دَرْبُ الْهِجْرَان ( الجمعة 1442/8/13ه )ـ
يوسف العوض
الخطبة الأولى
أَنَّ هَجرَ الْإِخْوَانِ والخِلّانِ أَشَدُّ ظلماً وإيلاماً مِن هَجْرِ الْأَوْطَانِ والبُلدانِ ، لَقَد صِرنا إلَى زمنٍ أَصْبَحَ فِيه الفَصلُ يَفُوق الْوَصْلَ ، والشِدةُ تَغلب المودّةَ ، وَغَدا دَرْبُ الهِجرانِ أَكْثَرَ إيلافاً مِن دَرْبِ الْغُفْرَانِ ، وَانْقَطَعَ الْإِغْضَاءُ عَنْ الزلّاتِ ، وَالتَّجَاوُزُ عَنْ السِّيئاتِ بفِعلِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ والجانِّ .
للهِ درُّ الحِلم مَا أعقَله ! ذُو الحِلم يَنبُذ الْغَضَب ويتحلّى بالتَّؤدَة ، فَلَا يُفرِّط فِي أَصْحَابِهِ ، وَلَا يتعجَل فِي أَحْكَامِهِ ؛ حطَّ الحِلمُ رِحَالِه عِنْد ثُلَّةٍ مِن الأوّلين ، وَقَلِيلٍ مِنْ الْآخِرِينَ ، فَكَانَ مِنْ الحُلماء مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي دفعَه حِلمُه إلَى أَنْ يَحْفَظَ مَا يصلُه بِالنَّاسِ وَلَوْ شَعْرَةً ، فَكَانَ إذَا جذبوها أرسَلها ، وَإِذَا أَرْسَلُوهَا جذَبَها ، فَلَا تَنْقَطِعُ عَلَى وهْنِها ودِقَّتها !
إنَّ احْتِمَالَ السُّفهاءِ خيرٌ مِن مُبارَزتهم ، وَالْإِغْضَاءَ عَنْ الجُهلاءِ خيرٌ مِن مُشاكَلتهم ، إنَّ كَبِيرَ الشَّيَاطِين اللَّعِين يُرسل سَرَايَاه فِي النَّاسِ كُلَّ يَوْمٍ فَلَا يكفُّ جُنُودُه عَن التَّحريشِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِفْسَادِ ذاتِ بينِهم ، وضرْبِ قلوبِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : « إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِس أَن يعبُده المصلّون . . وَلَكِنَّهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنْ التَّحريش بَيْنَهُم » رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَلَا يَرْضَى إبْلِيسُ عَن قبيلِه إلّا أَن يفتِنوا المؤمنَ عَن دِينه ، أَو يُفرِّقوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ وَإِخْوَانِه ! الْقُلُوب المتَخاصِمة تُصاب بِالْجَفَاء كَمَا تُصاب الْأَرْض اليابسةُ الَّتِي حُبِس عَنْهَا قَطر السَّمَاء ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ الْجَفَاءِ أَنْ يتحوَّل إلَى عداءٍ فَإِلَى تدابُرٍ وَانْقِطَاع ، وتُصبِح الْقُلُوبُ الَّتِي تَنافَر وُدُّها مثلَ الزُّجَاجَة كَسْرُها لَا يُجبر ! ، لَقَد نهَت السُّنَّةُ النبويّةُ عَن التقاطُعِ ، وعدَّت وُقُوعُهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ ، فَقَال نبيُّ الهُدى وَالرَّحْمَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « لَا تَقاطَعوا وَلَا تَدابَروا وَلَا تَباغَضوا ، وَلَا يحلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ » رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ؛ وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحُرمةِ الْقَطِيعَةِ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ كَمَا يَظْهَرُ صريحاً فِي قَوْلِهِ : « لَا يحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مؤمناً فَوْقَ ثَلَاثٍ ، فَإِن مرّتْ بِه ثلاثٌ فلْيَلقَهُ فلْيُسَلِّم عَلَيْه ، فَإِن ردَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ ، وَإِنْ لَمْ يردَّ عَلَيْهِ فَقَدْ باءَ بِالْإِثْم وخرجَ المسَلِّم مِنْ الْهِجْرَةِ » رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، والأخَوانِ الّلذان تصارَمَ وِدُّهُما ، وانبتَّت آصرتَهُما ، يبوءان بالخُسران ، وَيَقَعَان فِي الحِرمان ، مَا دَامَا عالِقَين فِي مَصَائِدِ الشَّيْطَانِ ، فَقَد أخْبَرت السنّةُ الشَّرِيفَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ الأعمالَ تُعرَضُ فِي كلِّ يومِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فيغفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشرِك بِاَللَّه شيئاً إلاّ امرأً كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْناء ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { اتْركوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطلِحا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَمَا أغربَ أمرُ الْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ فأزاغَه عَنْ فَضِيلَةِ الصفحِ وَالْغُفْرَان ، وخُلُقِ الإغْضاءِ والنِّسيانِ ، حِين تَرَاه وَهُو مُقاطِعٌ أصدَقَ الْإِخْوَان وأقربَ الخِلّان ، يُحافظ عَلَى مَوَدَّته ، ولُطفِ مَعشرِه ، ورِقَّةِ مَشاعره مَع أناسٍ لَا تربِطُه بِهِم مِن وشائجِ المِلّةِ أَو القَرابةِ أَو الأُلفَةِ إلَّا مِثْلُ خيوطِ أوْهَنِ البُيوت ! فبأيِّ حقٍ يُتَّخَذ مِيزانِينِ ويكيلُ بمِكْيالَينِ ؟ !
الخطبة الثانية
ُإنَّ قطْعَ حِبالِ الْإِخْوَةِ هُوَ مِنْ خِصَالِ الفُسوق والعِصيانِ ، وَلَيْس خِصالَ الْإِيمَانِ ، وَهُو طَاعَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَمَعْصِيَةٌ لِلرَّحْمَن ، فَاَللَّهُ تَعَالَى يأمُر الْمُؤْمِنِين بِإِصْلَاحِ ذاتِ البَين فِي قَوْلِهِ : ( فَاتَّقُوا اللهَ وأصلِحوا ذاتَ بَيْنَكُم ) فَدَعُوةُ اللَّهِ تَعَالَى إلَى إصْلَاحِ ذاتِ الفُرقةِ ، وإصلاحُهُما يَكُون بِإِزَالَة أَسْبَابِ الخِصام ، أَو بِالْعَفْوِ وَالْإِحْسَان ، كَمَا يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُصلِحوا بَيْن الـمُتخاصِمين فِي قَوْلِهِ : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخوةٌ فأصْلِحوا بَيْن أخوَيكم ) ، وَبِهَذَا النِّداءِ الرَّبَّانِيِّ سَارَعَ الطائعون إلَى تَنْفِيذِ أَمَرِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ حرَجٍ أَوْ إبْطَاءَ ، قِيلَ إنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْحَسَنِ والحُسين كَلَامٌ فَقِيل لِلْحَسَين : « ادخل عَلَى أَخِيك فَإِنَّه أَكْبَرُ مِنْكَ » ، فَقَال : إنِّي سمعتُ جَدي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : « أيُّما اثْنَيْنِ كَانَ بَيْنَهُمَا كَلَام فَطَلَب أَحَدُهُمَا رِضَا الْآخَرِ كَانَ سابقَه إلَى الْجَنَّةِ ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أسبِق أَخِي الْأَكْبَر » ، فَبَلَغ قولُه أَخَاه ، فَأَتَاه عاجلاً وَأَرْضَاه !
.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق