"داء الحسد" خطبة للشيخ البدير بتصرف
عبدالرحمن اللهيبي
الحمد لله الواحد الأحد ، حرَّم الظلم والبغي والحسد، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، من أطاعه فقد رشد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما سجد ساجد لمولاه واجتهد.
أمَّا بعدُ، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقِبوه ؛ فإن الرزق مقدَّر، والأجل مسطَّر؛ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
أيها المسلمون: إن من الأدواء المهلِكة داء الحسد، والحسد هو أن يرى الرجلُ لأخيه نعمةً من مال أو منصب أو علم أو شهادة أو وظيفة أو جمال أو أولاد فيتمعر الحاسد لذلك ويتبرم ، ويحترق في داخله ويتألم حتى أنه ليتمنى في نفسه زوال النعمة عن أخيه وانتقالها إليه.
فحاسدُ النعمة في حقيقته ساخط على ربه لا يرضى بقضاء، ولا يقنع بعطاء ، فهو بحسده لأخيه كأنه يعترض على الله في عطائه ومشيئته، ويغتاظ من فضل الله وقِسمته، وهو جاهل بالله وحكمته..
ألَا قُلْ لِمَنْ كان لي حاسِدًا *** أَتَدْرِي على مَنْ أسأتَ الأدَبْ
أسأتَ على الله في فِعله *** لأنَّكَ لم ترضَ لي ما وَهَبْ
أيها المسلمون: الحسدُ داءُ الجسدِ ، فالحاسد مغموم مكلوم؛ حُزنه لازمٌ، وتعَسه دائمٌ، وحسرته لا تنقضي، وغمٌّه لا ينقطع، فالحسد ينقص العمر ، ويشتت الفكر
قال الأصمعي: "رأيتُ شيخًا بالبادية، له مئة وعشرون سنة وفيه صحة وعافية، فسألتُه عن طول عمره وعافيته فقال: تركتُ الحسدَ؛ فصح الجسدُ" .لله در الحسد، ما أعدله! * بدأ بصاحبه فقتله
أيها المسلمون: ومن زكت نفسه ، وسَمَتْ روحه ، وصلح قلبه ، وصدق إيمانه ، وحسن إسلامه لم يجد في قلبه غيظًا ولا حسدًا على ذي نعمة من الناس .. بل يرجو لهم الخير ويدعو لهم بالبركة ، ويسأل الله الذي أعطاهم أن يمنحه أيضا من فضله ورزقه .. فإن الله سبحانه هو واهب الأرزاق والعطايا ، ومانح النعم والجزايا ، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، وليس للعبد إلا الرضا عن ربه دون تسخط ولا اعتراض ولا جزع ، ومن قنَّعه الله بما أعطاه .. فقد أوتي من الخير أعظمه وأوفاه
قال تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (
أيها المسلمون: لقد ذم اللهُ الحاسدينَ ، وقبح صنيعَهم فقال جلَّ في علاه : أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
فالحسد يا مسلمون من الذنوب العظام ، والكبائر الجسام؛ فهو يأكل الحسنات ، ويديم على صاحبه الحسرات
فيا حسرةَ على مَنْ جاد بدِينِه وحسناته وقَدِمَ على ربه يوم القيامة فقيرًا حقيرًا مُفلِسًا ، قال ﷺ "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا "(مُتَّفَق عليه) ، وقال ﷺ "لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا"
أيها المسلمون: ومَنْ أرسَل طرفَه عاليا ينظر دائما لمن فوقه ، فقد طاش عقلُه، وساء فِعلُه، وأضحى أسيرًا لأمانيه
قالَ اللهُ تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، وقال ﷺ: (انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ) متفقٌ عَلَيْهِ
أيها المسلمون: ما خلَا جسدٌ من حسد، ولا يكاد يسلم مسلم من داء الحسد
قيل للحسن: يا أبا سعيد، هل يَحسُد المؤمنُ؟
فقال: ما أنساكَ بني يعقوب حيث حسدوا يوسف؟
ولكن الكريم يُخفيه، واللئيم يبديه .. فمَنْ وجَد في نفسه حسدًا فليخفيه ولا يبديه ، وليدعو بالبركة لأخيه ، حتى لا يضره بعين حاسد فيرديه ..
فمن كاد لأخيه المسلم بحسد .. كاد الله به وابتلاه الله بالمكروه والفقر فالله تعالى يقول : ( ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله )
والحسد من البغي العظيم والظلم الكبير الذي يعود على صاحبها بعاجل العقوبة في الدنيا قبل الآخرة ، قال ﷺ : (ما من ذنبٍ أجدرُ أن يعجِّل اللهُ تعالى لصاحبه العقوبةَ في الدنيا، مع ما يدِّخر له في الآخرةِ مثل البغيِ وقطيعةِ الرحمِ)
أقول ما تسمعون وأستغفِر الله فاستغفِروه
إنَّه كان للأوابينَ غفورًا.
أيها المسلمون: وإذا رأيتم الحساد وخفتم من مكرهم وأعينِهم فاستعِيذوا بالله من شرهم، ولُوذوا بالله من مكرهم، وتحصَّنوا بالأذكار من غدرهم، وتحرَّزوا بالأوراد من غوائل حسدهم، واستغنوا عن مجالستهم، وأخفوا النعم عليهم .. فإن أشد الأعين ضررا هي عين الحاسد الخبيث ، ومتى حافظتم على الأوراد والأذكار فقد أمنتم من شرهم ، فانتم حينها في حفظ الله وحرزه فاطمئنوا ولا توسوسوا
نعم أيها المسلمون: إن التحدُّث بالنعم من شكرها، والله تعالى يقول : (وأما بنعمة ربك فحدث) ولكن متى خَشِيَ المسلمُ نفوسَ الحاسدين وعيون الحاقدين كتم وأخفى النعم عليه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس للمحسود أسلمُ من إخفاء نعمته عن الحاسد، وقد قال يعقوب ليوسف -عليهما السلام-: لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ) انتهى كلامه -رحمه الله
أيها المسلمون: ومَنْ أعجَبَه شيءٌ من حال أخيه، أو ماله، أو ولده، أو حال نفسه وولده ، فليذكر الله وليبرك؛ لحديث سهل بن حنيف -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعامر بن ربيعة: علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك برَّكتَ؟
والتبريك هو الدعاء بالبركة، فتقول: بارَك اللهُ عليك، وبارَك لكَ، وبارَك فيكَ
نسأل الله تعالى أن يحفظنا جميعًا من حسد الحاسدين، وحقد الحاقدين، وكيد الكائدين، ومكر الماكرين، وظلم الظالمين، وبارك لنا وفينا وعلينا من بركاته المتتابعة والدائمة إلى يوم الدين.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على ...