِيْحَةٍ، وَالتَّوحِيدِ الخَالِصِ، وَنَبْذِ الشِّرْكِ وَوَسَائِلِهِ، دُرُوسٌ فِي مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، وَحُسْنِ التَّعَامُلِ، دُرُوسٌ فِي الصَّبْرِ بِأَنْوَاعِهِ.
وَحَدِيثُ اليَومِ ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ عَنْ وَاحِدٍ هُوَ مِنْ أبرَزِ وَأَجَلِّ دُرُوسِ تِلْكَ الأَيَّامِ.
إِنَّهُ: مُرَاقَبَةُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتَمَامُ الِانْقِيَادِ لَهُ جَلَّ وَعَلَا وَتَعْظِيمُ أَوَامِرِهِ، وَأَوَامِرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَنَوَاهِيهِ، وَالوَقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ شَرْعِهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَهَذَا أصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا عَدَّدَ شَيْخُ الإِسْلَامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ: الأُصُولَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُهَا؛ قَالَ: الأَصْلُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلَامِ بِالأَدِلَّةِ، وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ بِالتَّوحِيدِ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالخُلُوصُ مِنَ الشِّركِ.
عِبَادَ اللهِ: يَظْهرُ هَذَا الِانْقِيَادُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ: ( إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ ). لَمَّا جَاءَ الأَمْرُ؛ جَاءَ مَعَهُ التَّعْظِيمُ وَالِامْتِثَالُ، وَتَمَامُ الِانْقِيَادِ فَأَمْسَكَ المُضَحُّونَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى ضَحَّوا.
جَاءَ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِ مَا يُضَحَّى بِهِ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ فَجَاءَ الِالْتِزَامُ بِهَذِهِ الْأَصْنَافِ، وَجَاءَ تَحْدِيدُ السِّنَّ المُعْتَبَرِ فِيْهَا؛ فَجَاءَ مَعَهُ الِالْتِزَامُ بِهَذَا السِّنِّ؛ وَلَو كَانَ مَا دُونَهُ أَشْهَى مِنْهُ لَحْمًا، وَجَاءَ تَحْدِيدُ العُيُوبِ المَانِعَةِ مِنَ الإِجْزَاءِ؛ فَرَأَيْتَ النَّاسَ يَتَفَقَّدُونَ أَضَاحِيَهُمْ عِنْدَ شِرَائِهَا وَيَجْتَنِبُونَ مَا كَانَ مِنْهَا مَعِيْبًا، وَجَاءَ تَحْدِيدُ وَقْتِ الذَّبْحِ بِدَايَةً وَنِهَايَةً؛ فَجَاءَ مَعَهُ الْتِزَامُ كُلِّ ذَلِكَ.
وَهَكَذَا ـ عِبَادَ اللهِ ـ فِي الحَجِّ؛ جَاءَ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِ مَوَاقِيْتِهِ الزَّمَانَيَّةِ؛ فَالْتَزَمَهَا الحَاجُّ، وَالمَكَانِيَّةِ؛ فَالْتَزَمَهَا، وَمَحْظُورَاتِ الإِحْرَامِ فَاجْتَنَبَهَا، وَحَدَّدَ الشَّرْعُ الوُقُوفَ بِعَرَفَةَ اليَومَ التَّاسِعَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ فَالْتَزَمَ الحُجَّاجُ المَكَاَنَ وَالزَّمَانَ، وَهَكَذَا المَبِيْتَ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ العِيدِ فَالْتَزَمُوا؛ وَالطَّوَافَ بِالبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَالسَّعْيَ سَبْعَةً، وَرَمْيَ الجَمْرَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ؛ فَالْتَزَمُوا ذَلِكَ؛ زَمَانًا وَمَكَانًا وَكَيْفِيَّةً وَعَدَدًا.
يُؤْمَرُونَ بِالذَّبْحِ لِلَّهِ؛ فَيَذْبَحُونَ لَهُ، يُؤْمَرُونَ بِالحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ فَيَحْلِقُونَ أَوْ يُقَصِّرُونَ، يُؤْمَرُونَ بِالإِحْرَامِ فَيُحْرِمُونَ، وَبِالإِحْلَالِ فَيُحِلُّونَ.
تَعْظِيمًا لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَوُقُوفًا عِنْدَ حُدُودِهِ.
عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ بَعْضُ مَظَاهِرِ الِانْقِيَادِ؛ وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ.
فَلْيَكُنْ هَذَا حَالُنَا طِيْلَةَ حَيَاتِنَا، لَا تَتَوَانَ يَا عَبْدَ اللهِ فِي شَيءٍ أَمَرَكَ اللهُ بِهِ، ولَا تُقْدِمْ عَلَى شَيءٍ نَهَاكَ اللهُ عَنْهُ، اجْتَهِدْ فِي الطَّاعَاتِ، وَابْتَعِدْ عَنِ المُحَرَّمَاتِ، احْرِصْ غَايَةَ حِرْصِكَ أَنْ لَا يَرَاكَ اللهُ تَعَالَى حَيْثُ نَهَاكَ، أَوْ يَفْقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ.
جَعَلَنِي اللهُ وَإيَّاكُمْ مِمَّنْ يَمْتَثِلُ أَمْرَهُ، وَيَجْتَنِبُ نَهْيَهُ وَيُعَظِّمُ شَعَائِرَهُ، وَيَلْتَزِمُ حُدُودَهُ، وَمِمَّنْ يَسْتَمِعُ الْقَولَ فَيَتَّبِعُ أَحْسَنَهُ.
وَبَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ... وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ... أَمَّا بَعْدُ: فَلْتَكُنْ هَذِهِ الدُّرُوسُ فِي مُرَاقَبَةِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا وَالوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ مَنْهَجًا نَسِيرُ عَلَيهِ طِيلَةَ حَيَاتِنَا.
مَا أَذِنَ الشَّرْعُ لَكَ بِفِعْلِهِ فَافْعَلْهُ، وَمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ فَاجْتَنِبْـــهُ: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } الحشر 7
مَا أَذِنَ الشَّرْعُ لَكَ بِقَوْلِهِ فَقُلْهُ، وَمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ فَكُفَّ لِسَانَكَ عَنْهُ: ( وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ) أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
مَا أَذِنَ الشَّرْعُ لَكَ أَنْ تَتَمَتَّعَ بِهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَلِبَاسٍ فَتَمَتَّعْ بِهِ؛ وَمَا لَمْ يَأْذَنْ فَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ؛: ( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ ) أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
مَا أَذِنَ الشَّرْعُ لَكَ أَنْ تَتَمَتَّعَ بِهِ مِنْ نَظَرٍ وَشَهْوَةٍ فَتَمَتَّعْ بِهِ؛ وَمَا لَمْ يَأْذَنْ فَالحَذَرَ الحَذَرَ: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ... } النور 30ـ 31
مَا أَذِنَ الشَّرْعُ لَكَ بِهِ مِنَ المُعَامَلَاتِ فَتَعَامَلْ بِهِ؛ وَمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ فَاتْرُكْهُ: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } البقرة 275 السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ ـ عِبَادَ اللهِ ـ هِيَ مَا يَجِبُ أنْ يَكُونَ عَلَيهِ المُؤْمِنُ طِيْلَةَ عُمُرِهِ؛ { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } النور 51ـ 52
عِبَادَ اللهِ: وَلْتَكُنْ هَذِهِ الدُّرُوسُ فِي مُرَاقَبَةِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا وَتَعْظِيمِ أَوَامِرِهِ وَالوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ مَنْهجًا نُرَبِّي عَلَيهِ أَبْنَاءَنَا وَمَنْ تَحْتَ رِعَايَتِنَا؛ فَمَنْ تَرَبَّى عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ، وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ؛ وَأَنَّهُ: { يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } الأنعام 59
مَنْ تَرَبَّى عَلَى هَذَا؛ فَعَلَ مَا يَفْعَلُ إِرْضَاءً لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَابْتِغَاءً لِثَوَابِهِ؛ وَتَرَكَ مَا يَتْرُكُ إِرْضَاءً لِلَّهِ وَخَشْيَةً لِعِقَابِهِ.
مَنْ تَرَبَّى عَلَى هَذَا، وَتَهَيَّأَتْ لَهُ المَعْصِيَةُ يَومًا، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا، وَغَابَ عَنْ أَنْظَارِ البَشَرِ؛ عِنْدَ ذَلِكَ سَيَرْدَعُهُ خَوفُ اللهِ وَرَجَاؤُهُ، وَعِلْمُهُ بِاطِّلَاعِ اللهِ عَلَى كُلِّ أَحْوَالِهِ.
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ.
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ يُغْفِلُ مَــــا مَضَى ... وَلَا أنَّ مَا يُخْـفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا ... اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ... اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا... عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ...