داءٌ أصابَ كثيرًا منَ الناسِ,

عاصم بن محمد الغامدي
1444/09/09 - 2023/03/31 09:28AM

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزَّ إلا في طاعَتِهِ، ولا سعادةَ إلا في رضاهُ، ولا نعيمَ إلا في ذِكْرِهِ، الذي إذا أُطيع شَكرَ، وإذا عُصِيَ تابَ وغَفَرَ، وإذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذَ به أعاذ، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

فاتقوا الله تعالى -أيها الناس-؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

ها هو ثلث الشهر يمضي، والثلث كثير، كمْ جاءَ الثوابُ يَسعَى، ووقفَ بالبابِ، فردَّه ‌بوَّابُ (‌سوفَ) و(لعلَّ) و(عسى).

عباد الله:

الغفلةُ: تركُ ما لا يسوغُ تركُه، وعدمُ الشعورِ بما يجبُ الشعورُ بهِ، وهيَ داءٌ أصابَ كثيرًا من الناسِ، ﴿‌وَإِنَّ ‌كَثِيرًا ‌مِنَ ‌النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾، ونقيضُها الذِّكرُ، كما نبه الله سبحانه عليه في أكثرَ من موضعٍ في كتابه، كقوله جل جلاله: ﴿‌وَلَا ‌تُطِعْ ‌مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾.

والغفلةُ مفتاحُ الشرورِ، وسببٌ لحِرمانِ المسلمِ من كثيرٍ منَ الأجورِ، ولما استحكمتْ على الكافرينَ، أوجَبَت لهمُ الخلودَ في النارِ والعياذُ بالله، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ ‌الْغَافِلُونَ﴾، وَبَيْنَ وَصْفِهِمْ في الآيةِ بالغافِلينَ، وبأنَّهمْ أضلُّ مِنَ الأنعامِ مناسبةٌ، فإنَّ الأنعامَ لا تتركُ مَا تحتاجُ إليهِ في حياتِها، أمَّا هؤلاءِ فتركوا ما لا تَنقضِي الحاجةُ إليهِ في الآخرةِ، منَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ.

ويكفي في التأكيدِ على خطر الغفلة أن الله سبحانه نهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون من أهلها ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ ‌الْغَافِلِينَ﴾.

وبينَ الغفلةِ والنسيانِ تداخلٌ، فكلاهما تركٌ، لكنَّ النسيانَ تركٌ بغيرِ اختيارِ الإنسانِ، والغفلةَ تركٌ باختيارِهِ، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾، ولم يقلْ ولا تكنْ من الناسينَ؛ لأنَّ النسيانَ لا يدخلُ تحتَ التكليفِ فلا يُنهى عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌وَضَعَ ‌عَنْ ‌أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

إنَّها من أعظمِ أمراضِ القلوبِ، التي تصيبُ من شَغلتْهُ الدنيا عنِ الآخرةِ، وأبعَدَتْهُ المباحاتُ عن الطاعاتِ، فأصبحَ لاهيًا، تفوتُه صلاةُ الجماعةِ أكثرَ مما يدركُها، وتمرُّ به أغلبُ ليالي العامِ دونَ أن يوترَ ولو بركعةٍ، وتنقضي الشهورُ تِلوَ الشهورِ ولم يختِمْ كتابَ الله ختمةً، وتمرُّ دقائق أيامه وثوانيه وهو لا يذْكرُ اللهَ إلا قليلاً، وعلى قدرِ غفلةِ العبدِ عنِ الذِّكْرِ، يكون بُعْدُهُ عنِ الله، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ ‌تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ ‌قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ ‌تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ». والمقصود بالتِّرَةِ الحسرةُ والندامةُ.

والمخيفُ أنَّ المستمرَّ في غفلتِهِ، الذي لا يبذلُ ما يجبُ للخلاصِ منها، قد يعاقبه الله بمزيدٍ من الغفلة، قال صلى الله عليه وسلم: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ من ‌الغافلين».

وإنَّ من أكثرِ أسبابِ الغفلةِ، كثرةَ الاشتغالِ بالمباحاتِ، ألمْ تسمعْ قولَهُ صلى الله عليه وسلم: «‌مَنْ ‌سَكَنَ ‌البَادِيَةَ جَفَا، وَمَنْ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ افْتَتَنَ»، فالصيدُ في أصلِه مباحٌ، وقد يكونُ واجبًا إذا كان لا يجد طعامًا لنفسه أو لأهله إلا ما يصيده، ومع ذلك فإن قضاءَ الشخصِ أكثرَ وقتِه في الصيدِ بلا ضرورةٍ يصيب بالغفلة عن مصالحه، ومثلُه من يقضي أغلبَ وقتِهِ في تتبعِ رسائلِ هاتِفِهِ، وبرامجِ المشاهيرِ في وسائلِ التواصلِ، وغيرِهَا منَ المباحاتِ، فتزيدُ غفلتُه وهوَ لا يشعرُ، هذا في سائر العام ناهيك عنه في رمضان، وأخطر منه غشيانُ المحرماتِ، الموجبةِ لغضبِ الجبارِ سبحانَه، المنذرةِ بعدمِ تحقيقِ مقاصدِ الشهرِ الكريمِ، قال صلى الله عليه وسلم: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ».

وإنَّ آثارَ الغفلةِ ظاهرةٌ على عبادةِ بعضِ الناسِ، إذ يؤديها بقلبٍ لاهٍ غافلٍ، ولا يجاهد نفسَهُ على إتقانها؛ لأنَّ غفلتَه أقوى وأمضى وهو لا يشعرُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ ‌غَافِلٍ لَاهٍ».

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:

فإنَّ صلاةَ الليلِ شرفُ المؤمنِ، وهي صلاةُ الخاشعينَ والقانتينَ لله ربِّ العالمينَ، تأمَّل أيها المباركُ قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ‌قُلْ ‌هَلْ ‌يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

فالقانتُ: العابدُ، وقد ذكرتِ الآيةُ أربعةَ أحوالٍ لهُ، حالانِ يصفانِ عبادةَ ظاهرِهِ، وهما السجودُ والقيامُ، وحالانِ يصفانِ عبادةَ قلبِهِ وهمَا حذرُ الآخرةِ، ورجاءُ رحمةِ ربِّهِ، فهوَ بينَ الخوفِ منْ سيئاتِهِ وفلتَاتِهِ، وبينِ الرجاءِ لرحمةِ ربِّهِ أن يثيبهُ على حسناتِهِ.

فإذا تأمل الموفقُ هذا، علِم أن من أعظمِ الغفلةِ، التفريطَ في قيامِ الليل، لا سيَّما في شهرِ رمضانَ المباركِ، الذي وردَ في فضلِ قيامِهِ مزيدُ عنايةٍ واهتمامٍ، فقد كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ أصحابَه فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، ثُمَّ يَقُولُ: «‌مَنْ ‌قَامَ ‌رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وإذا كان ترْكُ قيام الليلِ في غيرِ رمضانَ مذمومًا، ويعدُّ فاعلُه من الغافلين، فكيف بترك القيام في رمضانَ؟

إن قيام الليلِ دأب الصالحين، وشرفُ المؤمنينَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «‌مَنِ ‌اسْتَيْقَظَ ‌مِنَ ‌اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، كُتِبَا مِنَ ‌الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ»، والقائمونَ في الليلِ درجاتٌ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ ‌مِنَ ‌الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِئَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ»، والقانتون هم المواظبون على الطاعة، والمُقَنْطِرُونَ: الذينَ أُعطوا قنطارًا من الأجرِ، والعربُ يقولون: قَنْطَرَ الرجلُ، إذا بلغ مالُه مقدارَ مئةِ ألفِ دينارٍ منَ الذهبِ.

ألا فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله عياذًا بالله، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في سائر أيامكم من طاعته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.

 

المشاهدات 1140 | التعليقات 0