خير نساء العالمين (1) مريم ابنة عمران.

عبد الله بن علي الطريف
1437/02/22 - 2015/12/04 20:01PM
خير نساء العالمين (1) مريم ابنة عمران. 22/2/1437هـ
الحمد لله القائل: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام:101] وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:42] اختارها الله على سائر نساء العالمين، وهو الحكيم باختياره فقد حَبَها بصفات حميدة وأفعال سديدة، وطهرها من الآفات المنقصة، فشكرت ربها وكانت من القانتات المداومات على الطاعة في خضوع وخشوع، ساجدة راكعة مع الراكعين, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمامُ المتقين وسيدُ ولدِ آدمَ أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد أيها الإخوة اتقوا الله تعالى وأطيعوه واحرصوا على معرفة سِيَرِ أنبيائِه وأوليائِه فإنَّ معرفتها تزيد بالإيمان وتذكي بالنفس محبتَهم والاقتداءَ بهم وهو من طاعةِ الله ورسولِه وطاعتهما سبب لمرافقة خيار الناس أجمعين قال تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69]. اللهم اجعلنا منهم يا كريم..
أيها الإخوة: ومن عباد الله الصالحين مريم ابنة عمران رضي الله عنها، وهي الشريفة الطاهرة العفيفة التي أحصنت فرجها وحافظت على عرضها وأطاعت ربها فكانت من القانتين.. مريم رضي الله عنها التي تبوأت مكانةً عظيمة في الإسلام فذُكِرت في القرآن باسمها الصريح أربعًا وثلاثين مرة دون غيرها من النساء، فلم يذكر امرأة باسمها الصريحِ غيرِها.. وفي كتاب الله سورة من القرآن باسمها تعظيمًا لها، ويجل المسلمون مريمَ رضي الله عنها ويبرئونها من كل سوء، ويسمون بناتهم باسمها، ولا يذكرونها إلا ويعقبون ذكرها بالترضي عنها أو السلام عليها.. ولا يُصورون مريم ولا يرسموها، على الرغم من وجود بعض الرسومات لها بل ويعدون ذلك انتقاصاً من قدرها.
وأثنى عليها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما ثبت في الصحيح فقال: خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ. (أي نساء الدنيا في زمانها) رواه البخاري عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ. رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسى رضي الله عنه. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ.» رواه الترمذي وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وصححه الألباني عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وضربها الله تعالى مثلاً للذين أمنوا ووصفها بالعلم والمعرفة والصديقية: وهي كمال العلم والعمل.. وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ أي: المطيعين لله المداومين على طاعته بخَشْيَةٍ وخشوعٍ قال الله تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ). [التحريم:12]
أيها الإخوة: من هي مريم وما قصتها.؟ لقد قص الله قصتها في كتابه الكريم بشيء من التفصيل في سورتي آل عمران ومريم، وحسبك به فمن أصدق من الله قيلاً، ومن حكمته تعالى أنه اصطفى آدم عليه السلام واخلص من ذريته المتبعين لشرعه والملازمين لطاعته، ثم خصص فقال (وآل إبراهيم) فدخل فيهم بنو إسماعيل وبنو إسحاق.. ثم ذكر فضل هذا البيت الطاهر الطيب وهم آل عمران والمراد بعمران هذا أبو مريم عليها السلام وهو من ذرية سليمانَ بنِ داودَ عليهم الصلاة والسلام. وكان أبوها عمران صاحبُ صلاةِ بني إسرائيل في زمانه، وأمها حنة بنت فاقود من العابدات.. وزكريا عليه السلام نبيُ الله في ذلك الزمان وهو زوج أخت مريم اشياع في قول الجمهور وقيل زوج خالتها..
وذكر بعض المؤرخين أن أم مريم كانت لا تحبل فرأت يوماً طائراً يُزِقُ فرخاً له فاشتهت الولد فنذرت لله أن حملت لتجعلنَّ ولدَها محرراً أي حبيساً في خدمة بيت المقدس، وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداماً من أولادهم؛ فاستجاب الله لها فحملت بمريم عليها السلام.. (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران:36] قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) رواه البخاري ومسلم وعند أحمد قَالَ: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كُلُّ إِنْسَانٍ تَلِدُهُ أُمُّهُ يَلْكُزُهُ الشَّيْطَانُ فِي حِضْنَيْهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ وَابْنِهَا، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الصَّبِيِّ حِينَ يَسْقُطُ كَيْفَ يَصْرُخُ.؟" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "ذَلِكَ حِينَ يَلْكُزُهُ الشَّيْطَانُ بِحِضْنَيْهِ" حديث صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وبعد إرضاعها وكفالة أمثالها في صغرها سلمتها إلى العباد المقيمين ببيت المقدس ولما كانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم فتنازعوا فيها أيهم يكفلها وكان زكريا نبيهم في ذلك الزمان يريد أخذها دونهم من أجل أن زوجته اختها أو خالتها على القولين فشاحوه في ذلك وطلبوا أن يقترع معهم فخرجت قرعته غالبة لهم قال الله تعالى: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) أي بسبب غلبه لهم في القرعة كما قال تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران: 44] واتخذ لها زكريا مكانا شريفا من المسجد لا يدخله سواه، فكانت تعبد الله فيه، وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت إذا جاءت نوبتها وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل، واشتهرت بما ظهر عليها من الاحوال الكريمة والصفات الشريفة حتى أنه كان نبي الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقا غريبا في غير أوانه فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فيسألها ويقول: (يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران:37] اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً يا كريم...
الثانية
أيها الإخوة: ثم يذكر تعالى أن الملائكة بشرت مريم باصطفاء الله لها من بين سائر نساء عالمي زمانها فقال سبحانه: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:42] ويلاحظ هنا تكرار كلمة الاصطفاء. والمقصود بالإصطفاء الأول هو إبلاغ مريم أن الله ميزها بالإيمان، والصلاح والخلق الطيب، ولكن هذا الاصطفاء الأول جاء مجردا عن "على" أي أن هذا الاصطفاء الأول لا يمنع أن يوجد معها في مجال هذا الإصطفاء آخرون، ثم أورد سبحانه أنه طهرها، وجاء من بعد ذلك بالاصطفاء الثاني المسبوق ب "على" فقال: (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) وهذا خروج للرجال عن دائرة هذا الاصطفاء، ولن يكون مجال الاصطفاء موضوعاً يتعلق بالرجولة؛ فهي مصطفاة على نساء العالمين، فكأنه لا توجد أنثى في العالمين تشاركها هذا الاصطفاء. لماذا؟ لأنها الوحيدة التي ستلد دون ذكر، وهذه مسألة لن يشاركها فيها أحد..
أحبتي: نعم أي اصطفاء هذا الذي اختارها الله تعالى له.؟! لقد اختارها لتلقي النفخة كما قال سبحانه (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) كما تلقاها أول هذه الخليقة آدم عليه السلام قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:28،29] وعرض هذه الخارقة على البشرية من خلالها وعن طريقها.! نعم إنه اصطفاء لأمر مفرد في تاريخ البشرية.. وهو بلا جدال أمر عظيم..
مع أنها رضي الله عنها حتى ذلك الحين لم تكن تعلم عن ذلك الأمر العظيم شيئاً.!
أيها الإخوة: لقد اختارها الله تعالى لمهمة شاقة.! شاقة في نوعها وشاقة في آثارها. اختارها لإيجاد ولد منها من غير أب..! لكن الله تعالى أكرمها وبشرت بأنه سيكون نبيا شريفا (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران:45،46] أي في صغره يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وكذلك في حال كهولته فدل على أنه يبلغ الكهولة ويدعو إلى الله فيها وأمرت بكثرة العبادة والقنوت والسجود والركوع لتكون أهلا لهذه الكرامة ولتقوم بشكر هذه النعمة فيقال إنها كانت تقوم في الصلاة حتى تفطرت قدماها رضي الله عنها ورحمها ورحم أمها وأباها.. ورحمنا معهم إنه جواد كريم وللحديث بقية..
المشاهدات 1689 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا