دراسة: مرض السكري والصوم د. عبدالرحمن بن عبدالله السند
الفريق العلمي
1435/09/05 - 2014/07/02 13:26PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه
وبعد: فلقد جاء الله جل وعلا بدين عظيم، وشرع متكامل لجميع شؤون الحياة ومقوماتها، شرعٌ {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}(1)، شرعٌ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(2)؛ حدّ الله سبحانه وتعالى فيه لعباده حدوداً منضبطة واضحة، لا يتعداها إلا الظالمون، كما قال سبحانه: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}(3).
وقد نهى الله تعالى عباده عن نواهٍ ومحرمات، وفرض عليهم فرائضَ وواجبات؛ ولعِلْم الله سبحانه وتعالى بالعوارض التي تعرض لعبيده، ورحمته بهم، وتيسيره عليهم، كما قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْـــــعَهَا}(4)، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(5)، وقال: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (6)، وقال: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} (7)؛ فقد أناط فِعْل الواجبات بالاستطاعة، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(8)، وتَرْك المحرمات بانعدام الحاجة والضرورة، كما قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}(9)، فله جل وعلا عظيم الشكر والامتنان.
وإن من جملة ما أوجبه الله تعالى على عبيده؛ صومَ شهر رمضان، أحدُ أركان الإسلام، ومبانيه العظام. ولما كان العبد ضعيفاً لا يخلو من أسقام الحياة وأمراضها، التي كتبها الله تعالى على عباده، مما لا يستطيع معه القيام بهذا الواجب، في بعض الأحوال والأعراض، فقد أباح له الشارع الإفطار وقضاء الصيام، قال تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (10).
ومع هذه الرخصة الشرعية، يحصل لعدد من المرضى، القدرة على الصيام، والاستغناء عن الطعام والشراب، مع تعاملهم بالدواء، الذي اختلفت صوره وأشكاله وطرق تعاطيه في العصر الحديث، مما حيّر المريض في سلامة صومه مع تناوله للدواء، وأصبح بحاجةٍ إلى من يبين له الحكم الشرعي اللائق بنفسه وحاله.
وقد بات الأمر بجواز الإفطار من عدمه، وتحديد ما يدخل في ذلك وما يندّ عنه؛ من المسائل التي كثر الخلاف فيها وانتشر، لأسبابٍ عديدة، من أبرزها في تقدير الباحث: ندرة وجود دراسات أو جهات، تشترك فيها الخبرة الطبية، مع العلم الشرعي، حتى تخرج الأحكام والفتاوى والقرارت، بتأصيلٍ علميٍ ناضج، مبنيٍّ على أسسٍ شرعية، ودرايةٍ طبيةٍ عملية.
مما يتعين معه من أهل العلم والفقه والرأي، أن يساهموا في حسم هذه المسائل، أو تضييق فجوة الخلاف فيها بين الفقهاء والباحثين والمفتين.
وهذا ما أراه من توفيق الله تعالى لهذا المجمع المبارك، الذي اختار هذا الموضوع (مرض السكري والصوم)، من ضمن الموضوعات التي ستناقش في هذه الدورة.
وأزيد كيل الشكر وعظيم التقدير، لأمانة المجمع، عندما لحظت في خطاب الاستكتاب، جنوحهم في محاور البحث، إلى التأصيل والتقعيد، بعيداً عن الإغراق في التمثيل. إذ لا يخفى على الفقيه، أن الاختلاف في تحقيق المناط، أوسع من الاختلاف في تحديده.
ولا أخفي عتبي على المجمع، عندما عرض طرفاً من الموضوع في دورةٍ سابقة، قبل أكثر من (12) سنة(11)، بعنوان (المفطرات في مجال التداوي)، وقد حفل الموضوع بأبحاث متينة، شرعية وطبية، وجاء في مثانيه تعاليق قيمة، وإضافات ساخنة، قد أثرت الموضوع، وفتّقت الأذهان.
إلا أن ما عابه في الأخير؛ صيغة القرار، التي قضت على كثيرٍ من زينة الموضوع وما حمله من جديد؛ إذ ضرب القرار صفحاً، عن التأصيل العلمي، ووضْعِ الأطر والضوابط التي يمكن أن يهتدي بها الباحث والفقيه، واختصر الموضوع بتعداد المفطرات بالأمثلة المجردة، وأجّل إصدار قرار في عدد من الصور لمزيد البحث والدراسة.
وكلي رجاء؛ في هذه الدورة، أن يتجه المجمع الموقر؛ لإصدار قرارٍ يحمل معايير وضوابط شرعية، لما يفطر وما لا يفطر، ويترك تنزيل الصور لاختلاف النظّار ورأي المُجتهدين.
ومما يبعث في النفس الأمل، أن معالي الأمين الحالي للمجمع، كان أحد المنادين لأن تتجه لجنة الصياغة إلى وضع ضوابط في ذلك، في الدورة المشار إليها(12).
وإن اختيار مثل هذا الموضوع (مرض السكري والصوم)، كنموذج ومثال، لا يؤثر في تقرير الضوابط في شيء.
وأعتذر عن الإطالة في المقدمة، إلا أني أحسب أن تقديمها بين يدي الموضوع، يُفسّر تركيز هذا البحث على جانب التأصيل، واستخلاص الضوابط الشرعية التي تحكم (المريض)، و(المرض)، و(الدواء)؛ في مجال الصيام، وما كان (مرض السكري) إلا مجرد أنموذجٍ على ذلك. ولذا فقد ارتأيت أن ينتظم الموضوع، في المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف الصوم.
المبحث الثاني: حد المرض المبيح للفطر.
المبحث الثالث: مدرك الخلاف في مناط الإفطار:
المطلب الأول: العلة الجامعة لمفسدات الصيام.
المطلب الثاني: الجوف المعتبر في الإفطار.
المطلب الثالث: المنافذ المعتبرة في الإفطار.
المبحث الرابع: اعتبار رأي الطبيب المعالج وشروطه.
المبحث الخامس: قضاء المريض للصوم وأحواله.
المبحث السادس: الضوابط الشرعية لـ: (المريض)، و(المرض)، و(الدواء)؛ في مجال الصيام.
المبحث السابع: دراسة تطبيقية لمرض السكري.
المطلب الأول: تعريفه.
المطلب الثاني: أنواعه.
المطلب الثالث: التصنيف الطبي للحالات المرضية لمرضى السكري.
المطلب الرابع: مدى توافر الضوابط الشرعية في الحالات المرضية المذكورة، من حيث جواز الصيام من عدمه.
وهذا أوان الشروع في المقصود.
المبحث الأول
تعريف الصوم
تعريفه لغة:
هو الإمساك عن الشيء، والترك له.
ومنه ترك (=الإمساك عن) الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير(13).
تعريفه في الاصطلاح:
جاء في المبسوط للسرخسي: (الصوم في الشريعة عبارة عن: إمساك مخصوص؛ وهو الكف عن قضاء الشهوتين، شهوة البطن وشهوة الفرج، من شخص مخصوص؛ وهو أن يكون مسلماً طاهراً من الحيض والنفاس، في وقت مخصوص؛ وهو ما بعد طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، بصفة مخصوصة وهو أن يكون على قصد التقرب، فالاسم الشرعي فيه معنى اللغة) (14).
وقال ابن عبدالبر في الكافي: (معنى الصيام في الشريعة: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع) (15).
وجاء في مغني المحتاج: (الصوم شرعاً: إمساك عن المُفطّر، على وجه مخصوص) (16).
وقال ابن قدامة: (الصوم في الشرع عبارة عن: الإمساك عن أشياء مخصوصة، في وقت مخصوص... والصوم المشروع هو: الإمساك عن المفطرات، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس) (17). وتعريفه الثاني أبْيَن.
وتعريف السرخسي من أجود التعريفات وأشملها، وما أشار إليه في آخر كلامه من مُقاربة التعريف الشرعي للتعريف اللغوي، ظاهر جداً.
المبحث الثاني
حد المرض المبيح للفطر
يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(18).
فهذه الآية الكريمة نص واضح في أن المريض من أصناف المعذورين من الصيام، وجواز قضائه بعد حين.
وليس هذا محل خلاف أو إشكال، وإنما المقصود: هل كل مريض يباح له ذلك؟
ظاهر الآية الكريمة أن كل من شمله مسمّى المرض هو كذلك، حتى لو كان وجع الإصبع، وهو ما ذهب إليه أفراد من السلف(19)؛ إلا أن هذا الظاهر غير مراد بالتأكيد، كما تتابعت عليه أفهام جماهير السلف والعلماء.
فقد ذهب جمع من السلف إلى أنه المرض الذي لا يطيق صاحبه معه القيام لصلاته، وذهب آخرون إلى أنه: كل مرض كان الأغلب من حال صاحبه مع الصوم أن يزيد في علته زيادة غير محتملة(20).
فليس كل مرض يباح معه الفطر، كما أنه ليس كل مرض يباح معه التيمم.
ولذلك قال الشافعي، وهو من هو في الفقه واللغة:
(المرض: اسمٌ جامعٌ لمعانٍ، لأمراض مختلفة، فالذي سمعتُ: أن المرض الذي للمرء أن يتيمم فيه: الجراح) (21).
فهذا التقرير نفيس جداً، يبين أن المرض له إطلاق واسع، وليس المراد بإطلاق الشارع له، كل ما يجمعه اسم المرض من معنى، وإنما المراد: المعنى الذي تحققت فيه العلة التي من أجلها أباح الشارع الرخصة فيه(22).
ولذلك قال ابن قدامة: (المرض لا ضابط له، فإن الأمراض تختلف، منها ما يضر صاحبه الصوم، ومنها ما لا أثر للصوم فيه... فلم يصلح المرض ضابطاً، وأمكن اعتبار الحكمة: وهو ما يُخاف منه الضرر، فوجب اعتباره بذلك)(23).
فالتحقيق أن من كان الصوم يجهده جهداً غير محتمل، سواءٌ بتأخر برئه، أو بزيادة مرضه، فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر، وذلك بأنه إذا بلغ ذلك الأمر به هذا المبلغ، ولم يؤذن له في الإفطار، فقد كلفناه عسراً ومنعناه يسراً، وذلك خلاف ما أخبر الله به في الآية نفسها بقوله: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
وأما من كان الصوم لا يُجهده، فإنه بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم، فعليه أداء فرضه، وصوم الواجب في وقته، وإيجابنا له ذلك ليس فيه عسر، كما أن إباحتنا له الإفطار ليس فيها مزيد يُسر، وهو المعنى الذي لأجله أباح الشارع للمريض الترخص في الإفطار، وبزوال العلة يزول الحكم(24).
قال ابن قدامة: (المرض المُبيح للفطر، هو الشديد الذي يزيد بالصوم، أو يخشى تباطؤ برئه) (25).
ويلحق به: الإنسان الصحيح، لكن يخشى المرض فيما لو صام، قال ابن قدامة: (والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام؛ كالمريض الذي يخاف زيادته في إباحة الفطر؛ لأن المريض إنما أُبيح له الفطر؛ خوفاً مما يتجدّد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله، فالخوف من تجدد المرض في معناه) (26).
وليس (خشية المرض) على إطلاقها بالتأكيد، بل المقصود: حصول يقين، أو ظن غالب، بحصول المرض(27).
وأحسب أن هذا التقرير كافٍ، وإلا ففي البحث زيادة لمستزيد، ويحتمل تشقيق المسألة، إلى تحديد ضابط المشقة التي يباح معها الصيام، وإن كان ضبط مثل ذلك لا مطمع فيه، إذ ليس بالوسع اعتماد حدٍّ في ذلك، وماذاك إلا أن الشارع لم يقصد - والله تعالى أعلم- تحديد ذلك، فلِمَ نتكلّف ما لم يكلّفنا الله تعالى به؟
يؤيد ذلك أن جملةً من التخفيفات الشرعية، قد أقام الشارع فيها السبب مقام العلة، مما يؤكد أن المشقة المعتبرة في التخفيفات ليس لها ضابط مخصوص، ولا حد محدود يطّرد في جميع الناس.
فكانت الرخصة إضافية بالنسبة إلى كل مُخاطبٍ بنفسه، بمعنى أن كل أحدٍ -في الأخذ بالرخصة- فقيهُ نفسه، ما لم يحد فيها حد شرعي فيقف عنده(28).
فالواجب على العالم والفقيه والمفتي أن يبين حكم الله تعالى للعامي والسائل، وأن يُفهِمَه حدود الرخصة الشرعية، وأما ما وراء ذلك فليس من مهمته، إذ يُديّن السائل فيما بينه وبين الله تعالى، في دخول محله أو حاله أو زمانه أو مكانه في حدود الرخصة، وهو ما يسمى بتحقيق المناط.
إن تقرير ما تقدم، كفيلٌ بالإجابة عمّا جاء في خطاب الاستكتاب من طلب بيان مدى اختلاف حكم الصوم في الحالات المرضية، بحسب: الحالة العمرية للمريض (كبار السن)، وحالة الحمل (للمرأة)، ونحو ذلك.
• خلاصة ما تقدم:
أن المريض الذي يباح له الفطر له أحوال:
1- المريض الذي لا يطيق الصوم بحال، ولا يقدر عليه؛ فهذا غير مكلّف به. وينبغي أن يكون حكم مثل هذه الحال، من المعلوم بالضرورة للعامي قبل العالم.
قال الشاطبي: قد وقع (الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة)(29).
والفطر في حقه حتم لازم.
قال ابن العربي: (المريض الذي لا يطيق الصوم بحال، فعليه الفطرُ واجباً) (30).
ولو صام فأضرّ نفسه، فلا أتورّع عن القول بتأثيمه وظلمه لنفسه؛ لتعديه وتفريطه في المحافظة على صحته وجسده.
2- المريض الذي يقدر على الصوم، لكن بجهد وكلفة ومشقة، بحيث يتأخر برؤه وشفاؤه.
3- أو يزيد مرضه ويتضاعف.
4- الصحيح الذي يخشى بصيامه المرض، خشية جازمة أو غالبة.
فهؤلاء ممن يشملهم معنى المرض المبيح للفطر(31).
وحكمهم حكم العاجز عن الصيام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن (مما ينبغي أن يُعرف: أن الاستطاعة الشرعية المشروطة في الأمر والنهي؛ لم يكتف الشارع فيها بمجرد المُكنة ولو مع الضرر، بل متى كان العبد قادراً على الفعل مع ضررٍ يلحقه، جُعل كالعاجز، في مواضع كثيرة من الشريعة) (32).
أما المريض الذي لا يجد عُسراً أو حرجاً في صومه، فالصوم في حقه واجب، وما به من مرض لا يُبيح له الفطر.
وهذه قاعدة ضابطة في ذلك: (المشقة المُحتملة المعتادة)، فإن لم تكن كذلك؛ جاز معها الفطرُ للمريض.
والجواز واللزوم متناسب مع شدة المشقة وخفتها، فكلما زادت المشقة زاد لزوم فطره.
قال الشافعي: (والحال التي يترك بها الكبير الصوم أن يكون يجهده الجهد غير المُحتمل، وكذلك المريض... وإن زاد مرض المريض زيادة بينّة: أفطر، وإن كانت زيادة مُحتملة: لم يفطر..) (33).
وبالله تعالى التوفيق.
المبحث الثالث
مدرك الخلاف في مناط الإفطار
المطلب الأول
العلة الجامعة لمفسدات الصيام
إن الحديث في هذا المطلب، من مفاصل البحث في نظري، بل أكاد أجزم أن أصل الخلاف القائم بين الفقهاء والباحثين، في المفطرات المعاصرة، لا سيما الطبية منها؛ هو تحرير المعنى الذي أناط به الشارعُ فِطْر الصائم.
ثمة معنى متفق عليه في الجملة بين فقهاء المذاهب، ولا أجد ما يستدعي سرد النقول في ذلك، فقد طرق الموضوعَ عددٌ من الباحثين في هذا المجال، لا سيما أصحاب البحوث التي قدمت للمجمع في دورته العاشرة، التي سبق أن أشرت إليها، وقد ذكروا نصوصاً عن علماء المذاهب الأربعة.
وسأحاول هنا تلخيص النقول وتحريرها، سواءً من كلام العلماء المتقدمين، أو الباحثين المعاصرين؛ من الفقهاء وأهل الخبرة من الأطباء، مع التعليق على ذلك.
من نافلة القول، أن الباب يخلو من علة منصوصة من الشارع، ولم يعد أمام الفقيه سوى تلمس العلة واستنباطها، من خلال مسالك العلة المعروفة في فن الأصول.
ولذلك ينبغي أولاً بيان المفطرات المنصوصة والمجمع عليها، ومن ثم محاولة استخراج العلة الجامعة بينها.
يقول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ(34).
فالأكل والشرب والجماع، من المفطرات نصاً، وهي محل إجماع.
قال ابن قدامة رحمه الله: (يفطر بالأكل والشرب بالإجماع)(35).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (يفطر بالنص والإجماع: الأكل والشرب والجماع)(36).
وجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، لما سُئلت عن صوم الحائض وصلاتها، فقالت: (كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة)، وهذا لفظ مسلم(37).
فالحيض (ويلحق به النفاس) من مفسدات الصوم نصاً، وهو محل إجماع أيضاً.
قال أبو بكر الكاساني معلقاً على حديث عائشة: (والظاهر أن فتواها بلغ الصحابة ولم يُنقل أنه أنكر عليها منكرٌ، فيكون إجماعاً من الصحابة)(38).
وقال ابن تيمية: (ثبت بالسنّة واتفاق المسلمين أن دم الحيض ينافي الصوم، فلا تصوم الحائض، لكن تقضي الصيام)(39).
والاستقاء(40) من مفسدات الصوم بالاتفاق(41).
وإن كان الحديث فيه لا يصح(42)، إلا أن الاتفاق كافٍ.
هذه هي المفطرات المنصوصة والمجمع عليها، وأما المختلف فيه من المفطرات فهو كثير؛ يقوى الخلاف في بعضها ويضعف، كالحجامة، والاستعاط، والاكتحال، والاحتقان، والتقطير، والادهان؛ إلى غير ذلك مما هو متناثر في كتب الفقهاء.
وعماد من يجعل تلك من مفسدات الصيام؛ إما حديث مختلف في صحته، وليس هذا مما نحن فيه، وإما القياس على المنصوص، وهذا محل البحث.
فعَمِد جميع فقهاء المذاهب إلى إناطة الحكم بعلة، ثم طردوا القياس عليها.
وكان مما قيل في علة الإفطار: الوصول إلى الجوف(43)، أو الوصول إلى أي مجوّف(44)، أو استقرار الداخل في الجوف(45)، أو الوصول إلى الدماغ(46)، أو الداخل من منفذ(47)، أما ما يحيل الدواء والغذاء(48)، أو التغذية(49)، أو التقوية(50)، أو التلذذ والشهوة(51)، وغيرها.
وهذا المسلك فضلاً عن عدم استناده إلى نقل، فإن فيه من التوسع، والتضييق على الصائمين، والعُسر في انضباطه، وسهولة انخرامه وتناقضه، ما لا يتوافق وسمة هذا الدين العظيم ويسره، وما لا تشهد له مقاصد الشريعة ونصوصها العامة.
وأسلم منه، ما أشار له أبو بكر الكاساني بتأصيل متين، لم أقف على من أشار إليه من الباحثين، وهو قوله: (ركن الصوم: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع... فلا يوجد الصوم بدونه، وعلى هذا الأصل؛ ينبني بيان ما يُفسد الصوم وينقضه؛ لأن انتقاض الشيء عند فوات ركنه أمرٌ ضروري، وذلك بالأكل والشرب والجماع، سواءً كان صورة ومعنى، أو صورة لا معنى، أو معنى لا صورة) (52).
ولذلك أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية على من توسع في المفطرات، مستنداً على القياس بجامع تلك العلل المستنبطة، بكلام طويل لا يخلو من حدة(53)، ومن أبرز ما قاله راداً على أبرز دليل لهم، قوله: (والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر..لم يكن معهم حجّة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس... وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها؛ لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة)، ثم عضّد كلامه بتأصيل علمي نفيس، من عدة أوجه، يحسن مطالعته والاستفادة منه(54).
وحاصل رأيه: تضييق دائرة المفطرات في الأكل والشرب والجماع وما كان في حكمها صورةً أو معنى، كإدخال الماء عن طريق الأنف، أو بلع الحصاة، أو أكل التراب، أو الاستمناء، أو الحقن المغذية في هذا العصر.
وقد اعتمد هذا الرأي ومشى عليه، جلّ علماء العصر ومفتوهم(55).
المطلب الثاني
الجوف المعتبر في الإفطار
يتكرر مصطلح (الجوف) في كتابات العلماء، عند حديثهم عن مناط إفساد الصوم، ومن عباراتهم المشتركة في ذلك: (إن ما دخل إلى الجوف فهو سبب في إفطار الصائم)، وهذا ما عنيته قريباً من أن ثمة معنى يجتمع فيه العلماء في الجملة، وذلك في تحديد علة فساد الصوم، إلا أنه عند التدقيق، نجد أن تفسيرهم لمرادهم بـ(الجوف) مختلف.
يضيف بعض الفقهاء على هذا المصطلح قيوداً، منها: أن يكون الداخل من أحد (المنافذ)، وهذا من المصطلحات التي تتكرر أيضاً، وسماها بعضهم (المخارق)، ثم يأتي بعضهم ويقيده (بالمنفذ المعتاد)، أو (الواسع)، أو (العالي) (56)، أو (الخَلْقي)، أو (الطبيعي)، وبعضهم يجعله عرياً من الوصف.
إن الجوف مصطلحٌ يشمل أجزاء متعددة، الحد الأدنى منه؛ اتفقوا على دخوله فيه، وتنازعوا فيما عداه.
فالمعدة أقل ما يدل عليه اسم الجوف، وبعضهم زاد عليه التجويف البطني، وهو ما وراء الحلق، وانتهاءً بدبر الإنسان، وهو الذي يطلق عليه الأطباء (الجهاز الهضمي)، وبعضهم غلا حتى جعل جسد الإنسان كله جوفاً، فلو غرز آلة حادة في أي جزءٍ من جسده؛ فسد صيامه!.
ومما يُستغرب إدخال الرأس (الدماغ) في مفهوم الجوف، وجعله أحد الجوفين(57)، وبعضهم قال: إنما أخذ حكم الجوف؛ لأن بينهما منفذاً(58).
ومهما يكن من أمر، فإن العمدة في ذلك الحقيقة الشرعية أو اللغوية أو العرفية، وليس في النصوص ذكر للجوف في باب الصيام(59)، وإنما في مواطن أُخر. كما في قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}(60).
ويظهر من ذلك أن المقصود منه جسد الإنسان وجسمه.
وجاء في السنة جملة أحاديث، منها:
• قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب) (61).
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (لإن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير له من أن يمتلئ شعراً)(62).
• فهذا وما قبله فيما يبدو أن المراد منه صدر الإنسان وقلبه.
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)(63).
• وفي ألفاظه (ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب)، (ولن يملأ فاه إلا التراب)، (ولا يملأ نفس ابن آدم إلا التراب).
• فأطلق الجوف على: العين، والفم، والنفس، وهو إطلاق مجازي كما هو ظاهر.
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع غبارٌ في سبيل الله، ودخانُ جهنم؛ في جوف عبد مسلم، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا) (64)، وفي ألفاظه: (في وجه رجل أبداً)، (في منخري مسلم أبداً)، (ولا يجتمع الشح والإيمان في جوف عبد أبداً).
• وهنا أطلق الجوف على: الوجه، والمنخرين، والقلب.
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخَلِق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) (65)، وهذا صريحٌ في أن المقصود بالجوف هنا القلب.
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم) (66)، وفي لفظ: (ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم).
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (أكثر ما يلج به الإنسان النار؛ الأجوفان: الفم، والفرج) (67).
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الله: أن لا تنسوا المقابر والبِلَى، ولا تنسوا الجوف وما وعى، ولا الرأس وما حوى) (68).
وهذا وما قبله فيما يبدو أن المراد منه هنا بطن الإنسان، إشارةً إلى إباحة المطعم(69).
والذي يظهر من خلال التأمل في النصوص النبوية السابقة، أن المقصود بذلك في الأغلب: القلب، وأطلق عليه الجوف مجازاً، أو هو كل ما كان مُجوّفاً.
والذي أميل إليه في هذا المقام: أن الجوف في اصطلاح الشارع له استعمالات متعددة، ومن تلكم الاستعمالات؛ أنه يُطلقه على بطن الإنسان.
والذي يحدد المراد؛ السياق وقرائن الحال.
ولهذا نظائر في الشريعة(70).
وهذا أيضاً ما أَستظهِرُه من صنيع الفقهاء، رحمهم الله، فإن ما يعنونه بـ(الجوف) في باب الصيام، يختلف عنه في باب الحيض، أو باب الرضاع، أو باب الجراح والجنايات، وهو ما يسمى بـ(الجائفة)، وفي جميع هذه الأبواب يستعملون مصطلح (الجوف).
وبذا تعلم ما وقع لبعض الباحثين(71) من خلط في تحديد مفهوم الجوف، فظن أن مرادهم واحد، وليس هذا ظاهراًَ في نظري، والله تعالى أعلم.
على أنه لا حاجة لمُجاراة الفقهاء في تحديد مسمى الجوف، إذ هو من تعبيراتهم التي لم يسبقوا إليها بنص شرعي، فلا نُحاكم تفسير ألفاظهم للنصوص الشرعية.
وهذا ما دعا بعض الباحثين(72) ليتساءل عن مستند ربط الإفطار بالجوف من أساسه، وتشدد بعضهم فرفض هذه العلة، لعدم الدليل عليها من قرآن أو سنة(73). وقد توسط آخرون(74) فقالوا: وإن لم يرد فيه نص، إلا أنه هو المفهوم عرفاً من عنصري الأكل والشرب، وإذا لم يكن ورد بلفظ (الجوف)، فلا نتقيد به، وإنما نلتزم بحقيقة الطعام والشراب.
وهذا هو القول العدل في نظر الباحث، وهو الذي يتماشى مع ما قررناه آنفاً، من الاقتصار على أصل المفطرات وما يدخل في حكمها.
ويبدو أن هذا ما دعى الفقهاء رحمهم الله إلى اعتماد الجوف مناطاً للفطر، لالتصاقه بمعنى الأكل والشرب. وعند التأمل في أقاويلهم ومقارنتها، نرى أنهم في الغالب يقصدون التجويف البطني (الجهاز الهضمي)، وهم وإن لم ينصوا على ذلك صراحة، إلا أن هذا هو مفهوم قولهم ولازمه.
وأبين بإيجاز رأي المذاهب في تحديد الجوف عندهم، فأقول وبالله التوفيق:
الجوف عند الحنفية:
قال أبو حنيفة: (القيء (يفطّر)؛ لأنه لا يخلو عن عود بعضه من الفم إلى الجوف، فكانت الشبهة في موضع الاشتباه فاعتُبِرَت) (75).
وظاهره أنه يعني جميع التجويف البطني (=الجهاز الهضمي).
بدليل اختلافهم في الداخل في الإحليل (مجرى البول)، وسبب الخلاف بينهم: وجود منفذ بين المثانة(76) والجوف من عدمه(77).
وحكمهم بأن الواصل للدماغ مفطّر؛ لأن بينه وبين الجوف منفذاً(78).
وأن الاكتحال (الواصل عن طريق العين) غير مفطّر؛ لأنه ليس للعين منفذ إلى الجوف(79).
الجوف عند المالكية:
قال الإمام مالك: (وإن احتقن بشيء يصل إلى جوفه فأرى عليه القضاء)(80).
وظاهره أنه يعني جميع التجويف البطني (=الجهاز الهضمي).
يعضّده قول ابن عرفة: (تجب الكفارة في إفساد صوم رمضان انتهاكاً له؛ بما يصل إلى الجوف أو المعدة من الفم) (81).
الجوف عند الشافعية:
قال الشافعي: (ولا يستبلغ في الاستنشاق؛ لئلا يذهب في رأسه، وإن ذهب في رأسه لم يفطره، فإن استيقن أنه قد وصل إلى الرأس أو الجوف من المضمضة، وهو عامد ذاكر لصومه فطّره) (82).
وظاهره أنه يعني جميع التجويف البطني (=الجهاز الهضمي).
يؤكّد ذلك، تنصيص النووي على أن اسم الجوف يشمل: (الحلق، والحلقوم، وباطن الدماغ، والبطن، والأمعاء، والمثانة) (83).
والدماغ ليس من أجزاء الجهاز الهضمي بالتأكيد، وإنما جعلوا له حكمه؛ لأن بينهما منفذاً في ظنهم، وهو ما رفضه الطب الحديث، كما سيأتي معنا.
الجوف عند الحنابلة:
قال الإمام أحمد، فيمن تنخّع دماً كثيراً في رمضان: (أجبن عنه، ومن غير الجوف أهون) (84).
وظاهره أنه يعني التجويف البطني (=الجهاز الهضمي).
يؤيّده: تفريق المذهب بين الداخل في الإحليل فلا يفطر؛ لأن ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف، وبين الاحتقان (الداخل في الدبر) فإنه يفطر؛ لأنه واصل إلى الجوف(85).
وصرّح ابن قدامة بأن المراد بالجوف: (ما ينفذ إلى المعدة)، ثم حكم بالفطر على الداخل إلى الجوف عن طريق الدبر بالحقنة(86).
الجوف عند المعاصرين، وترجيح الباحث:
لقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين، لا سيما الأطباء منهم؛ إلى أن الجوف المقصود بالصيام هو (الجهاز الهضمي) (87)، موافقين بذلك جمهور الفقهاء في ذلك.
وإنما مرتكز الخلاف بينهم: قطع ما أدخله الفقهاء في حكم الجوف، لظنهم أن بينهما منفذا، كما قالوا في الإحليل، والمثانة، والدماغ، والعين، والأذن، وهو ما فنّده الطب في العصر الحديث(88).
ونازع بعض الأطباء في تحديده بالجهاز الهضمي، بل يرى أنه (المعدة) فقط(89)، وتبعه على ذلك بعض الباحثين(90).
والخلاف بين من يرى الجوف (المعدة)، وبين من يراه التجويف البطني (=الجهاز الهضمي)، يضيق جداً في الاحتقان، أو كون الدبر والقبل منفذاً، فحسب.
والمعنى اللغوي يؤيد هذا القول، إذ معنى جوف الإنسان في اللغة: بطنه(91).
وظاهر المراد: (المعدة) تحديداً، وليس الجهاز الهضمي من مبتدئه إلى منتهاه.
كما أن المعنى العرفي يعضده، فليس الإدخال عن طريق الإحليل، أو الدبر، أو العين؛ أكلاً أو شرباً، لا حقيقة ولا حكماً.
ويقوي ذلك أيضاً، أن المضمضة وذوق الطعام لا يُفطران، ومحلهما (الفم)، وهو أول أجزاء الجهاز الهضمي، مما يدل أن توسعة مفهوم الجوف، لا تستند إلى دليل.
وبهذا التقرير يتبين إن شاء الله تعالى ضعف من نزع إلى توسيع مفهوم الجوف، وإدخال جملة من المسائل والقضايا في دائرة مفسدات الصيام.
والله تعالى أعلم.
المطلب الثالث
المنافذ المعتبرة في الصيام
إن منافذ جسم الإنسان الطبيعية، تنحصر في:
1- الفم.
2- الأنف.
3- الأذن.
4- العين.
5- الإحليل (مخرج البول من الرجل والمرأة).
6- قُبُل المرأة.
7- الدبر.
8- مسام الجلد، من الرأس وحتى القدمين.
أما الفم والأنف فهو محل اتفاق بين الفقهاء على أنها منافذ معتبرة في الإفطار؛ لأنها طريقٌ إلى الحلق، أما الفم فهو من الظهور ما لا يحتاج معه إلى بيان.
وأما الأنف فظاهر أيضاً، ويدل عليه الحديث المشهور عن لقيط بن صبرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) (92)، فدلّ على أنه منفذ للحلق.
المنافذ عند الحنفية:
يرى الحنفية أن المنافذ المعتبرة، هي المخارق الأصلية: الفم، والأنف، والأذن، والدبر، وأخرجوا العين(93).
وذهب لهذا بعض المعاصرين(94).
المنافذ عند المالكية:
ويرى المالكية أن المنافذ المعتبرة، هي المنافذ العالية سواءً كانت واسعة أم لا: كالفم، والأنف، والأذن، ومسام جلد الرأس. وكذلك المنافذ السافلة، لكن يشترط فيها أن تكون واسعة: كالدبر، وقبل المرأة. بخلاف الإحليل والجائفة وهي الخرق الصغير(95).
المنافذ عند الشافعية:
أما الشافعية فيرون المنافذ المفتوحة هي المعتبرة، فيخرجون مسام الجلد(96).
المنافذ عند الحنابلة:
ولم أقف للحنابلة على وصف، وإنما على عدّ، ولا يرون تلازماً بين اعتبار المنفذ، وكونه منفذاً معتاداً، ولذا أدخلوا في المنافذ: العين، والأذن، والدبر.
بل جعلوا مداواة الجرح، وغرز آلة في الجوف، منفذاً يفطر الداخل منه().
المنافذ عند الظاهرية:
وعند داود الظاهري أن المنفذ المعتبر في الصيام (الفم) فقط(98).
قال ابن حزم: (إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل، والشرب، والجماع، وتعمّد القيء، والمعاصي، وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر، أو إحليل، أو أذن، أو عين، أو أنف، أو من جرح في البطن، أو الرأس، وما نهينا قط عن أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله) (99).
ترجيح الباحث:
إن تحديد المنافذ المعتبرة في الإفطار، مرتبط بما قدمناه سابقاً، في تحديد دائرة الإفطار، في الأكل والشرب، حقيقة وحكماً.
فما كان داخلاً عن طريق المنفذ الأصلي (الحلق)، سواءً كان من الفم أو الأنف، فهو مفطر، ويكون منفذا معتبراً.
وأرى أن (الاعتياد) متلازم مع (الاعتبار)، فما كان منفذاً معتاداً للطعام والشراب، كان منفذا معتبراً يتعلق به الحكم الشرعي في الإفطار.
كما أن رأي الطب الحديث لا بد أن يجري مجراه هنا، ولذا فإني أوافق بعض الأصوات الغيورة التي نادت بأن القطع الطبي باعتبار هذا الشيء منفذاً أم لا، يرفع الخلاف المتقدم عند الفقهاء(100).
وتأسيساً على ذلك، فإن الأذن، والعين، والإحليل (مخرج البول من الرجل والمرأة)، وقُبُل المرأة، والدبر، ومسام الجلد من جميع الجسد؛ ليست منافذ معتبرة للإفطار.
• هل الأوردة الدموية من الجوف المعتبر، أو المنافذ المعتبرة؟
هذا سؤال أفرزته الحياة المعاصرة، والتقدم الطبي الحديث، في وجود الحقن والعقاقير الطبية، وقد طرح هذا التساؤل أحد الباحثين(101)، ويطلب إجابة الطب المعاصر فيه، ولم أقف على من أجاب عنه.
ومن خلال العرض السابق، يمكن أن أسجل هنا رأياً، من باب التفقّه والتنظير، لا الجزم والتقرير، وهو أن هذه الأوردة ليست داخلة في مفهوم الجوف(102) في باب الصيام، الذي عناه الفقهاء، وليس هو بطبيعة الحال، داخلاً أيضاً في معنى الجوف الذي سبق أن رجحناه.
كما أنها ليست منفذاً معتاداً للطعام والشراب الحقيقي للإنسان الصحيح، غير أنه مع تقدم الطب الحديث، باتت الأوردة طريقاً للطعام والشراب الحكمي للإنسان المريض، من خلال الحقن المغذية، بجامع الاكتفاء بها، والاستغناء عن الأكل والشرب بوجودها.
إن ثمة مرضى، رفعهم الله بعافيته، من أصحاب الحوادث الشديدة، والشلل المزمن، أو الإعاقات المتقدمة؛ استمروا ولا زالوا يعيشون على تلك الحقن المغذية مُدداً متطاولة، وقد وقفت على حالة منها في مستشفى النقاهة في الرياض، يعيش عليها منذ أكثر من (22) سنة، والله المستعان.
أعود فأقول: هل هذا يدعو إلى الحكم بكون هذه الأوردة منفذاً معتاداً، وبالتالي:
كل داخلٍ فيها يكون مفطراً؟
هذا ما سنبينه، ونسعى لتجليته في المبحث السادس، إن شاء الله تعالى.
المبحث الرابع
اعتبار رأي الطبيب المعالج وشروطه
إن المفتي في مسألةٍ ما، تستدعي مزيد خبرة واختصاص، لا علاقة بها بالعلم الشرعي في الغالب، وإنما بالعلم التجريبي، أو الفني، أو المهني، ونحو ذلك، هو بمثابة القاضي في الأحكام، يلزمه الرجوع للخبراء، واستشارة أهل الفن والمعرفة.
قال تعالى: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (103).
فلا يخبر المرء بحقيقة الأمر، وبواطنه وغوامضه، مثل من هو عالم بدقائقه، بصير بتفاصيله، ومن كانت هذه حاله وجب الرجوع إليه في ذلك، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما هو مقرر في الأصول.
قال الماوردي: (يرجع الحاكم(104) في التقويم(105) إلى غيره؛ لأن لكل جنسٍ ونوعٍ: أهل خبرةٍ، وهم أعلم بقيمته من غيرهم) (106).
وعقد ابن فرحون في تبصرة الحكام باباً في القضاء بقول أهل المعرفة، وقال: (ويجب الرجوع إلى قول أهل البصر والمعرفة) (107).
وتبعه على ذلك الطرابلسي الحنفي في معين الحكام(108).
ومما يشهد لذلك في السنة؛ اعتبار قول القائف لخبرته وعلمه بهذا الفن.
يقول ابن القيم معلقاً على الاستناد إلى القافة: (والقياس وأصول الشريعة تشهد للقافة؛ لأن القول بها حكمٌ يستند إلى درْك أمورٍ خفية وظاهرة، توجب للنفس سكوناً؛ فوجب اعتباره، كنقد الناقد، وتقويم المقوّم) (109).
فتبين مما تقدم أن المفتي في بعض المسائل، لا يستطيع أن يحرر فتوىً، أو يصدر حكماً شرعياً، بدون تصور المسألة، وإفادة أهل الاختصاص له في ذلك.
ومن ذلك ما طرأ في الطب الحديث، من كثير من الأدوية والعقاقير، وما حصل أيضاً من تنوّع للأمراض وتجددها، وتفاوت أحوالها من حيث الخطورة والتوسط والاعتدال، مما لا يمكن معها إصدار وصفٍ منضبطٍ لها من غير الأطباء المتخصصين في هذه المجالات.
وقد ذهب كثير من الباحثين المعاصرين، إلى أن الأمر في ذلك يعود لتقدير الطبيب ورأيه، في كثير من الحالات، مهما أصدرنا أحكاماً إجمالية، أو أُطراً عامة(110).
وهذا حق، لا ينبغي أن يكون مجالاً للخلاف عليه.
فالحكم على المريض بأن الصوم يضره، أو يؤثر فيه؛ يحتاج إلى طبيب عالج ذات المريض، وتابع حالته التي هو عليها، فتلك قضايا أعيان وأفراد.
يقول أحد الباحثين الأطباء، بعد أن فصّل أحوال مريض السكري مع الصيام: (وبصفة عامة، فإن السماح بالصيام أو عدمه، إضافة إلى تنظيم الدواء وأوقات تناوله، يعود إلى الطبيب المعالج دون غيره) (111).
وقال بعد أن تحدث عن حال الحامل والمرضع مع الصيام: (لا يمكن إطلاق قول حاسم على كل الحوامل والمرضعات، بحيث نقول: إن هناك حامل أو مرضع تستطيع الصيام، وأخرى لا تقدر عليه) (112).
وقال في خاتمة جزلة لبحثه: (إن تقرير إمكانية الصيام أو عدمه ليس بالأمر السهل، ولا يمكن تقرير قواعد عامة لجميع المرضى، بل ينبغي بحث كل مريض على حدة، ولا يتيسّر ذلك الأمر إلا للطبيب المسلم المختص) (113).
وكل ما تقدم يأكّد شأن الرجوع إلى الطبيب، واعتبار قوله، والاستناد إلى رأيه واجتهاده.
إلا أن ذلك ليس حكماً مطلقاً، بل لا بد من توافر شروط، إذا قامت في الطبيب، وجب الرجوع له، منها:
1- الصدق والأمانة.
2- الحذق والمهارة.
3- الإسلام.
وقيل: لا يشترط أن يكون مسلماً، فيجوز ولو كان كافراً.
4- الذكورة.
وقيل: لا تشترط الذكورة، فتكفي الطبيبة.
5- العدد.
وقيل: لا يشترط العدد، فيكفي فيه الواحد.
ومنشأ الخلاف في المسائل المتقدمة(114):
هل (الخبرة) من باب الشهادة أم الرواية؟.
- فمن ذهب إلى أنها من باب الشهادة اشترط لها الإسلام، والذكورية، والعدد اثنين.
وقال بهذا بعض العلماء(115).
- ومن رأى أنها من باب الرواية، أجاز الاستفادة بخبرة الكافر، والمرأة، واكتفى بواحد. وهو اختيار آخرين.
كابن القيم(116)، وبعض المالكية(117).
وذهب إليه جمعٌ من العلماء المعاصرين(118).
وفيما يظهر أن الشرطين الأولين كافيان، وهما الصدق والأمانة، والحذق والمهارة، ولا يضير بعد ذلك كونه كافراً، أو امرأة، أو واحداً، وما من شك أن الطبيب المسلم أفضل، واتفاق طبيبين أبلغ من الواحد، وأبعد عن الغلط والوهم.
ولا يخفى ما في اشتراط هذه الشروط مجتمعة، من ضيق وعنت، لا يقوى عليه كثيرٌ من المفتين، فضلاً عن المرضى المحتاجين لمن يرشدهم، ويبين لهم الحكم اللائق بحالتهم المرضية، وكيف نطالبهم وهم على هذه الحال من الضعف، بطبيبين رجلين مسلمين، مع ما هو معلوم من انتشار مهنة الطب والتمريض بين النساء، وندرة توافر طبيبين يعاينان حالة واحدة من المرضى.
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم استعان بخبيرٍ كافر، في ظرفٍ حالك، وأمرٍ عصيب، ولم يمنعه كفره، من الاستعانة به، والوثوق برأيه، وذلك عندما هاجر من مكة إلى المدينة.
فقد أخرج البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر، استأجر رجلاً هادياً خرّيتاً، والخريت: الماهر بالهداية، وهو على دين كفار قريش، فأمِنَاه؛ فدفعا إليه راحلتيهما، فأخذ بهم أسفل مكة، وهو طريق الساحل(119).
ويظهر من الحديث، أهمية شرطي: (الصدق والأمانة، والحذق والمهارة).
بقي أن يُضاف هنا، أن الطبيب يمكن له مع إنارة الطريق للمفتي؛ أن يرشد المريض بنفسه، إذا كان لديه من العلم الشرعي في مجال الصيام والرُّخص الشرعية، ما يؤهّله لذلك، فمن المتقرر عند المحققين من أهل العلم جواز تجزؤ الاجتهاد.
ولا شك أن إسناد الحكم الشرعي إلى أهله أولى، مُكتفين من أهل الطب والتطبيب؛ تبصيرَ المفتين والفقهاء، بما يحتاجونه من دقائق المهنة الطبية وتفاصيلها، في الحالات المرضية التي تتطلب بيان حكم فقهي، أو فتوى شرعية.
وإنما قصدت من هذه الإضافة؛ لفت انتباه الباحثين، وأنظار المجتهدين، إلى أن ثمة حالات قد تضيق على المريض المستفتي، ولا يجد أمامه من خيار سوى استفتاء الخبير، وهو الطبيب المختص.
وهذا يجعل التبعة على الأطباء الفضلاء أكبر، في سعيهم إلى التفقه في شرع الله تعالى، ما يكفي تأهيلهم لذلك، مُستشعرين مكانتهم، وحاجة الناس لهم.
المبحث الخامس
قضاء المريض للصوم وأحواله
لا خلاف بين أهل العلم في أن من أفطر في رمضان لعذر، أن عليه القضاء؛ لأن الصوم كان ثابتاً في ذمته، فلا تبرأ منه إلا بأدائه، وهو لم يؤده بعد(120).
والمريض مرضاً يباح له الفطر، كما قدمنا تفصيله، له في مقام القضاء حالان:
1- أن يكون مريضاً لا يُرجى برؤه:
وهو من به مرض، يحكم الأطباء بصعوبة شفائه، أو استحالة ذلك، وغالباً ما يكون هذا في الأمراض المستعصية، أو مرضٍ في مراحلِهِ المتأخرة، ومن ذلك بعض حالات مرض السكري.
ويكون الصوم -مع مرضه- لا يستطيعه إلا بضررٍ ومشقة، وذلك في جميع فصول السنة، فلا يقوى عليه لا أداءً ولا قضاءً؛ فهذا حكمه أن يُفطر، ويطعم عن كل يومٍ مسكيناً، وهذا قول جمهور الصحابة والعلماء(121).
فإن شاء الله وشُفي، وقَدِر على الصيام، فهل نُلزِمه بذلك؟.
ذكر ابن قدامة فيه احتمالين(122):
الأول: أنه لا يلزمه؛ لأن ذمته قد برئت بأداء الفدية التي كانت هي الواجب عليه، فقد أتى بما أمره الله به على الوجه المشروع، فلا يُكلّف فوق ذلك.
الثاني: أنه يلزمه القضاء؛ لأن الإطعام بدل عن الصيام، ولا يجزئ الاكتفاء بالبدل مع وجود المبدل منه.
والأول أقوى؛ لقوة مأخذه ومنـزعه.
وفي ذلك جملة من النظائر، ينسحب عليها حكم واحد، حريٌ بالفقيه أن يتأملها كثيراً، قبل إصدار حكم فيها؛ لئلا تضطرب أقواله وفتاويه.
2- أو يكون مريضاً يُرجى برؤه:
وهذا تحته أحوال:
- كالمريض الذي فاجأه المرض في رمضان، فيستطيع الصوم قضاءً حال شفائه منه.
- ومنه المريض مرضاً مزمناً، لكنه يستطيع الصوم في بعض فصول السنة دون بعضها الآخر، فهذا يفطر ويقضي في الأوقات التي لا تشق عليه.
- ومنه المريض الذي تتجدد حالة مرضه وتتردد بين الخطورة ودونها، فهذا يفطر في حال اشتداد حالته، ويقضي في حال خفتها وهدوئها.
ونحو ذلك من الصور.
والحكم فيه أن له الفطر، ولا يجب في حقه إطعام، بل الواجب في حقه الانتظار حتى يقدر على الصيام، أو يتحرى الأوقات والأحوال التي يستطيع معها قضاء الصوم.
يقول ابن قدامة رحمه الله: فإن رجا المريضُ البرء؛ (فلا فدية عليه، والواجب انتظار القضاء، وفعله إذا قدر عليه، لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (123)، وإنما يُصار إلى الفدية عند اليأس من القضاء} (124).
المبحث السادس
الضوابط الشرعية لـ: (المريض)، و(المرض)، و(الدواء)؛ في مجال الصيام
لقد دعا جملة من الباحثين(125) للاتجاه إلى التأصيل العلمي، ووضْعِ الأطر والضوابط والمعايير الشرعية، في موضوع المفطرات في مجال التداوي، التي يمكن أن يهتدي بها الباحث والفقيه والمفتي، ويصدر عنها في أقواله وأحكامه وفتاويه.
وهذا المسلك أنفع بكثير من سرد الأمثلة والصور؛ وذلك لاختلاف المجتهدين، وتنوع المخترعات الطبية الحديثة وتجددها، التي تختلف في تركيباتها، وأشكال تعاطيها، اختلافاً يؤثر في الحكم الشرعي، مما لا يدركه إلا الفقهاء والباحثون.
ومن أشد ما يُشكل؛ استمرار العوام وأنصاف المتعلمين؛ الاعتماد على فتاوى سابقة، أو قرارات مجمعية، في الحكم بتفطير هذا أو ذاك، غير مدركين لحقيقة التحول التي طرأت في صفة الدواء أو طريقة تناوله.
ولذا فأعيد التأكيد على ما قررته في مقدمة البحث، من ضرورة اتجاه هذا المجمع الموقر، إلى اعتماد ضوابط شرعية في ذلك، حين إصداره قراراً في الموضوع.
وهذه محاولة من الباحث في ذلك، استفدتها من التأصيل المتقدم للبحث، وما ذكره الفقهاء والباحثون، من تقارير وتعاليق متينة، جاءت في ثنايا بحث موضوع (المفطرات في مجال التداوي)، التي تناولها المجمع بالبحث والنقاش، في دورة سابقة(126).
فأقول وبالله التوفيق:
• لا بد في الحكم بجواز الإفطار أو وقوعه، من عدمهما؛ من مراعاة الضوابط التالية:
أولاً: المرض والمريض:
1- المريض الذي لا يقدر على الصوم بحال؛ يجب عليه الإفطار.
2- المريض الذي لا يقدر على الصوم إلا بمشقة غير معتادة؛ يجوز له الإفطار. سواء نتج عن هذه المشقة تأخر البُرء، أو مضاعفة المرض.
3- المرض الذي يُخشى (يقيناً أو غالباً) حصوله بسبب الصيام؛ يجوز معه الإفطار.
4- المريض الذي تحصل له مشقة محتملة معتادة بسبب الصيام؛ لا يُباح له الإفطار.
ثانياً: الدواء:
5- كل ما كان في حكم الأكل والشرب، صورةً أو معنى؛ فهو مُفطّر.
صورة: أي ما كان عن طريق المنفذ المعتاد (الفم والأنف).
ومعنى: بحيث يستغنى به مطلقاً عن الطعام والشراب.
ففي حكم الأكل والشرب صورةً: تناول الأقراص والكبسولات الطبية، وبلع الحصاة، وأكل التراب والرماد، فلا يشترط أن يكون أكلاً معتاداً، بل يكفي توافر صورة الأكل أو الشرب فيه.
وفي حكم الأكل والشرب معنىً: الحقن والعقاقير المغذية، التي تقوم مقامهما، في حال الاكتفاء بها، وغالباً ما تكون مقصودة لذاتها.
فيخرج من هذا المواد المصاحبة لبعض الحقن، أو التحاميل، أو اللصوقات، وتحوي قيمة غذائية، كالماء أو السكر؛ فإن هذه لا تفطر؛ لأنها ليست أكلاً؛ لا صورةً (وهذا ظاهر)، ولا معنىً (فلا يمكن الاستغناء بها عن الأكل والشرب). وسيخرجها قيد آخر كما سيأتي.
6- الجوف المعتبر في مجال الصيام: (معدة) الإنسان، فكل دواءٍ داخلٍ إليها؛ فهو مُفطّر.
لأن الداخل إليها لا يخلو:
- أن يكون أكلاً وشرباً حقيقةً، وهذا قد وقع الإجماع على أنه مفطر.
- أن يكون أكلاً وشرباً صورةً، كتناول الأقراص الطبية العلاجية.
- أن يكون أكلاً وشرباً صورةً ومعنىً، وهذا يتصوّر فيما لو كان ثمة أقراص طبية، أو كبسولات، يستغني فيها المريض عن الأكل والشرب. فهذه الحبوب ليست أكلاً حقيقياً، ولكنها في حكمه لاجتماع الصورة والمعنى فيه.
7- الدواء الداخل إلى المعدة، لا بد أن يكون مستقرِّاً فيها؛ ليكون مفطراً.
وإنما شرطنا الاستقرار، كما تقدم في قول بعض الفقهاء؛ ليتحقق حكم الأكل والشرب فيه.
فيخرج بهذا القيد: منظار المعدة مثلاً، فهو لا يستقر فيها.
8- كل دواءٍ داخلٍ للمعدة، مستقرٍّ فيها، لا بد أن يخرج عن حدود اليسير جداً، والمعفو عنه شرعاً؛ ليكون مُفطراً.
وإنما اشترطنا هذا القيد، لوجود قرائن شرعية تدل على هذا، فقد قررنا أن العلة الجامعة لمفسدات الصيام، هي: كل ما كان في حكم الأكل، والشرب، والجماع؛ صورةً ومعنىً.
وقد رأينا الشارع قد سهّل في اليسير مما يدخل في ذلك، ففي الأكل والشرب: تسامح في دخول أجزاء يسيرة جداً من الماء إلى المعدة من أثر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه
وبعد: فلقد جاء الله جل وعلا بدين عظيم، وشرع متكامل لجميع شؤون الحياة ومقوماتها، شرعٌ {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}(1)، شرعٌ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(2)؛ حدّ الله سبحانه وتعالى فيه لعباده حدوداً منضبطة واضحة، لا يتعداها إلا الظالمون، كما قال سبحانه: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}(3).
وقد نهى الله تعالى عباده عن نواهٍ ومحرمات، وفرض عليهم فرائضَ وواجبات؛ ولعِلْم الله سبحانه وتعالى بالعوارض التي تعرض لعبيده، ورحمته بهم، وتيسيره عليهم، كما قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْـــــعَهَا}(4)، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(5)، وقال: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (6)، وقال: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} (7)؛ فقد أناط فِعْل الواجبات بالاستطاعة، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(8)، وتَرْك المحرمات بانعدام الحاجة والضرورة، كما قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}(9)، فله جل وعلا عظيم الشكر والامتنان.
وإن من جملة ما أوجبه الله تعالى على عبيده؛ صومَ شهر رمضان، أحدُ أركان الإسلام، ومبانيه العظام. ولما كان العبد ضعيفاً لا يخلو من أسقام الحياة وأمراضها، التي كتبها الله تعالى على عباده، مما لا يستطيع معه القيام بهذا الواجب، في بعض الأحوال والأعراض، فقد أباح له الشارع الإفطار وقضاء الصيام، قال تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (10).
ومع هذه الرخصة الشرعية، يحصل لعدد من المرضى، القدرة على الصيام، والاستغناء عن الطعام والشراب، مع تعاملهم بالدواء، الذي اختلفت صوره وأشكاله وطرق تعاطيه في العصر الحديث، مما حيّر المريض في سلامة صومه مع تناوله للدواء، وأصبح بحاجةٍ إلى من يبين له الحكم الشرعي اللائق بنفسه وحاله.
وقد بات الأمر بجواز الإفطار من عدمه، وتحديد ما يدخل في ذلك وما يندّ عنه؛ من المسائل التي كثر الخلاف فيها وانتشر، لأسبابٍ عديدة، من أبرزها في تقدير الباحث: ندرة وجود دراسات أو جهات، تشترك فيها الخبرة الطبية، مع العلم الشرعي، حتى تخرج الأحكام والفتاوى والقرارت، بتأصيلٍ علميٍ ناضج، مبنيٍّ على أسسٍ شرعية، ودرايةٍ طبيةٍ عملية.
مما يتعين معه من أهل العلم والفقه والرأي، أن يساهموا في حسم هذه المسائل، أو تضييق فجوة الخلاف فيها بين الفقهاء والباحثين والمفتين.
وهذا ما أراه من توفيق الله تعالى لهذا المجمع المبارك، الذي اختار هذا الموضوع (مرض السكري والصوم)، من ضمن الموضوعات التي ستناقش في هذه الدورة.
وأزيد كيل الشكر وعظيم التقدير، لأمانة المجمع، عندما لحظت في خطاب الاستكتاب، جنوحهم في محاور البحث، إلى التأصيل والتقعيد، بعيداً عن الإغراق في التمثيل. إذ لا يخفى على الفقيه، أن الاختلاف في تحقيق المناط، أوسع من الاختلاف في تحديده.
ولا أخفي عتبي على المجمع، عندما عرض طرفاً من الموضوع في دورةٍ سابقة، قبل أكثر من (12) سنة(11)، بعنوان (المفطرات في مجال التداوي)، وقد حفل الموضوع بأبحاث متينة، شرعية وطبية، وجاء في مثانيه تعاليق قيمة، وإضافات ساخنة، قد أثرت الموضوع، وفتّقت الأذهان.
إلا أن ما عابه في الأخير؛ صيغة القرار، التي قضت على كثيرٍ من زينة الموضوع وما حمله من جديد؛ إذ ضرب القرار صفحاً، عن التأصيل العلمي، ووضْعِ الأطر والضوابط التي يمكن أن يهتدي بها الباحث والفقيه، واختصر الموضوع بتعداد المفطرات بالأمثلة المجردة، وأجّل إصدار قرار في عدد من الصور لمزيد البحث والدراسة.
وكلي رجاء؛ في هذه الدورة، أن يتجه المجمع الموقر؛ لإصدار قرارٍ يحمل معايير وضوابط شرعية، لما يفطر وما لا يفطر، ويترك تنزيل الصور لاختلاف النظّار ورأي المُجتهدين.
ومما يبعث في النفس الأمل، أن معالي الأمين الحالي للمجمع، كان أحد المنادين لأن تتجه لجنة الصياغة إلى وضع ضوابط في ذلك، في الدورة المشار إليها(12).
وإن اختيار مثل هذا الموضوع (مرض السكري والصوم)، كنموذج ومثال، لا يؤثر في تقرير الضوابط في شيء.
وأعتذر عن الإطالة في المقدمة، إلا أني أحسب أن تقديمها بين يدي الموضوع، يُفسّر تركيز هذا البحث على جانب التأصيل، واستخلاص الضوابط الشرعية التي تحكم (المريض)، و(المرض)، و(الدواء)؛ في مجال الصيام، وما كان (مرض السكري) إلا مجرد أنموذجٍ على ذلك. ولذا فقد ارتأيت أن ينتظم الموضوع، في المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف الصوم.
المبحث الثاني: حد المرض المبيح للفطر.
المبحث الثالث: مدرك الخلاف في مناط الإفطار:
المطلب الأول: العلة الجامعة لمفسدات الصيام.
المطلب الثاني: الجوف المعتبر في الإفطار.
المطلب الثالث: المنافذ المعتبرة في الإفطار.
المبحث الرابع: اعتبار رأي الطبيب المعالج وشروطه.
المبحث الخامس: قضاء المريض للصوم وأحواله.
المبحث السادس: الضوابط الشرعية لـ: (المريض)، و(المرض)، و(الدواء)؛ في مجال الصيام.
المبحث السابع: دراسة تطبيقية لمرض السكري.
المطلب الأول: تعريفه.
المطلب الثاني: أنواعه.
المطلب الثالث: التصنيف الطبي للحالات المرضية لمرضى السكري.
المطلب الرابع: مدى توافر الضوابط الشرعية في الحالات المرضية المذكورة، من حيث جواز الصيام من عدمه.
وهذا أوان الشروع في المقصود.
المبحث الأول
تعريف الصوم
تعريفه لغة:
هو الإمساك عن الشيء، والترك له.
ومنه ترك (=الإمساك عن) الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير(13).
تعريفه في الاصطلاح:
جاء في المبسوط للسرخسي: (الصوم في الشريعة عبارة عن: إمساك مخصوص؛ وهو الكف عن قضاء الشهوتين، شهوة البطن وشهوة الفرج، من شخص مخصوص؛ وهو أن يكون مسلماً طاهراً من الحيض والنفاس، في وقت مخصوص؛ وهو ما بعد طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، بصفة مخصوصة وهو أن يكون على قصد التقرب، فالاسم الشرعي فيه معنى اللغة) (14).
وقال ابن عبدالبر في الكافي: (معنى الصيام في الشريعة: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع) (15).
وجاء في مغني المحتاج: (الصوم شرعاً: إمساك عن المُفطّر، على وجه مخصوص) (16).
وقال ابن قدامة: (الصوم في الشرع عبارة عن: الإمساك عن أشياء مخصوصة، في وقت مخصوص... والصوم المشروع هو: الإمساك عن المفطرات، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس) (17). وتعريفه الثاني أبْيَن.
وتعريف السرخسي من أجود التعريفات وأشملها، وما أشار إليه في آخر كلامه من مُقاربة التعريف الشرعي للتعريف اللغوي، ظاهر جداً.
المبحث الثاني
حد المرض المبيح للفطر
يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(18).
فهذه الآية الكريمة نص واضح في أن المريض من أصناف المعذورين من الصيام، وجواز قضائه بعد حين.
وليس هذا محل خلاف أو إشكال، وإنما المقصود: هل كل مريض يباح له ذلك؟
ظاهر الآية الكريمة أن كل من شمله مسمّى المرض هو كذلك، حتى لو كان وجع الإصبع، وهو ما ذهب إليه أفراد من السلف(19)؛ إلا أن هذا الظاهر غير مراد بالتأكيد، كما تتابعت عليه أفهام جماهير السلف والعلماء.
فقد ذهب جمع من السلف إلى أنه المرض الذي لا يطيق صاحبه معه القيام لصلاته، وذهب آخرون إلى أنه: كل مرض كان الأغلب من حال صاحبه مع الصوم أن يزيد في علته زيادة غير محتملة(20).
فليس كل مرض يباح معه الفطر، كما أنه ليس كل مرض يباح معه التيمم.
ولذلك قال الشافعي، وهو من هو في الفقه واللغة:
(المرض: اسمٌ جامعٌ لمعانٍ، لأمراض مختلفة، فالذي سمعتُ: أن المرض الذي للمرء أن يتيمم فيه: الجراح) (21).
فهذا التقرير نفيس جداً، يبين أن المرض له إطلاق واسع، وليس المراد بإطلاق الشارع له، كل ما يجمعه اسم المرض من معنى، وإنما المراد: المعنى الذي تحققت فيه العلة التي من أجلها أباح الشارع الرخصة فيه(22).
ولذلك قال ابن قدامة: (المرض لا ضابط له، فإن الأمراض تختلف، منها ما يضر صاحبه الصوم، ومنها ما لا أثر للصوم فيه... فلم يصلح المرض ضابطاً، وأمكن اعتبار الحكمة: وهو ما يُخاف منه الضرر، فوجب اعتباره بذلك)(23).
فالتحقيق أن من كان الصوم يجهده جهداً غير محتمل، سواءٌ بتأخر برئه، أو بزيادة مرضه، فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر، وذلك بأنه إذا بلغ ذلك الأمر به هذا المبلغ، ولم يؤذن له في الإفطار، فقد كلفناه عسراً ومنعناه يسراً، وذلك خلاف ما أخبر الله به في الآية نفسها بقوله: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
وأما من كان الصوم لا يُجهده، فإنه بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم، فعليه أداء فرضه، وصوم الواجب في وقته، وإيجابنا له ذلك ليس فيه عسر، كما أن إباحتنا له الإفطار ليس فيها مزيد يُسر، وهو المعنى الذي لأجله أباح الشارع للمريض الترخص في الإفطار، وبزوال العلة يزول الحكم(24).
قال ابن قدامة: (المرض المُبيح للفطر، هو الشديد الذي يزيد بالصوم، أو يخشى تباطؤ برئه) (25).
ويلحق به: الإنسان الصحيح، لكن يخشى المرض فيما لو صام، قال ابن قدامة: (والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام؛ كالمريض الذي يخاف زيادته في إباحة الفطر؛ لأن المريض إنما أُبيح له الفطر؛ خوفاً مما يتجدّد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله، فالخوف من تجدد المرض في معناه) (26).
وليس (خشية المرض) على إطلاقها بالتأكيد، بل المقصود: حصول يقين، أو ظن غالب، بحصول المرض(27).
وأحسب أن هذا التقرير كافٍ، وإلا ففي البحث زيادة لمستزيد، ويحتمل تشقيق المسألة، إلى تحديد ضابط المشقة التي يباح معها الصيام، وإن كان ضبط مثل ذلك لا مطمع فيه، إذ ليس بالوسع اعتماد حدٍّ في ذلك، وماذاك إلا أن الشارع لم يقصد - والله تعالى أعلم- تحديد ذلك، فلِمَ نتكلّف ما لم يكلّفنا الله تعالى به؟
يؤيد ذلك أن جملةً من التخفيفات الشرعية، قد أقام الشارع فيها السبب مقام العلة، مما يؤكد أن المشقة المعتبرة في التخفيفات ليس لها ضابط مخصوص، ولا حد محدود يطّرد في جميع الناس.
فكانت الرخصة إضافية بالنسبة إلى كل مُخاطبٍ بنفسه، بمعنى أن كل أحدٍ -في الأخذ بالرخصة- فقيهُ نفسه، ما لم يحد فيها حد شرعي فيقف عنده(28).
فالواجب على العالم والفقيه والمفتي أن يبين حكم الله تعالى للعامي والسائل، وأن يُفهِمَه حدود الرخصة الشرعية، وأما ما وراء ذلك فليس من مهمته، إذ يُديّن السائل فيما بينه وبين الله تعالى، في دخول محله أو حاله أو زمانه أو مكانه في حدود الرخصة، وهو ما يسمى بتحقيق المناط.
إن تقرير ما تقدم، كفيلٌ بالإجابة عمّا جاء في خطاب الاستكتاب من طلب بيان مدى اختلاف حكم الصوم في الحالات المرضية، بحسب: الحالة العمرية للمريض (كبار السن)، وحالة الحمل (للمرأة)، ونحو ذلك.
• خلاصة ما تقدم:
أن المريض الذي يباح له الفطر له أحوال:
1- المريض الذي لا يطيق الصوم بحال، ولا يقدر عليه؛ فهذا غير مكلّف به. وينبغي أن يكون حكم مثل هذه الحال، من المعلوم بالضرورة للعامي قبل العالم.
قال الشاطبي: قد وقع (الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة)(29).
والفطر في حقه حتم لازم.
قال ابن العربي: (المريض الذي لا يطيق الصوم بحال، فعليه الفطرُ واجباً) (30).
ولو صام فأضرّ نفسه، فلا أتورّع عن القول بتأثيمه وظلمه لنفسه؛ لتعديه وتفريطه في المحافظة على صحته وجسده.
2- المريض الذي يقدر على الصوم، لكن بجهد وكلفة ومشقة، بحيث يتأخر برؤه وشفاؤه.
3- أو يزيد مرضه ويتضاعف.
4- الصحيح الذي يخشى بصيامه المرض، خشية جازمة أو غالبة.
فهؤلاء ممن يشملهم معنى المرض المبيح للفطر(31).
وحكمهم حكم العاجز عن الصيام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن (مما ينبغي أن يُعرف: أن الاستطاعة الشرعية المشروطة في الأمر والنهي؛ لم يكتف الشارع فيها بمجرد المُكنة ولو مع الضرر، بل متى كان العبد قادراً على الفعل مع ضررٍ يلحقه، جُعل كالعاجز، في مواضع كثيرة من الشريعة) (32).
أما المريض الذي لا يجد عُسراً أو حرجاً في صومه، فالصوم في حقه واجب، وما به من مرض لا يُبيح له الفطر.
وهذه قاعدة ضابطة في ذلك: (المشقة المُحتملة المعتادة)، فإن لم تكن كذلك؛ جاز معها الفطرُ للمريض.
والجواز واللزوم متناسب مع شدة المشقة وخفتها، فكلما زادت المشقة زاد لزوم فطره.
قال الشافعي: (والحال التي يترك بها الكبير الصوم أن يكون يجهده الجهد غير المُحتمل، وكذلك المريض... وإن زاد مرض المريض زيادة بينّة: أفطر، وإن كانت زيادة مُحتملة: لم يفطر..) (33).
وبالله تعالى التوفيق.
المبحث الثالث
مدرك الخلاف في مناط الإفطار
المطلب الأول
العلة الجامعة لمفسدات الصيام
إن الحديث في هذا المطلب، من مفاصل البحث في نظري، بل أكاد أجزم أن أصل الخلاف القائم بين الفقهاء والباحثين، في المفطرات المعاصرة، لا سيما الطبية منها؛ هو تحرير المعنى الذي أناط به الشارعُ فِطْر الصائم.
ثمة معنى متفق عليه في الجملة بين فقهاء المذاهب، ولا أجد ما يستدعي سرد النقول في ذلك، فقد طرق الموضوعَ عددٌ من الباحثين في هذا المجال، لا سيما أصحاب البحوث التي قدمت للمجمع في دورته العاشرة، التي سبق أن أشرت إليها، وقد ذكروا نصوصاً عن علماء المذاهب الأربعة.
وسأحاول هنا تلخيص النقول وتحريرها، سواءً من كلام العلماء المتقدمين، أو الباحثين المعاصرين؛ من الفقهاء وأهل الخبرة من الأطباء، مع التعليق على ذلك.
من نافلة القول، أن الباب يخلو من علة منصوصة من الشارع، ولم يعد أمام الفقيه سوى تلمس العلة واستنباطها، من خلال مسالك العلة المعروفة في فن الأصول.
ولذلك ينبغي أولاً بيان المفطرات المنصوصة والمجمع عليها، ومن ثم محاولة استخراج العلة الجامعة بينها.
يقول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ(34).
فالأكل والشرب والجماع، من المفطرات نصاً، وهي محل إجماع.
قال ابن قدامة رحمه الله: (يفطر بالأكل والشرب بالإجماع)(35).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (يفطر بالنص والإجماع: الأكل والشرب والجماع)(36).
وجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، لما سُئلت عن صوم الحائض وصلاتها، فقالت: (كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة)، وهذا لفظ مسلم(37).
فالحيض (ويلحق به النفاس) من مفسدات الصوم نصاً، وهو محل إجماع أيضاً.
قال أبو بكر الكاساني معلقاً على حديث عائشة: (والظاهر أن فتواها بلغ الصحابة ولم يُنقل أنه أنكر عليها منكرٌ، فيكون إجماعاً من الصحابة)(38).
وقال ابن تيمية: (ثبت بالسنّة واتفاق المسلمين أن دم الحيض ينافي الصوم، فلا تصوم الحائض، لكن تقضي الصيام)(39).
والاستقاء(40) من مفسدات الصوم بالاتفاق(41).
وإن كان الحديث فيه لا يصح(42)، إلا أن الاتفاق كافٍ.
هذه هي المفطرات المنصوصة والمجمع عليها، وأما المختلف فيه من المفطرات فهو كثير؛ يقوى الخلاف في بعضها ويضعف، كالحجامة، والاستعاط، والاكتحال، والاحتقان، والتقطير، والادهان؛ إلى غير ذلك مما هو متناثر في كتب الفقهاء.
وعماد من يجعل تلك من مفسدات الصيام؛ إما حديث مختلف في صحته، وليس هذا مما نحن فيه، وإما القياس على المنصوص، وهذا محل البحث.
فعَمِد جميع فقهاء المذاهب إلى إناطة الحكم بعلة، ثم طردوا القياس عليها.
وكان مما قيل في علة الإفطار: الوصول إلى الجوف(43)، أو الوصول إلى أي مجوّف(44)، أو استقرار الداخل في الجوف(45)، أو الوصول إلى الدماغ(46)، أو الداخل من منفذ(47)، أما ما يحيل الدواء والغذاء(48)، أو التغذية(49)، أو التقوية(50)، أو التلذذ والشهوة(51)، وغيرها.
وهذا المسلك فضلاً عن عدم استناده إلى نقل، فإن فيه من التوسع، والتضييق على الصائمين، والعُسر في انضباطه، وسهولة انخرامه وتناقضه، ما لا يتوافق وسمة هذا الدين العظيم ويسره، وما لا تشهد له مقاصد الشريعة ونصوصها العامة.
وأسلم منه، ما أشار له أبو بكر الكاساني بتأصيل متين، لم أقف على من أشار إليه من الباحثين، وهو قوله: (ركن الصوم: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع... فلا يوجد الصوم بدونه، وعلى هذا الأصل؛ ينبني بيان ما يُفسد الصوم وينقضه؛ لأن انتقاض الشيء عند فوات ركنه أمرٌ ضروري، وذلك بالأكل والشرب والجماع، سواءً كان صورة ومعنى، أو صورة لا معنى، أو معنى لا صورة) (52).
ولذلك أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية على من توسع في المفطرات، مستنداً على القياس بجامع تلك العلل المستنبطة، بكلام طويل لا يخلو من حدة(53)، ومن أبرز ما قاله راداً على أبرز دليل لهم، قوله: (والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر..لم يكن معهم حجّة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس... وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها؛ لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة)، ثم عضّد كلامه بتأصيل علمي نفيس، من عدة أوجه، يحسن مطالعته والاستفادة منه(54).
وحاصل رأيه: تضييق دائرة المفطرات في الأكل والشرب والجماع وما كان في حكمها صورةً أو معنى، كإدخال الماء عن طريق الأنف، أو بلع الحصاة، أو أكل التراب، أو الاستمناء، أو الحقن المغذية في هذا العصر.
وقد اعتمد هذا الرأي ومشى عليه، جلّ علماء العصر ومفتوهم(55).
المطلب الثاني
الجوف المعتبر في الإفطار
يتكرر مصطلح (الجوف) في كتابات العلماء، عند حديثهم عن مناط إفساد الصوم، ومن عباراتهم المشتركة في ذلك: (إن ما دخل إلى الجوف فهو سبب في إفطار الصائم)، وهذا ما عنيته قريباً من أن ثمة معنى يجتمع فيه العلماء في الجملة، وذلك في تحديد علة فساد الصوم، إلا أنه عند التدقيق، نجد أن تفسيرهم لمرادهم بـ(الجوف) مختلف.
يضيف بعض الفقهاء على هذا المصطلح قيوداً، منها: أن يكون الداخل من أحد (المنافذ)، وهذا من المصطلحات التي تتكرر أيضاً، وسماها بعضهم (المخارق)، ثم يأتي بعضهم ويقيده (بالمنفذ المعتاد)، أو (الواسع)، أو (العالي) (56)، أو (الخَلْقي)، أو (الطبيعي)، وبعضهم يجعله عرياً من الوصف.
إن الجوف مصطلحٌ يشمل أجزاء متعددة، الحد الأدنى منه؛ اتفقوا على دخوله فيه، وتنازعوا فيما عداه.
فالمعدة أقل ما يدل عليه اسم الجوف، وبعضهم زاد عليه التجويف البطني، وهو ما وراء الحلق، وانتهاءً بدبر الإنسان، وهو الذي يطلق عليه الأطباء (الجهاز الهضمي)، وبعضهم غلا حتى جعل جسد الإنسان كله جوفاً، فلو غرز آلة حادة في أي جزءٍ من جسده؛ فسد صيامه!.
ومما يُستغرب إدخال الرأس (الدماغ) في مفهوم الجوف، وجعله أحد الجوفين(57)، وبعضهم قال: إنما أخذ حكم الجوف؛ لأن بينهما منفذاً(58).
ومهما يكن من أمر، فإن العمدة في ذلك الحقيقة الشرعية أو اللغوية أو العرفية، وليس في النصوص ذكر للجوف في باب الصيام(59)، وإنما في مواطن أُخر. كما في قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}(60).
ويظهر من ذلك أن المقصود منه جسد الإنسان وجسمه.
وجاء في السنة جملة أحاديث، منها:
• قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب) (61).
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (لإن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً، خير له من أن يمتلئ شعراً)(62).
• فهذا وما قبله فيما يبدو أن المراد منه صدر الإنسان وقلبه.
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)(63).
• وفي ألفاظه (ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب)، (ولن يملأ فاه إلا التراب)، (ولا يملأ نفس ابن آدم إلا التراب).
• فأطلق الجوف على: العين، والفم، والنفس، وهو إطلاق مجازي كما هو ظاهر.
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع غبارٌ في سبيل الله، ودخانُ جهنم؛ في جوف عبد مسلم، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا) (64)، وفي ألفاظه: (في وجه رجل أبداً)، (في منخري مسلم أبداً)، (ولا يجتمع الشح والإيمان في جوف عبد أبداً).
• وهنا أطلق الجوف على: الوجه، والمنخرين، والقلب.
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخَلِق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) (65)، وهذا صريحٌ في أن المقصود بالجوف هنا القلب.
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم) (66)، وفي لفظ: (ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم).
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (أكثر ما يلج به الإنسان النار؛ الأجوفان: الفم، والفرج) (67).
• وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الله: أن لا تنسوا المقابر والبِلَى، ولا تنسوا الجوف وما وعى، ولا الرأس وما حوى) (68).
وهذا وما قبله فيما يبدو أن المراد منه هنا بطن الإنسان، إشارةً إلى إباحة المطعم(69).
والذي يظهر من خلال التأمل في النصوص النبوية السابقة، أن المقصود بذلك في الأغلب: القلب، وأطلق عليه الجوف مجازاً، أو هو كل ما كان مُجوّفاً.
والذي أميل إليه في هذا المقام: أن الجوف في اصطلاح الشارع له استعمالات متعددة، ومن تلكم الاستعمالات؛ أنه يُطلقه على بطن الإنسان.
والذي يحدد المراد؛ السياق وقرائن الحال.
ولهذا نظائر في الشريعة(70).
وهذا أيضاً ما أَستظهِرُه من صنيع الفقهاء، رحمهم الله، فإن ما يعنونه بـ(الجوف) في باب الصيام، يختلف عنه في باب الحيض، أو باب الرضاع، أو باب الجراح والجنايات، وهو ما يسمى بـ(الجائفة)، وفي جميع هذه الأبواب يستعملون مصطلح (الجوف).
وبذا تعلم ما وقع لبعض الباحثين(71) من خلط في تحديد مفهوم الجوف، فظن أن مرادهم واحد، وليس هذا ظاهراًَ في نظري، والله تعالى أعلم.
على أنه لا حاجة لمُجاراة الفقهاء في تحديد مسمى الجوف، إذ هو من تعبيراتهم التي لم يسبقوا إليها بنص شرعي، فلا نُحاكم تفسير ألفاظهم للنصوص الشرعية.
وهذا ما دعا بعض الباحثين(72) ليتساءل عن مستند ربط الإفطار بالجوف من أساسه، وتشدد بعضهم فرفض هذه العلة، لعدم الدليل عليها من قرآن أو سنة(73). وقد توسط آخرون(74) فقالوا: وإن لم يرد فيه نص، إلا أنه هو المفهوم عرفاً من عنصري الأكل والشرب، وإذا لم يكن ورد بلفظ (الجوف)، فلا نتقيد به، وإنما نلتزم بحقيقة الطعام والشراب.
وهذا هو القول العدل في نظر الباحث، وهو الذي يتماشى مع ما قررناه آنفاً، من الاقتصار على أصل المفطرات وما يدخل في حكمها.
ويبدو أن هذا ما دعى الفقهاء رحمهم الله إلى اعتماد الجوف مناطاً للفطر، لالتصاقه بمعنى الأكل والشرب. وعند التأمل في أقاويلهم ومقارنتها، نرى أنهم في الغالب يقصدون التجويف البطني (الجهاز الهضمي)، وهم وإن لم ينصوا على ذلك صراحة، إلا أن هذا هو مفهوم قولهم ولازمه.
وأبين بإيجاز رأي المذاهب في تحديد الجوف عندهم، فأقول وبالله التوفيق:
الجوف عند الحنفية:
قال أبو حنيفة: (القيء (يفطّر)؛ لأنه لا يخلو عن عود بعضه من الفم إلى الجوف، فكانت الشبهة في موضع الاشتباه فاعتُبِرَت) (75).
وظاهره أنه يعني جميع التجويف البطني (=الجهاز الهضمي).
بدليل اختلافهم في الداخل في الإحليل (مجرى البول)، وسبب الخلاف بينهم: وجود منفذ بين المثانة(76) والجوف من عدمه(77).
وحكمهم بأن الواصل للدماغ مفطّر؛ لأن بينه وبين الجوف منفذاً(78).
وأن الاكتحال (الواصل عن طريق العين) غير مفطّر؛ لأنه ليس للعين منفذ إلى الجوف(79).
الجوف عند المالكية:
قال الإمام مالك: (وإن احتقن بشيء يصل إلى جوفه فأرى عليه القضاء)(80).
وظاهره أنه يعني جميع التجويف البطني (=الجهاز الهضمي).
يعضّده قول ابن عرفة: (تجب الكفارة في إفساد صوم رمضان انتهاكاً له؛ بما يصل إلى الجوف أو المعدة من الفم) (81).
الجوف عند الشافعية:
قال الشافعي: (ولا يستبلغ في الاستنشاق؛ لئلا يذهب في رأسه، وإن ذهب في رأسه لم يفطره، فإن استيقن أنه قد وصل إلى الرأس أو الجوف من المضمضة، وهو عامد ذاكر لصومه فطّره) (82).
وظاهره أنه يعني جميع التجويف البطني (=الجهاز الهضمي).
يؤكّد ذلك، تنصيص النووي على أن اسم الجوف يشمل: (الحلق، والحلقوم، وباطن الدماغ، والبطن، والأمعاء، والمثانة) (83).
والدماغ ليس من أجزاء الجهاز الهضمي بالتأكيد، وإنما جعلوا له حكمه؛ لأن بينهما منفذاً في ظنهم، وهو ما رفضه الطب الحديث، كما سيأتي معنا.
الجوف عند الحنابلة:
قال الإمام أحمد، فيمن تنخّع دماً كثيراً في رمضان: (أجبن عنه، ومن غير الجوف أهون) (84).
وظاهره أنه يعني التجويف البطني (=الجهاز الهضمي).
يؤيّده: تفريق المذهب بين الداخل في الإحليل فلا يفطر؛ لأن ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف، وبين الاحتقان (الداخل في الدبر) فإنه يفطر؛ لأنه واصل إلى الجوف(85).
وصرّح ابن قدامة بأن المراد بالجوف: (ما ينفذ إلى المعدة)، ثم حكم بالفطر على الداخل إلى الجوف عن طريق الدبر بالحقنة(86).
الجوف عند المعاصرين، وترجيح الباحث:
لقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين، لا سيما الأطباء منهم؛ إلى أن الجوف المقصود بالصيام هو (الجهاز الهضمي) (87)، موافقين بذلك جمهور الفقهاء في ذلك.
وإنما مرتكز الخلاف بينهم: قطع ما أدخله الفقهاء في حكم الجوف، لظنهم أن بينهما منفذا، كما قالوا في الإحليل، والمثانة، والدماغ، والعين، والأذن، وهو ما فنّده الطب في العصر الحديث(88).
ونازع بعض الأطباء في تحديده بالجهاز الهضمي، بل يرى أنه (المعدة) فقط(89)، وتبعه على ذلك بعض الباحثين(90).
والخلاف بين من يرى الجوف (المعدة)، وبين من يراه التجويف البطني (=الجهاز الهضمي)، يضيق جداً في الاحتقان، أو كون الدبر والقبل منفذاً، فحسب.
والمعنى اللغوي يؤيد هذا القول، إذ معنى جوف الإنسان في اللغة: بطنه(91).
وظاهر المراد: (المعدة) تحديداً، وليس الجهاز الهضمي من مبتدئه إلى منتهاه.
كما أن المعنى العرفي يعضده، فليس الإدخال عن طريق الإحليل، أو الدبر، أو العين؛ أكلاً أو شرباً، لا حقيقة ولا حكماً.
ويقوي ذلك أيضاً، أن المضمضة وذوق الطعام لا يُفطران، ومحلهما (الفم)، وهو أول أجزاء الجهاز الهضمي، مما يدل أن توسعة مفهوم الجوف، لا تستند إلى دليل.
وبهذا التقرير يتبين إن شاء الله تعالى ضعف من نزع إلى توسيع مفهوم الجوف، وإدخال جملة من المسائل والقضايا في دائرة مفسدات الصيام.
والله تعالى أعلم.
المطلب الثالث
المنافذ المعتبرة في الصيام
إن منافذ جسم الإنسان الطبيعية، تنحصر في:
1- الفم.
2- الأنف.
3- الأذن.
4- العين.
5- الإحليل (مخرج البول من الرجل والمرأة).
6- قُبُل المرأة.
7- الدبر.
8- مسام الجلد، من الرأس وحتى القدمين.
أما الفم والأنف فهو محل اتفاق بين الفقهاء على أنها منافذ معتبرة في الإفطار؛ لأنها طريقٌ إلى الحلق، أما الفم فهو من الظهور ما لا يحتاج معه إلى بيان.
وأما الأنف فظاهر أيضاً، ويدل عليه الحديث المشهور عن لقيط بن صبرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) (92)، فدلّ على أنه منفذ للحلق.
المنافذ عند الحنفية:
يرى الحنفية أن المنافذ المعتبرة، هي المخارق الأصلية: الفم، والأنف، والأذن، والدبر، وأخرجوا العين(93).
وذهب لهذا بعض المعاصرين(94).
المنافذ عند المالكية:
ويرى المالكية أن المنافذ المعتبرة، هي المنافذ العالية سواءً كانت واسعة أم لا: كالفم، والأنف، والأذن، ومسام جلد الرأس. وكذلك المنافذ السافلة، لكن يشترط فيها أن تكون واسعة: كالدبر، وقبل المرأة. بخلاف الإحليل والجائفة وهي الخرق الصغير(95).
المنافذ عند الشافعية:
أما الشافعية فيرون المنافذ المفتوحة هي المعتبرة، فيخرجون مسام الجلد(96).
المنافذ عند الحنابلة:
ولم أقف للحنابلة على وصف، وإنما على عدّ، ولا يرون تلازماً بين اعتبار المنفذ، وكونه منفذاً معتاداً، ولذا أدخلوا في المنافذ: العين، والأذن، والدبر.
بل جعلوا مداواة الجرح، وغرز آلة في الجوف، منفذاً يفطر الداخل منه().
المنافذ عند الظاهرية:
وعند داود الظاهري أن المنفذ المعتبر في الصيام (الفم) فقط(98).
قال ابن حزم: (إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل، والشرب، والجماع، وتعمّد القيء، والمعاصي، وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر، أو إحليل، أو أذن، أو عين، أو أنف، أو من جرح في البطن، أو الرأس، وما نهينا قط عن أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله) (99).
ترجيح الباحث:
إن تحديد المنافذ المعتبرة في الإفطار، مرتبط بما قدمناه سابقاً، في تحديد دائرة الإفطار، في الأكل والشرب، حقيقة وحكماً.
فما كان داخلاً عن طريق المنفذ الأصلي (الحلق)، سواءً كان من الفم أو الأنف، فهو مفطر، ويكون منفذا معتبراً.
وأرى أن (الاعتياد) متلازم مع (الاعتبار)، فما كان منفذاً معتاداً للطعام والشراب، كان منفذا معتبراً يتعلق به الحكم الشرعي في الإفطار.
كما أن رأي الطب الحديث لا بد أن يجري مجراه هنا، ولذا فإني أوافق بعض الأصوات الغيورة التي نادت بأن القطع الطبي باعتبار هذا الشيء منفذاً أم لا، يرفع الخلاف المتقدم عند الفقهاء(100).
وتأسيساً على ذلك، فإن الأذن، والعين، والإحليل (مخرج البول من الرجل والمرأة)، وقُبُل المرأة، والدبر، ومسام الجلد من جميع الجسد؛ ليست منافذ معتبرة للإفطار.
• هل الأوردة الدموية من الجوف المعتبر، أو المنافذ المعتبرة؟
هذا سؤال أفرزته الحياة المعاصرة، والتقدم الطبي الحديث، في وجود الحقن والعقاقير الطبية، وقد طرح هذا التساؤل أحد الباحثين(101)، ويطلب إجابة الطب المعاصر فيه، ولم أقف على من أجاب عنه.
ومن خلال العرض السابق، يمكن أن أسجل هنا رأياً، من باب التفقّه والتنظير، لا الجزم والتقرير، وهو أن هذه الأوردة ليست داخلة في مفهوم الجوف(102) في باب الصيام، الذي عناه الفقهاء، وليس هو بطبيعة الحال، داخلاً أيضاً في معنى الجوف الذي سبق أن رجحناه.
كما أنها ليست منفذاً معتاداً للطعام والشراب الحقيقي للإنسان الصحيح، غير أنه مع تقدم الطب الحديث، باتت الأوردة طريقاً للطعام والشراب الحكمي للإنسان المريض، من خلال الحقن المغذية، بجامع الاكتفاء بها، والاستغناء عن الأكل والشرب بوجودها.
إن ثمة مرضى، رفعهم الله بعافيته، من أصحاب الحوادث الشديدة، والشلل المزمن، أو الإعاقات المتقدمة؛ استمروا ولا زالوا يعيشون على تلك الحقن المغذية مُدداً متطاولة، وقد وقفت على حالة منها في مستشفى النقاهة في الرياض، يعيش عليها منذ أكثر من (22) سنة، والله المستعان.
أعود فأقول: هل هذا يدعو إلى الحكم بكون هذه الأوردة منفذاً معتاداً، وبالتالي:
كل داخلٍ فيها يكون مفطراً؟
هذا ما سنبينه، ونسعى لتجليته في المبحث السادس، إن شاء الله تعالى.
المبحث الرابع
اعتبار رأي الطبيب المعالج وشروطه
إن المفتي في مسألةٍ ما، تستدعي مزيد خبرة واختصاص، لا علاقة بها بالعلم الشرعي في الغالب، وإنما بالعلم التجريبي، أو الفني، أو المهني، ونحو ذلك، هو بمثابة القاضي في الأحكام، يلزمه الرجوع للخبراء، واستشارة أهل الفن والمعرفة.
قال تعالى: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (103).
فلا يخبر المرء بحقيقة الأمر، وبواطنه وغوامضه، مثل من هو عالم بدقائقه، بصير بتفاصيله، ومن كانت هذه حاله وجب الرجوع إليه في ذلك، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما هو مقرر في الأصول.
قال الماوردي: (يرجع الحاكم(104) في التقويم(105) إلى غيره؛ لأن لكل جنسٍ ونوعٍ: أهل خبرةٍ، وهم أعلم بقيمته من غيرهم) (106).
وعقد ابن فرحون في تبصرة الحكام باباً في القضاء بقول أهل المعرفة، وقال: (ويجب الرجوع إلى قول أهل البصر والمعرفة) (107).
وتبعه على ذلك الطرابلسي الحنفي في معين الحكام(108).
ومما يشهد لذلك في السنة؛ اعتبار قول القائف لخبرته وعلمه بهذا الفن.
يقول ابن القيم معلقاً على الاستناد إلى القافة: (والقياس وأصول الشريعة تشهد للقافة؛ لأن القول بها حكمٌ يستند إلى درْك أمورٍ خفية وظاهرة، توجب للنفس سكوناً؛ فوجب اعتباره، كنقد الناقد، وتقويم المقوّم) (109).
فتبين مما تقدم أن المفتي في بعض المسائل، لا يستطيع أن يحرر فتوىً، أو يصدر حكماً شرعياً، بدون تصور المسألة، وإفادة أهل الاختصاص له في ذلك.
ومن ذلك ما طرأ في الطب الحديث، من كثير من الأدوية والعقاقير، وما حصل أيضاً من تنوّع للأمراض وتجددها، وتفاوت أحوالها من حيث الخطورة والتوسط والاعتدال، مما لا يمكن معها إصدار وصفٍ منضبطٍ لها من غير الأطباء المتخصصين في هذه المجالات.
وقد ذهب كثير من الباحثين المعاصرين، إلى أن الأمر في ذلك يعود لتقدير الطبيب ورأيه، في كثير من الحالات، مهما أصدرنا أحكاماً إجمالية، أو أُطراً عامة(110).
وهذا حق، لا ينبغي أن يكون مجالاً للخلاف عليه.
فالحكم على المريض بأن الصوم يضره، أو يؤثر فيه؛ يحتاج إلى طبيب عالج ذات المريض، وتابع حالته التي هو عليها، فتلك قضايا أعيان وأفراد.
يقول أحد الباحثين الأطباء، بعد أن فصّل أحوال مريض السكري مع الصيام: (وبصفة عامة، فإن السماح بالصيام أو عدمه، إضافة إلى تنظيم الدواء وأوقات تناوله، يعود إلى الطبيب المعالج دون غيره) (111).
وقال بعد أن تحدث عن حال الحامل والمرضع مع الصيام: (لا يمكن إطلاق قول حاسم على كل الحوامل والمرضعات، بحيث نقول: إن هناك حامل أو مرضع تستطيع الصيام، وأخرى لا تقدر عليه) (112).
وقال في خاتمة جزلة لبحثه: (إن تقرير إمكانية الصيام أو عدمه ليس بالأمر السهل، ولا يمكن تقرير قواعد عامة لجميع المرضى، بل ينبغي بحث كل مريض على حدة، ولا يتيسّر ذلك الأمر إلا للطبيب المسلم المختص) (113).
وكل ما تقدم يأكّد شأن الرجوع إلى الطبيب، واعتبار قوله، والاستناد إلى رأيه واجتهاده.
إلا أن ذلك ليس حكماً مطلقاً، بل لا بد من توافر شروط، إذا قامت في الطبيب، وجب الرجوع له، منها:
1- الصدق والأمانة.
2- الحذق والمهارة.
3- الإسلام.
وقيل: لا يشترط أن يكون مسلماً، فيجوز ولو كان كافراً.
4- الذكورة.
وقيل: لا تشترط الذكورة، فتكفي الطبيبة.
5- العدد.
وقيل: لا يشترط العدد، فيكفي فيه الواحد.
ومنشأ الخلاف في المسائل المتقدمة(114):
هل (الخبرة) من باب الشهادة أم الرواية؟.
- فمن ذهب إلى أنها من باب الشهادة اشترط لها الإسلام، والذكورية، والعدد اثنين.
وقال بهذا بعض العلماء(115).
- ومن رأى أنها من باب الرواية، أجاز الاستفادة بخبرة الكافر، والمرأة، واكتفى بواحد. وهو اختيار آخرين.
كابن القيم(116)، وبعض المالكية(117).
وذهب إليه جمعٌ من العلماء المعاصرين(118).
وفيما يظهر أن الشرطين الأولين كافيان، وهما الصدق والأمانة، والحذق والمهارة، ولا يضير بعد ذلك كونه كافراً، أو امرأة، أو واحداً، وما من شك أن الطبيب المسلم أفضل، واتفاق طبيبين أبلغ من الواحد، وأبعد عن الغلط والوهم.
ولا يخفى ما في اشتراط هذه الشروط مجتمعة، من ضيق وعنت، لا يقوى عليه كثيرٌ من المفتين، فضلاً عن المرضى المحتاجين لمن يرشدهم، ويبين لهم الحكم اللائق بحالتهم المرضية، وكيف نطالبهم وهم على هذه الحال من الضعف، بطبيبين رجلين مسلمين، مع ما هو معلوم من انتشار مهنة الطب والتمريض بين النساء، وندرة توافر طبيبين يعاينان حالة واحدة من المرضى.
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم استعان بخبيرٍ كافر، في ظرفٍ حالك، وأمرٍ عصيب، ولم يمنعه كفره، من الاستعانة به، والوثوق برأيه، وذلك عندما هاجر من مكة إلى المدينة.
فقد أخرج البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر، استأجر رجلاً هادياً خرّيتاً، والخريت: الماهر بالهداية، وهو على دين كفار قريش، فأمِنَاه؛ فدفعا إليه راحلتيهما، فأخذ بهم أسفل مكة، وهو طريق الساحل(119).
ويظهر من الحديث، أهمية شرطي: (الصدق والأمانة، والحذق والمهارة).
بقي أن يُضاف هنا، أن الطبيب يمكن له مع إنارة الطريق للمفتي؛ أن يرشد المريض بنفسه، إذا كان لديه من العلم الشرعي في مجال الصيام والرُّخص الشرعية، ما يؤهّله لذلك، فمن المتقرر عند المحققين من أهل العلم جواز تجزؤ الاجتهاد.
ولا شك أن إسناد الحكم الشرعي إلى أهله أولى، مُكتفين من أهل الطب والتطبيب؛ تبصيرَ المفتين والفقهاء، بما يحتاجونه من دقائق المهنة الطبية وتفاصيلها، في الحالات المرضية التي تتطلب بيان حكم فقهي، أو فتوى شرعية.
وإنما قصدت من هذه الإضافة؛ لفت انتباه الباحثين، وأنظار المجتهدين، إلى أن ثمة حالات قد تضيق على المريض المستفتي، ولا يجد أمامه من خيار سوى استفتاء الخبير، وهو الطبيب المختص.
وهذا يجعل التبعة على الأطباء الفضلاء أكبر، في سعيهم إلى التفقه في شرع الله تعالى، ما يكفي تأهيلهم لذلك، مُستشعرين مكانتهم، وحاجة الناس لهم.
المبحث الخامس
قضاء المريض للصوم وأحواله
لا خلاف بين أهل العلم في أن من أفطر في رمضان لعذر، أن عليه القضاء؛ لأن الصوم كان ثابتاً في ذمته، فلا تبرأ منه إلا بأدائه، وهو لم يؤده بعد(120).
والمريض مرضاً يباح له الفطر، كما قدمنا تفصيله، له في مقام القضاء حالان:
1- أن يكون مريضاً لا يُرجى برؤه:
وهو من به مرض، يحكم الأطباء بصعوبة شفائه، أو استحالة ذلك، وغالباً ما يكون هذا في الأمراض المستعصية، أو مرضٍ في مراحلِهِ المتأخرة، ومن ذلك بعض حالات مرض السكري.
ويكون الصوم -مع مرضه- لا يستطيعه إلا بضررٍ ومشقة، وذلك في جميع فصول السنة، فلا يقوى عليه لا أداءً ولا قضاءً؛ فهذا حكمه أن يُفطر، ويطعم عن كل يومٍ مسكيناً، وهذا قول جمهور الصحابة والعلماء(121).
فإن شاء الله وشُفي، وقَدِر على الصيام، فهل نُلزِمه بذلك؟.
ذكر ابن قدامة فيه احتمالين(122):
الأول: أنه لا يلزمه؛ لأن ذمته قد برئت بأداء الفدية التي كانت هي الواجب عليه، فقد أتى بما أمره الله به على الوجه المشروع، فلا يُكلّف فوق ذلك.
الثاني: أنه يلزمه القضاء؛ لأن الإطعام بدل عن الصيام، ولا يجزئ الاكتفاء بالبدل مع وجود المبدل منه.
والأول أقوى؛ لقوة مأخذه ومنـزعه.
وفي ذلك جملة من النظائر، ينسحب عليها حكم واحد، حريٌ بالفقيه أن يتأملها كثيراً، قبل إصدار حكم فيها؛ لئلا تضطرب أقواله وفتاويه.
2- أو يكون مريضاً يُرجى برؤه:
وهذا تحته أحوال:
- كالمريض الذي فاجأه المرض في رمضان، فيستطيع الصوم قضاءً حال شفائه منه.
- ومنه المريض مرضاً مزمناً، لكنه يستطيع الصوم في بعض فصول السنة دون بعضها الآخر، فهذا يفطر ويقضي في الأوقات التي لا تشق عليه.
- ومنه المريض الذي تتجدد حالة مرضه وتتردد بين الخطورة ودونها، فهذا يفطر في حال اشتداد حالته، ويقضي في حال خفتها وهدوئها.
ونحو ذلك من الصور.
والحكم فيه أن له الفطر، ولا يجب في حقه إطعام، بل الواجب في حقه الانتظار حتى يقدر على الصيام، أو يتحرى الأوقات والأحوال التي يستطيع معها قضاء الصوم.
يقول ابن قدامة رحمه الله: فإن رجا المريضُ البرء؛ (فلا فدية عليه، والواجب انتظار القضاء، وفعله إذا قدر عليه، لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (123)، وإنما يُصار إلى الفدية عند اليأس من القضاء} (124).
المبحث السادس
الضوابط الشرعية لـ: (المريض)، و(المرض)، و(الدواء)؛ في مجال الصيام
لقد دعا جملة من الباحثين(125) للاتجاه إلى التأصيل العلمي، ووضْعِ الأطر والضوابط والمعايير الشرعية، في موضوع المفطرات في مجال التداوي، التي يمكن أن يهتدي بها الباحث والفقيه والمفتي، ويصدر عنها في أقواله وأحكامه وفتاويه.
وهذا المسلك أنفع بكثير من سرد الأمثلة والصور؛ وذلك لاختلاف المجتهدين، وتنوع المخترعات الطبية الحديثة وتجددها، التي تختلف في تركيباتها، وأشكال تعاطيها، اختلافاً يؤثر في الحكم الشرعي، مما لا يدركه إلا الفقهاء والباحثون.
ومن أشد ما يُشكل؛ استمرار العوام وأنصاف المتعلمين؛ الاعتماد على فتاوى سابقة، أو قرارات مجمعية، في الحكم بتفطير هذا أو ذاك، غير مدركين لحقيقة التحول التي طرأت في صفة الدواء أو طريقة تناوله.
ولذا فأعيد التأكيد على ما قررته في مقدمة البحث، من ضرورة اتجاه هذا المجمع الموقر، إلى اعتماد ضوابط شرعية في ذلك، حين إصداره قراراً في الموضوع.
وهذه محاولة من الباحث في ذلك، استفدتها من التأصيل المتقدم للبحث، وما ذكره الفقهاء والباحثون، من تقارير وتعاليق متينة، جاءت في ثنايا بحث موضوع (المفطرات في مجال التداوي)، التي تناولها المجمع بالبحث والنقاش، في دورة سابقة(126).
فأقول وبالله التوفيق:
• لا بد في الحكم بجواز الإفطار أو وقوعه، من عدمهما؛ من مراعاة الضوابط التالية:
أولاً: المرض والمريض:
1- المريض الذي لا يقدر على الصوم بحال؛ يجب عليه الإفطار.
2- المريض الذي لا يقدر على الصوم إلا بمشقة غير معتادة؛ يجوز له الإفطار. سواء نتج عن هذه المشقة تأخر البُرء، أو مضاعفة المرض.
3- المرض الذي يُخشى (يقيناً أو غالباً) حصوله بسبب الصيام؛ يجوز معه الإفطار.
4- المريض الذي تحصل له مشقة محتملة معتادة بسبب الصيام؛ لا يُباح له الإفطار.
ثانياً: الدواء:
5- كل ما كان في حكم الأكل والشرب، صورةً أو معنى؛ فهو مُفطّر.
صورة: أي ما كان عن طريق المنفذ المعتاد (الفم والأنف).
ومعنى: بحيث يستغنى به مطلقاً عن الطعام والشراب.
ففي حكم الأكل والشرب صورةً: تناول الأقراص والكبسولات الطبية، وبلع الحصاة، وأكل التراب والرماد، فلا يشترط أن يكون أكلاً معتاداً، بل يكفي توافر صورة الأكل أو الشرب فيه.
وفي حكم الأكل والشرب معنىً: الحقن والعقاقير المغذية، التي تقوم مقامهما، في حال الاكتفاء بها، وغالباً ما تكون مقصودة لذاتها.
فيخرج من هذا المواد المصاحبة لبعض الحقن، أو التحاميل، أو اللصوقات، وتحوي قيمة غذائية، كالماء أو السكر؛ فإن هذه لا تفطر؛ لأنها ليست أكلاً؛ لا صورةً (وهذا ظاهر)، ولا معنىً (فلا يمكن الاستغناء بها عن الأكل والشرب). وسيخرجها قيد آخر كما سيأتي.
6- الجوف المعتبر في مجال الصيام: (معدة) الإنسان، فكل دواءٍ داخلٍ إليها؛ فهو مُفطّر.
لأن الداخل إليها لا يخلو:
- أن يكون أكلاً وشرباً حقيقةً، وهذا قد وقع الإجماع على أنه مفطر.
- أن يكون أكلاً وشرباً صورةً، كتناول الأقراص الطبية العلاجية.
- أن يكون أكلاً وشرباً صورةً ومعنىً، وهذا يتصوّر فيما لو كان ثمة أقراص طبية، أو كبسولات، يستغني فيها المريض عن الأكل والشرب. فهذه الحبوب ليست أكلاً حقيقياً، ولكنها في حكمه لاجتماع الصورة والمعنى فيه.
7- الدواء الداخل إلى المعدة، لا بد أن يكون مستقرِّاً فيها؛ ليكون مفطراً.
وإنما شرطنا الاستقرار، كما تقدم في قول بعض الفقهاء؛ ليتحقق حكم الأكل والشرب فيه.
فيخرج بهذا القيد: منظار المعدة مثلاً، فهو لا يستقر فيها.
8- كل دواءٍ داخلٍ للمعدة، مستقرٍّ فيها، لا بد أن يخرج عن حدود اليسير جداً، والمعفو عنه شرعاً؛ ليكون مُفطراً.
وإنما اشترطنا هذا القيد، لوجود قرائن شرعية تدل على هذا، فقد قررنا أن العلة الجامعة لمفسدات الصيام، هي: كل ما كان في حكم الأكل، والشرب، والجماع؛ صورةً ومعنىً.
وقد رأينا الشارع قد سهّل في اليسير مما يدخل في ذلك، ففي الأكل والشرب: تسامح في دخول أجزاء يسيرة جداً من الماء إلى المعدة من أثر